صور من تأذّي الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم 21
من عادتي منذ أكثر من أربعين سنة أنني أقرأ كل يوم جزءاً من القرآن الكريم، فقرَّ رأيي أن أقرأ في الشهر التالي نوفمبر، تشرين الثاني الجزء المقرر كل يوم، وأعيِّنُ الآيات التي يَرِدُ فيها إيذاء المشركين واليهودِ وضعافِ الإيمانِ من المسلمين للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أعود إلى التفاسير أجمع منها صوراً توضح ما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من إرهاق وإيذاء وعنَت صبَّه هؤلاء على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، فكان القدوةَ في تحمُّل الأذى والتصرف حياله، واللجوءِ أولا ً وأخيرا ً إلى الله تعالى فهو مانع رسول الله وهو عاصمه
سورة المُجادِلة(1)
[ الآية 8]
( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ)
في هذه الآية:
ا- أن اليهود يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم للاستماع إليه، والتعرف على أحوال المسلمين وإيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم .
2- أن اليهود لخبثهم يوهمون النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يحبونه، ولكن الله كشفهم لرسوله فإذا بهم يدعون عليه، ويرد عليهم رسول الله الدعاء نفسه.
3- أن اليهود على علمهم برسالة النبي صلى الله عليه وسلم وقد ورد في آيات أخرى تؤكد ذلك ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ) (1) يخدعون أنفسهم فينفون عنه
النبوَّة حين يطلبون العذاب السريع لدعائهم على النبي صلى الله عليه وسلم.
4- هذا التحدي (لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ) (2) يوضح عداءهم السافر لله ورسوله، وأنهم يحادون الله ورسوله فوجب عقابهم.
5- بالإضافة إلى هوانهم في الدنيا على رسول الله والمسلمين ينتظرهم عذاب جهنَّهم يصلونها وهذا مصير بئيس لا مناص منه. فقد ورد أن اليهود كانوا إذا جاءوا الرسول عليه الصلاة والسلام يدفعهم سوء أصلهم وخبث نفوسهم إلى تحوير السلام وهو دعاء بالأمن والسلام من الله تعالى- إلى دعاء بالموت والهلاك فيقولون: السام عليكم. وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم عرَّف السام بالموت في الحديث " الحبَّةُ السوداء دواء كل داء إلَّا السام، أو كما قال، فالسام الردى والموت. ولم يكن الرسول عليه الصلاة والسلام- وهو يسمع مقالتهم ويعرف مقصدهم- ليثور في وجوههم أو يشنع عليهم لأن الداعية يجب أن يكون هادئ الأعصاب، ساكن النفس! ليصل إلى قلوب الناس وأفئدتهم، والثائر يفشل في ذلك، بل كان يرد عليهم
بجلال النبوة وسمو الرسالة " وعليكم "، أو كان يقول مثلهم
" السام عليكم "، وأمر أصحابه الكرام فقال: "إذا سلَّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: عليك ما قلت".
وقد سمعت عائشة رضي الله عنها ما قاله اليهود الملاعين لرسول الله عليه الصلاة والسلام، فقالت- وهي الصبية المتحمسة لدينها ورسول الله وزوجها وأسوتها-: السام عليكم وفعل الله بكم وفعل،
فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم العارف بالأمور، الذي يضعها في نصابها، إلَّا أن قال: مَه÷ يا عائشة فإن الله لا يحب الفحش والتفحش.. ما أعظمك يا رسول الله!! حتى في الرد على أعدائك الظالمين تلتزم الأخلاق ولطف الرد صلَّى الله عليك، ما أكرمك وما أحَسنَ خلقك، فلما اعترضت الصديقة بنت الصديق: يا رسول الله ألست ترى ما يقولون؟! فقال بلهجة الواثق بالله الموقن بان ربه يدافع عنه وعن المؤمنين: ألستِ ترين أني أرد عليهم ما يقولون، أقول وعليكم"، فهم يدعون على النبي صلى الله عليه وسلم ودعاؤهم غير مستجاب لكفرهم وضلالهم، وهوصلى الله عليه وسلم يرد عليهم الدعاء، فيستجب الله تعالى لدعائه فتصيبهم اللعنة والخسران أبد الآبدين..
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يكلهم إلى الله، فعذابه العذاب الشديد، وانتقامه رهيب.. ومن يدعو عليهم؟ إنه رسول الله أحب خلق الله إلى الله صلى الله عليه وأكرمه.
بعض المسلمين اجتهدوا في رد السلام، فقال أحدهم نقول: السِّلام عليكم- بكسر السين- وهي الأحجار، وقال أحدهم بل نقول: علاك السام، أي أصابك الموت والردى، وبعضهم قال: علاك السلام فتجاوزك..
ولا حاجة لهذا الاجتهاد.. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة و قدوة:
( وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ ) (1) .
وهنا يغالط اليهود أنفسهم فيقولون: لو كان محمد صلى الله عليه وسلم نبياً، لأجاب الله دعاءه، فهو يقول راداً علينا:
"وعليكم السام"، والسام الموت.. لو كان نبياً لاستجيب دعاؤه ومتنا لساعتنا.. أليس هذا عجيباً؟! والعجب من تجرُّئهم على الله، فهم يتحدون الله تعالى ويسخرون من نبيه صلى الله عليه وسلم. وهم أيضاً يعلمون أن الأنبياء قد يغضبون فلا يعاجَل من يغضبهم بالعذاب.. ولكنهم مردوا على الكفر والفسوق فلا يأبهون إلَّا حين يدهمهم العذاب، ولات حين نجاة.. فيقول البارى جل وعلا إن لهم أجلاً لا ريب فيه وستكون النار مأواهم وبئس المرجع والمآل.
(1) سورة البقرة: الآية 146.
(2) سورة المجادلة: الآية 8.
(1) سورة المجادلة: الآية 8.
وسوم: 639