عندما تحلق الروح...!
كلَّما شاهدتُ طيرًا يَطير في جوِّ السماء انتابني شعور الأسى أنِّي لم أمتَّع بجناحين أحلِّق فيهما في الأجواء، وأغدو بهما وأروح.
وقديمًا عبَّر عن هذا الأسى أحدُ الشعراء عندما قال:
بكيتُ على سربِ القطا إذ مرَرن بي
فقُلتُ: ومثلي بالبُكاء جَديرُ
أسِرْبَ القَطا هَل من مُعيرٍ جَناحَهُ
لعلِّي إلى من قَد هَوِيتُ أطيرُ
وتزداد أهميَّة الجناحين عند العاشِق، لعله يطير بهما إلى مواطن الأحبة ومنازلهم، ولكن أنَّى له ذلك وهو مَقصوص الجناح، وفي هذا يقول الشاعر:
رأيْتُ الشَّمسَ تطلعُ منْ نقابٍ
وغصنَ البانِ يرفُلُ في وشاحِ
فَلوْ أسْطيعُ طِرْتُ إلَيكِ شَوْقًا
وكيفَ يطيرُ مقصوصُ الجناحِ؟
وكنتُ أتساءل في نفسي عن الحكمة من ذلك، ولكن خطر لي أنَّ الله سبحانه وتعالى قد متَّع الطيرَ بجناحيه في فترةٍ قصيرة من الزَّمن، ولكن في نِهاية الحياة يَسقط ملقًى على الأرض، ويفقد التحليقَ الذي طالما مُتِّع به.
وأمَّا الإنسان فقد أكرمه الله سبحانه بهذه الرُّوح، فهو يحلِّق بها في عوالم أعلى وأَرقى في الدنيا عندما أكرمه بأصنافٍ من العبادات التي تؤهِّله للوقوف بين يدَي خالق الأرض والسموات.
وعند نهاية الحياة فإنَّ روحَه تحلِّق عاليًا حتى تَصل إلى رياض الجنَّة؛ فقد جاء عن الصحابي الجليل كعب بن مالك رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّما نسمةُ المُؤمن طيرٌ يعلقُ في شجر الجنَّة، حتى يُرجعه الله إلى جسده يوم يبعثُه)).
قال الإمام ابن كثير في تفسيره (2/ 142):
"وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثًا فيه البشارة لكلِّ مؤمن بأنَّ روحه تكون في الجنَّة تَسرح أيضًا فيها، وتَأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النَّضرة والسرور، وتشاهد ما أعدَّ الله لها من الكرامة، وهو بإسنادٍ صحيح عزيز عظيم، اجتمع فيه ثلاثة من الأئمَّة الأربعة أصحاب المذاهب المتبَعة؛ فإن الإمام أحمد رحمه الله رواه عن محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله عن مالك بن أنس...".
فيا رب، أكرِمنا بالاستقامة، ولا تَحرمنا من هذه الكرامة بمَنِّك وفضلِك يا أرحم الرَّاحمين.
وسوم: العدد 646