الخصائص العَشرة لتربية إسلامية فعّالة الحلقة الأولى
من تعريفات التربية أنها نشاط إنساني، فردي وجماعي، متواصل، يهدف إلى نمو الفرد متكيّفاً مع بيئته الطبيعية والاجتماعية...
ونفهم من التعريف أن الذي يقوم بالتربية هو الفرد نفسه، والأفراد الذين من حوله، والمجتمع بمؤسساته الرسمية وغير الرسمية، وأن التربية تلازم الإنسان في مختلف مراحل عمره، وإن كانت أكثر ظهوراً في مراحل الطفولة والصبا، وأن من أهداف التربية تنمية الفرد بدنيّاً وخُلقياً وفكرياً وعاطفياً، بحيث يبلغ أقصى درجات الكمال التي تسمح بها إمكاناته وظروفه الذاتية، وإمكانات المجتمع والبيئة كذلك، سواء من حيث العوامل الطبيعية، أو من حيث التقدّم الإنساني...
وبديهي أن الأفراد والمجتمع، وهم يقومون بعملية التربية، يوجّهونها ويحدّدون مسارها وفق القيم التي يتبنّونها... إذ ليس هناك تربية بلا قيم!
وحين يكون الحديث عن التربية الإسلامية فإن قيم الإسلام هي التي توجّه وتحكُم. ومن هنا نستطيع أن نستخلص خصائص التربية الإسلامية وسماتها:
1- إنها تقوم على الإيمان بالله تعالى وما ينبثق عن ذلك من الإيمان باليوم الآخر، ومن مراقبة الله في السر والعلن، وملء القلب بحبّه سبحانه وخشيته... وفي الحقيقة: إن هذا هو أهم شيء في التربية، وكما يقولون فإن الحكم على الشيء فرعٌ لتصوّره. فالمؤمن الذي يعلم أن الله تعالى ودود كريم، عفو غفور، منتقم جبّار، }يعلم ما في السماوات والأرض، ويعلم ما تسرّون وما تعلنون. والله عليم بذات الصدور{ سورة التغابن:4
هذا المؤمن لابد أنه يراقب الله تعالى في كل أحيانه، ويتحرى ما يرضيه، ويتّقي ما يسخطه... وإذا ندَّت منه معصيةٌ لله كبيرةٌ أو صغيرة، فإنه سرعان ما يفيء إلى الصواب، ويتوب إلى الله.. وبذلك تكون الاستقامة عنده، والعمل الإيجابي النافع، والبعد عن المنكرات... هي الأصل في سلوكه، وأما ما يخالف هذه الأمور فهي عثرات عابرة، تنشأ عن الضعف البشري.
ومن مقتضى هذه الخصيصة أن يبنى كل توجيه أو أمر أو نهي على الإيمان بالله والرغبة في بلوغ رضوانه وجنته، والخشية من غضبه وناره، ولا يمنع هذا أن يُذكر إلى جانب ذلك محاسن ما يُؤمر به، ومساوئ ما يُنهى عنه.
2- تنسجم مع الفطرة: فالفطرة لا تعرف لها ربّاً ولا إلهاً إلا الله، وهي تكرّم الفضائل، وتحقّر الرذائل. فإذا ضَعُفَ الإنسان عن فعل فضيلة، أو وقع في رذيلة، أحسّ في قرارة نفسه أنه المَلُوم المقصِّر الآثم...
ولنقرأ هذه النصوص الكريمة
}فطرةَ الله التي فطر الناس عليها{ سورة الروم:30
}بل الإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره{ سورة القيامة:14و15
"كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو يمجّسانه أو ينصّرانه" من حديث رواه البخاري ومسلم.
ومن الفطرة معرفة الله تعالى وحبّه وخشيته...
ومن الفطرة أن يأخذ الإنسان من زينة الحياة الدنيا من غير سَرَفٍ ولا مَخْيَلة.
ومن الفطرة أن يبذل الإنسان جهده في فعل الخير، وفي توقّي الشر... وأن يعلم أن لهذا الجهد حدوداً، فلا يلام على ما وقع منه نتيجة خطأ أو سهو أو إكراه أو نسيان... بل من الفطرة أن يقع الإنسان في بعض الآثام نتيجة ضعفه البشري، وأن يسارع إلى التوبة والاستغفار. وأيضاً لنقرأ هذه النصوص:
}وخُلِق الإنسان ضعيفاً{ سورة النساء:28
}نبّئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم، وأن عذابي هو العذاب الأليم{ الحجر 49و50
}قل: يا عباديَ الذين أسرفوا على أنفسهم، لا تقنطوا من رحمة الله. إن الله يغفر الذنوب جميعاً، إنه هو الغفور الرحيم{ الزمر:53
}لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها{ البقرة:286
3- تشمل جوانب الشخصية جميعاً: فهي تربية سلوكية ووجدانية، عقلية وعاطفية، تطهّر القلب، وتزكّي النفس، وتقوّم السلوك، وتكرّم العلم والعلماء، وتدعو إلى العمل الصالح في ذات الفرد، وعلى نطاق الأسرة، والمجتمع الصغير، والكبير، والعالمي كذلك.
والعبادة في الإسلام – وهي قرينة التقوى – ليست صلة بين العبد وربه فحسب، بل هي تزكية للنفس تؤتي أُكُلها خيراً على المجتمع كله:
}وأقم الصلاة. إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر{ العنكبوت:45
}خذْ من أموالهم صدقةً تطهّرُهم وتزكّيهم بها{ التوبة:103
}وما لكم لا تقاتِلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان{ النساء:75
}ولكنّ البِرّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، وآتى المال على حبّه، ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، وأقام الصلاة وآتى الزكاة، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا، والصابرين في البأساء والضرّاء وحين البأس. أولئك الذين صدقوا. وأولئك هم المتقون{ البقرة:177
4- وهي تربية متوازنة، ففضلاً عن شمولها الذي تحدّثنا عنه آنفاً، فإنها لا تدع مجالاً يطغى على غيره. فهناك التوازن بين الدنيا والآخرة, وبين الروح والجسد، وبين حاجات الفرد والأسرة والمجتمع، وبين حقوق الفرد والجماعة، والذكر والأنثى، والأبوّة والبنوّة، وبين الحقوق والواجبات...
}وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا{ القصص:77
}ولهنّ مثل الذي عليهنّ بالمعروف، وللرجال عليهنّ درجة{ البقرة:228
"إن لربّك عليك حقّاً، وإن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعطِ كل ذي حق حقه" حديث شريف رواه البخاري
"... والأمير راعٍ، والرجل راعٍ على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده، فكلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيّته". متّفق عليه.
الخصائص العَشرة
لتربية إسلامية فعّالة
الحلقة الثانية (الأخيرة)
بقلم: محمد عادل فارس
ذكرنا في الحلقة الأولى مقدمة عن التربية، وذكرنا للتربية الإسلامية أربع خصائص هي:
1- إنها تقوم على الإيمان بالله تعالى
2- تنسجم مع الفطرة
3- تشمل جوانب الشخصية جميعاً
4- وهي تربية متوازنة
والآن نكمل ذكر الخصائص العشر:
5- وهي تربية نظرية وعملية، تقوم على الإيمان والتقوى، وتدعو إلى العمل والإنتاج والعطاء والعمران، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتوجّه بالكلمة والأنموذج (القدوة)، وبالمكافأة والعقوبة.
وما أكثر ما يقترن الإيمان بالعمل الصالح في كتاب الله تعالى، ليؤكد أن الإيمان ينبثق عنه عمل صالح، والعمل الصالح يجب أن يؤسس على الإيمان.
}يا أيها الذين آمنوا قُوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة{ التحريم:6
}والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهَون عن المنكر...{ التوبة:71
}قال: أمّا من ظَلَمَ فسوف نعذّبه ثم يُرَدّ إلى ربّه فيعذّبه عذاباً نُكراً. وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاءً الحسنى، وسنقول له من أمرنا يُسراً{ الكهف:88
"مُرُوا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرّقوا بينهم في المضاجع" حديث حسن رواه أبو داود.
6- وهي تربيةٌ تُزاوج بين الفردية والجماعية، فقد قسم الإسلام الحقوق والواجبات بين أفراد الأسرة، وبين الإمام والرعيّة، وجعل الناس متكافلين في المال والجهد والنصيحة، وجعل المال لله أولاً، ثم للمجتمع ثانياً، ثم للأفراد، وأوجب على أفراد المجتمع أن يأخذوا على يد الظالم فرداً كان أو حاكماً، وأطلق أيدي الأفراد في العمران والإبداع والتملّك ضمن حدود ما شرع الله تعالى، وجعل لسلوك الأفراد ثلاثة ضوابط يُعزِّز أحدها الآخر، فأولها تقوى الله التي تعمُر القلب والضمير، وثانيها رقابة المجتمع التي تضغط على الأفراد حين يخرجون عن حدود "المعروف" ويتجاوزونها إلى "المنكر"، وثالثها سلطة الدولة (المسلمة) التي توجّه وتشجّع الخير، وتفرض هيبة الشريعة، وتعاقب العصاة الذين ضعفت التقوى في قلوبهم ولم يراعُوا حرمة المجتمع كذلك.
7- وهي تنمّي نوازع الخير في نفس الإنسان، ويكفي أن نقرأ هذه النصوص:
"الإيمان بضع وسبعون، أو بضع وستّون، شعبة. فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. والحياء شعبة من الإيمان" متّفق عليه.
"اتّقوا النار ولو بشِقِّ تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة" متفق عليه
وعن أبي ذر t قال: قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله والجهاد في سبيله، قلتُ: أي الرقاب أفضل؟ قال: أنفَسُها عند أهلها، وأكثرها ثمناً. قلتُ: فإن لم أفعل؟ قال: تُعين صانعاً أو تَصنع لأخرق. قلت: يا رسول الله، أرأيتَ إن ضَعُفْتُ عن بعض العمل؟ قال: تكُفّ شرّك عن الناس، فإنها صدقة منك على نفسك" متفق عليه. [والأخرق: الذي لا يتقن ما يحاول فِعْلَه].
وعن أبي ذرّ أيضاً أن رسول الله r قال: "يصبح على كل سُلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة. ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى" رواه مسلم.
وعنه أيضاً: قال لي النبي r: "لا تحقِرَنّ من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق" رواه مسلم.
8- وهي ترعى رابطة الإيمان ورابطة البشريّة!.
فالناس – في العقيدة الإسلامية والتصوّر الإسلامي – خُلقوا من أب واحد، ولا تفاضل بين الناس على أساس اللون والقوميّة والوطن والثروة، إنما يتفاضلون بالإيمان أولاً، وبالتقوى ثانياً، وبالعلم ثالثاً:
}يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم{ الحجرات:13
}إنما المؤمنون إخوة{ الحجرات:10
}يرفعِ الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات{ المجادلة:11
وعلى المربّين والأهل أن يلحظوا هذه الحقيقة ويأخذوها مأخذ الجد، بأقوالهم ومسالكهم، حتى يتشرّبها أبناؤهم فيقيموا روابطهم مع الناس وفق ما يرضي الله.
9- وهي تربية تبدأ مع الولادة وتستمر مدى الحياة، تبدأ منذ أن يؤذَّن في أذن المولود، وتستمرّ حتى يلقّن "لا إله إلا الله" عندما يُحتضَر، وبين البداية والنهاية التعهدُ في العلم والتعلّم، والتزكيةِ والترقيةِ، والتخلية والتحلية، والنصح والإرشاد، والمكافأة والعقوبة، والتربية بالحال والمقال... كلُّ ذلك بما يناسب كل مرحلة من مراحل العمر.
10- وهي تربية تجمع بين الأصالة والمعاصرة: فما جاء به الإسلام من عقائد وتصوّرات وقيم وأحكام... يجب المحافظة عليها وتأكيدها، سواء جاءت القيم الوافدة على وفقها أو على خلافها، فالإيمان والتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأحكام الأسرة والاقتصاد والجهاد وغيرها مما جاءت به النصوص المقدّسة، يجب تأكيده وتعهُّدُه بالرعاية، فالإسلام ما جاء لكي يتماشى مع القيم الخاطئة، بل ليمحوها ويرسي قيمه مكانها.
لكن هناك زمرتين من الأمور المستحدثة التي ينبغي الاستفادة منها إلى أقصى حد، بما لا يتعارض مع الأمور السابقة التي تمثل الأصالة:
الزمرة الأولى: هي الكشوف العلميّة في ميادين الطبّ والفلك والاتصالات وغيرها. فهي مما حضّ الإسلام عليه عندما أمر بالسير في الأرض، والتفكر في ملكوت السماوات والأرض، وتسخير ما في الكون للإنسان، وطلب العلم الديني والدنيوي...
الزمرة الثانية: هي الأساليب المستجدّة والتكنولوجيا التي هيّأها الله تعالى للإنسان من فنون الطباعة، والتسجيل، والاتصال الالكتروني، وفنون العَرْض، وألوان الرفاهية والزينة، وطرائق الإقناع وترسيخ الفكرة بالحوار أو باستخدام القصة والتمثيلية والترغيب والترهيب وغيرها. }ومن يؤتَ الحكمةَ فقد أوتيَ خيراً كثيراً. وما يذّكّر إلا أولو الألباب{ البقرة:270
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكّها أنت خير من زكّاها.
وسوم: العدد 663