لا تدعوا على أولادكم

من التوجيه النبوي الكريم قولُه عليه الصلاة والسلام: "لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يُسألُ فيها عطاء فيَستجيب لكم"[1].

ومن الأخبار التي رأيتُها أو سمعتُها مصدِّقة لهذا التحذير النبوي الرحيم ما يأتي:

1 - جاء عن الزاهد محمد بن مسلم القنطري (ت: 260هـ) أنه كان له ابنُ أختٍ حَدَثٌ، فرآه يلعبُ بالطيور، فدعا اللهَ أنْ يميته، فما أمسى يومَه ذلك إلا ميتًا[2].

♦ ♦ ♦

2 - وقال السيوطي في ترجمة الزمخشري:

"كان يمشي في جارن خشبٍ لأنه سقطتْ رجلُه في بعض الأسفار من الثلج في بلاد خوارزم، وكان معه محضرٌ فيه شهادة خلقٍ كثيرٍ ممَّن اطلعَ على حقيقة ذلك.

ولما دخل بغدادَ اجتمع بالدامغاني الفقيه فسأله عن قطع رجله فقال له:دعاء الوالدة، وذلك أني في صبايَ أمسكتُ عصفورًا وربطتُه بخيطٍ في رجله، وأفلتَ من يدي فأدركتُه وقد دخل في خرقٍ فجذبتُه فانقطعتْ رجلُه في الخيط، فتألَّمتْ والدتي لذلك وقالتْ: قطعَ اللهُ رجلَك كما قطعتَ رجلَه.

فلما وصلتُ إلى سنِّ الطلب ارتحلتُ إلى بخارى، فسقطتُ عن الدابة، فانكسرتْ رجلي، وعملتْ على عملٍ أوجبَ قطعها"[3].

♦ ♦ ♦

3 - وقال المؤرِّخ ابنُ النجّار البغدادي في ترجمة (علي) بن الإمام عبد الرحمن ابن الجوزي:

"وعظَ في صباه، وكان كثيرَ الميل إلى اللهو والخلاعة، فتركَ الوعظَ واشتغلَ بما لا يجوزُ، وصاحبَ المفسدين.

سمعتُ أباه يقولُ: إني لأدعو عليه كلَّ ليلةٍ وقتَ السَّحر"[4]!

أقولُ:

وهذا غريبٌ فلِمَ يدعو عليه ولا يدعو له؟ وقد كان عليٌّ هذا عاقًا لوالده، وليس بعيدًا أنَّ الدعاء عليه زاده عقوقًا...

♦ ♦ ♦

4 - وقال ابنُ رجب الحنبلي في ترجمة الفقيه الواعظ المفسِّر زين الدين أبي الحسن بن رضي الدين أبي طاهر: علي بن إبراهيم بن نجا بن غنائم الأنصاري الدمشقي المعروف بابن نجية، نزيل مصر، سبط الشيخ أبي الفرج الشيرازي الحنبلي (ت: 599هـ):

"ذكر ناصحُ الدين بن الحنبلي: أنَّ ابن نجا نشأ له ولدٌ حسنُ الصورة. فلما بلغ أخذ في سبيل اللهو، فدعا عليه، فمات. فحضر الناسُ والدولة لأجله، فلما وضعوا سريرَه في المُصلى نصبوا للشيخ كرسيًا إلى جانبه، فصعد عليه، وحمد الله تعالى، وقال: اللهم إنَّ هذا ولدي بلغ من العمر تسع عشرة سنة

لم يجرِ عليه فيها قلمٌ إلا بعد خمس عشرة سنة

بقيَ له ثلاثُ سنين

نصفُها نوم

بقي عليه سنةٌ ونصف، قد أساءَ فيها إليَّ وإليك.

فأمّا جنايتُهُ عليَّ، فقد وهبتُها له.

بقيَ الذي لكَ فهبْهُ لي.

فصاح الناسُ بالبكاء، فنزلَ وصلّى عليه"[5].

وليت هذا الدعاء الخاضع والاستشفاع الضارع كان لصلاحه في حياته.

♦ ♦ ♦

5 - وممّن وقع منها الدعاءُ زوجة الحافظ ابن حجر العسقلاني: السيدة أُنْس بنت القاضي عبد الكريم اللخمي المصري، وقد دعتْ دعوة تمسُّ زوجَها وابنه محمدًا الذي وُلِدَ له مِنْ جاريته "خاص ترك".

قال تلميذُه الحافظ السخاوي في كلامه على السيدة أُنْس هذه:

"كان شيخُنا - رحمه الله - كثيرَ التبجيل لها والتعظيم، لاسيما وهي عظيمة الرغبة فيه، بحيث إنه لما تسرَّى وغضبتْ أمُّها الست سارة كانتْ معهُ في ذلك أخفَّ حالًا مِنْ أمِّها، وبلغني أنها حينئذ عتبتْهُ، فاعتذرَ بميله للأولاد الذكور [وكانت هي لا تلد ذكورًا]، فدعتْ عليه أن لا يُرزقَ ولدًا عالمًا، فتألَّم لذلك، وخشِيَ من دعائها، وقال لها: أحرقتِ قلبي، أو كما قال.

حكاه لي سبطُها [يوسف بن شاهين الكركي]، وقال: إنها كانتْ مجابة الدعاء، وإنها رأت ليلة القدر عيانًا"[6].

ولم يكن (محمد) كما يريد والدُه ومحبو والده، وقد ترجم له السخاوي، وألمح إلى ذلك، وعرض بنقده، وقال: "وسمعتُ مَنْ يذكرُ عن شيخنا أنه كان يقولُ: قلَّ أنْ يجتمعَ الحظُّ لامرىءٍ في نسلهِ وتصانيفهِ"[7].

ولم يُعمَّر محمد فقد توفي سنة 869 عن 54 سنة.

♦ ♦ ♦

6 - وحدَّثني الشيخ محمد مطيع الحافظ الدمشقي عن امرأةٍ قريبةٍ له كان أولادُها غير بارِّين وكانتْ تدعو عليهم، ومن ذلك ألا يهنأوا بمالها مِنْ بعدِها، وحين ماتتْ وقُسمتْ تركتُها مات ابنُها الكبيرُ بعدها بعشرين يوما تقريبًا، وماتتْ ابنتُها بعده بمدةٍ يسيرةٍ، وأما ابنُها الثاني فأخذ حصتَه واشترى بيتًا في ريف المدينة، وكان مقيمًا خارج الدولة فجاء ونزل فيه صيفًا واحدًا، ثم حالت الأحداثُ دونه ولحقه الدمار!

وقال: وكان شيخنا الشيخ محمد سعيد البرهاني - رحمه الله - كثير التحذير للآباء والأمهات من الدعاء على أولادهم مهما استبدَّ بهم الغضبُ والانفعالُ خشية أن تكون الساعة ساعة استجابة فتصيب الدعوة المدعو عليه، وكان يحض كثيرًا على استبدال الدعاء عليهم بالدعاء لهم، ويقول: نفِّسوا غضبكم بقولكم للولد: الله يصلحك، الله يهديك، الله يرضى عليك.

[1] رواه مسلم، وأبو داود، وأبو عوانة، وابن حبّان عن جابر.

[2] انظر: صفة الصفوة (2/ 391).

[3] تحفة الأديب في نحاة مغني اللبيب (1/ 378). ولتُحرر الجملة الأخيرة.

[4] سير أعلام النبلاء (22/ 353).

[5] ذيل طبقات الحنابلة (1/ 439).

[6] الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر (3/ 1211 - 1212).

[7] الجواهر والدرر (3/ 1222). ومن المُهم أن تقرأ ترجمته فيه كاملة (3/ 1218 - 1225).

وسوم: العدد 667