وجاء رمضان
الحمد لله الذى أنعم علينا بصيام رمضان، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد العدنان، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان؛ وبعد.
جاء رمضان، موسم الطاعات، والفوز بالدرجات، والحصول على الحسنات، والرفعة في أعلى الدرجات، والقرب من رب الأرض والسماوات.
فمرحبا بطلعة الوليد الوسيم، بشير الخير العميم، شهر رمضان، وتنزيل أنوار القرآن، وشذى نفحات الجنان، وواحة الاسترواح في صحراء العام، وراحة الأرواح بالصلاة والصيام والقيام.
فأهلا بمجالسة القرآن، كلام الرحمن، لنتشبه بالملائكة بالصيام عن كل ما يفطر الإنسان، لنكون بجوار الرسول العدنان، محمد عليه الصلاة والسلام، فمرحبا بك يا رمضان، فنعم الضيف أنت يا رمضان؛ رمضان الذى ينادي علينا كل عام بلسان الحال قائلا:
أنا رمضان مزرعة العباد * * * لتطهير القلوب من الفساد
فأد حقوقه قولا وفعلا * * * وزادك فاتخذه للمعاد
فمن زرع الحصاد وما سقاها * * * تأوه نادما يوم الحصاد
إنه الشهر الذى تضاعف فيه الحسنات، وتقبل فيه الطيبات، ويعفى فيه عمل ما مضى من الذنوب والسيئات، إذا أقبل أقبلنا على الله بأيدٍ متوضئةٍ طاهرة، وقلوبٍ عامرةٍ بذكر الله وبالدعوات.
ماذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قدوم رمضان؟ عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاكم شهر رمضان شهر بركة فيه خير يغشيكم الله فيُنزل الرحمةَ ويَحُطُّ فيه الخطايا ويستجيب فيه الدعاء ينظر الله إلى تنافسكم ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيرا فإن الشَّقِىّ من حُرم فيه رحمة الله عز وجل"[1]
فكيف كان يستعد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح من الأمة والذي نحن مأمورون بإتباعهم بقدوم رمضان؟
- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاء رمضان استعد له، لا بالمأكل ولا بالمشرب، ولا بالزينة فقط، بل بالطاعة والعبادة والجود والسخاء، فإذا هو مع الله العبد الطائع، ومع الناس الرسول الجائع، ومع إخوانه وجيرانه: البار الجواد، حتى لقد وصفه عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل. وكان يلقاه جبريلُ في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فَلَرَسولُ الله حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة"[2].
- وكذلك كان صحابته يفعلون، والسلف الصالح من بعده يتصفون، وبذلك كان رمضان عندهم موسما تتنسم فيه أرواحهم روائح الجنة، وتطير فيه أفئدة المؤمنين إلى السماوات العلى، وترتفع فيه جباه المصلين على رؤوس الطغاة الظالمين[3].
- وهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يستعد لرمضان فأنار المساجد بالقناديل، فكان أول من أدخل إنارة المساجد، وجمع الناس على صلاة التراويح، فكان أول من جمع الناس على صلاة التراويح في رمضان، فأنارها بالأنوار وبتلاوة القرآن.
حتى دعا له الإمام علي -رضي الله عنه– بسبب ذلك، فعن أبي إسحاق الهمداني قال: خرج علي بن أبي طالب في أول ليلة من رمضان والقناديل تزهر وكتاب الله يتلى في المساجد، فقال: "نور الله لك يا ابن الخطاب في قبرك كما نورت مساجد الله بالقرآن"[4].
- وهذه جارية تعلم أسيادها كيف يستعدون لرمضان: فقد باع قوم من السلف جارية، فلما اقترب شهر رمضان، رأتهم يتأهبون له، ويستعدون بالأطعمة وغيرها.
فسألتهم عن سبب ذلك؟ فقالوا: نتهيأ لصيام رمضان. فقالت: وأنتم لا تصومون إلا رمضان! لقد كنت عند قوم كل زمانهم رمضان، ردوني عليهم.
والسماء تستعد لقدوم رمضان: فعن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان أَوَّلُ ليلة من شهر رمضان صُفِّدَتِ الشياطينُ وَمَرَدَةُ الجنِّ وَغُلِّقَتْ أبوابُ النارِ فلم يُفْتَحْ منها بابٌ وَفُتِّحَتْ أبوابُ الجنةِ فلم يُغْلَقْ منها بابٌ وَيُنَادِى مُنَادٍ كلَّ ليلةٍ يا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ ويا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ وللهِ عُتَقَاءُ من النارِ وذلك كلَّ ليلةٍ"[5].
كيف نستعد لرمضان؟
رمضان فرصة لا تتاح كل عام إلا مرة واحدة فلنغتنم هذه الفرصة، ولنستفد منه كأنه آخر رمضان سيمر علينا، فربما يأتي العام القادم وبعضنا غير موجود، لأنه تحت التراب، كما سيحضر رمضان هذا العام وقد فقدنا بعضا من أحبابنا، كنا نتمنى كما كانوا يتمنون أن نكون جميعا معا في رمضان. نسأل الله أن يجمعنا وإياهم في مستقر رحمته ودار كرامته، بجوار سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول الشيخ محمد الغزالي: "من الخطأ تصور الاستعداد بأنه تدبير النفقات وتجهيز الولائم للأضياف. إن هذا الشهر شرع للإقبال على الله والاجتهاد فى مرضاته وتدبر القرآن، وجعل تلاوته معراج ارتقاء وتزكية، إنه سباق فى الخيرات، يظفر فيه من ينشط ويتحمس"[6].
نستطيع أن نستعد لرمضان ونستفيد من خلال:
1-التوبة والإقلاع عن كل الذنوب الآن وفورا:
أن نبدأ بالتوبة والإنابة إلى الله، والاعتراف بالذنب والإساءة، وسوء الفعل وسييء القول، فإذا كانت البداية مع الله توبة نصوحا تطهر الروح، وتزكي القلب، تسقط فيها الدموع، وينجلي فيها الخشوع، فيصحو القلب الغافل من نسيانه، يسبح بحمد ربه ويستغفره، ويتوب إليه، فإن بشريات القبول قد بدت تلوح في الآفاق. قال تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور:31].
انزع نفسك من أوصاف الدنيا التي غرتك في سالف الأيام، اعتق رقبتك من أسر الهوى والآثام، حرر قلبك من سجون المادية الغليظة والأوهام، إذا صلحت بدايتك صلحت نهايتك، ومن صلحت بدايته صلحت نهايته، وإنه إذا أحسن البدء حسن الختام.
ولنندم على تقصيرنا في جنب الله، وكم أن الله أمهلنا حتى هذا الوقت لنتوب، وإذا لم نتب الآن فمتى نتوب؟!
فهيا يا أخي ويا أختي لنحرق نار الهوى والمعاصي ولنرجع إلى ربنا الرحيم الذى يقبل توبة عبده إذا تاب إليه وأناب.
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب * * * حتى عصى ربه في شهر شعبان
لقد أظلك شهر الصوم بعدهما * * * فلا تصيره أيضا شهر عصيان
واتل القرآن و سبح فيه مجتهدا * * * فإنه شهر تسبيح وقرآن
فاحمل على جسد ترجو النجاة له * * * فسوف تضرم أجساد بنيران
كم كنت تعرف ممن صام في سلف * * * من بين أهل وجيران وإخوان
أفناهم الموت واستبقاك بعدهم * * * حيا فما أقرب القاصي من الداني
2- الدعاء بأن يبلغك الله شهر رمضان وأنت في صحة وعافية: حتى تنشط في عبادة الله تعالى، من صيام وقيام وذكر، وكان السلف الصالح يدعون الله أن يبلغهم رمضان, ثم يدعونه أن يتقبله منهم. فإذا أهل هلال رمضان فادع الله وقل (الله أكبر اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب وترضى ربي وربك الله)[7].
3- الحمد والشكر على بلوغه: وإن من أكبر نعم الله على العبد توفيقه للطاعة، والعبادة، فمجرد دخول شهر رمضان على المسلم وهو في صحة جيدة هي نعمة عظيمة، تستحق الشكر والثناء على الله المنعم المتفضل بها، فالحمد لله حمداً كثيراً كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، قال تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم:7].
4- الفرح والابتهاج: ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يبشر أصحابه بمجيء شهر رمضان، فعن أبى هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبشر أصحابه:" قد جاءكم رمضان شهر مبارك كتب الله عليكم صيامه يفتح فيه أبواب الجنة، ويغلق أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم"[8].
5- وضع برنامج عملي للاستفادة من رمضان: الكثيرون من الناس وللأسف الشديد حتى الملتزمين بهذا الدين يخططون تخطيطاً دقيقاً لأمور الدنيا، ولكن قليلون هم الذين يخططون لأمور الآخرة، وهذا ناتج عن عدم الإدراك لمهمة المؤمن في هذه الحياة، ونسيان أو تناسى أن للمسلم فرصاً كثيرة مع الله، ومواعيد مهمة لتربية نفسه حتى تثبت على هذا الأمر ومن أمثلة هذا التخطيط للآخرة، التخطيط لاستغلال رمضان في الطاعات والعبادات، فيضع المسلم له برنامجاً عملياً لاغتنام أيام وليالي رمضان في طاعة الله تعالى.
كمسجد التروايح وقراءة القرآن والدروس وافطار الصائم والصدقات وتنظيف المساجد والشوارع والزيارات بين الأقارب وعمرة .
6) عقد العزم الصادق على اغتنامه وعمارة أوقاته بالأعمال الصالحة: فمن صدق الله صدقه وأعانه على الطاعة ويسر له سبل الخير قال الله عز وجل: ﴿فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ﴾ [محمد:21].
وكلما استحضرت نيات أعمال كثيرة طيبة كتب الله لك أجر هذه الأعمال ولو لم تعملها طالما كنت صادقا فى نيتك.
7) التهيئة النفسية والروحية: من خلال القراءة والإطلاع على الكتب والرسائل، وسماع الأشرطة الإسلامية من المحاضرات والدروس، والتي تبين فضائل الصوم وأحكامه حتى تتهيأ النفس للطاعة فيه فكان النبي صلى الله عليه وسلم يهيئ نفوس أصحابه لاستغلال هذا الشهر.
هكذا يستقبل المسلم رمضان استقبال الأرض العطشى للمطر، واستقبال المريض للطبيب المداوي، واستقبال الحبيب للغائب المنتظر. يستقبله:
أ- مع الله سبحانه وتعالى بالتوبة الصادقة.
ب- مع الرسول صلى الله عليه وسلم بطاعته فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر.
ج- مع الوالدين والأقارب والأرحام والزوجة والأولاد بالبر والصلة.
د- مع المجتمع الذي تعيش فيه، حتى تكون عبداً صالحاً ونافعاً. قال صلى الله عليه وسلم "أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس"[9].
وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
[1] أخرجه: الطبراني كما فى الترغيب والترهيب (2/60)، ومجمع الزوائد (3/142) وقالا: رواته ثقات، إلا أن محمد بن أبي قيس لا يحضرني فيه جرح ولا تعديل.
[2] أخرجه: البخاري رقم:[ 1803، 3048، 3361، 4711 ] و مسلم رقم:(2308).
[3] أحكام الصيام وفلسفته فى ضوء القرآن والسنة –د/مصطفى السباعي-المكتب الإسلامي –بيروت-الطبعة الرابعة (1400 هـ) ص63.
[4] كنز العمال: 23477.
[5] أخرجه:الترمذي (3/66، رقم 682)، وابن ماجه (1/526، رقم 1642)، وابن حبان (8/221، رقم 3435).
[6] الحق المر: محمد الغزالي- مركز الإعلام العربى-5/19.
[7] أخرجه:(الديلمي) [كنز العمال 24291]،عن علي و ابن عمر- رضي الله عنهم-.
[8] أخرجه:أحمد (2/385، رقم 8979)، والبيهقي في شعب الإيمان (3/301، رقم3600).
[9] أخرجه:الطبراني في الأوسط (6/139، رقم 6026)، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال الهيثمي (8/191): فيه سكين بن سراج، وهو ضعيف.
وسوم: العدد 670