في شهر القرآن العظيم
في ضيافة الشهر المبارك :
تستقبل الأمة الإسلامية شهر رمضان المبارك ، شهر الهدى والنَّدى والفرقان ، شهر الخيرات والفتوحات ، شهر الأمل الوريف وحُسن الظن بالله الرحمن الرحيم . الشهر الذي يمنحُ الأرواحَ متَطَلباتِها ، ويهيئُ للأنفُسِ منطلقاتِها الربانية ، مؤكدا للمسلمين صدقَ انتمائِهم للإسلام ، وحُسن ظنِّهم بالله ، فلا تهيمن عليهم الظنونُ التي تعبث بحقائق الإيمان ، ولا تسترقهم وساوس الشيطان ، ولا ترهبُهم مؤامراتُ الأعداء ، ولا يُثني عزائمَهم ظلمُ الطغاة ، فإنَّ حِباءَ هذا الشهر المبارك بما فيه من خيرات وأنوار ... يخرج المسلم من قبضة الظلمة إلى نور السكينة ، فلا يفرط في الخير الذي وهبه الله سبجانه وتعالى له . فعطاء الله لابنفد ، ورحمته لاتتلاشى ولا تضمحل مهما كانت الأوزار والأكدار والمرارات .
إنَّ مافي هذا الشهر من فضل الله يعيد الأمةَ إلى أهليَّتِها لأداء حق الله عليها ، وحق رسوله صلى الله عليه وسلم ، وحق هذا الدين المبارك ، لينهي تخرصات الضَّالين والمرجفين ، ويفضح مَن يريدون تشويه الإسلام بأباطيلهم وخزعبلاتهم . وبالتالي يجعل الأمة تسهم إسهاما إيجابيا في وضع بصماتها الربانية على حركة التغيير فوق هذه المعمورة ، وتملأ الكون من أنوار هذه الشريعة الفيَّاضة بالنُّور ، والحفيَّة بحُلو المناجاة لربها في هذه الليالي المباركات
فجدير بالمسلم أن يجعل لنفسِه جلسة رصد لأعماله وأقواله ونيَّاته لينهض بمهته تجاه نفسه ، وتجاه أمته وتجاه إسلامه ، وليفتح الأبواب التي أعدها المولى تبارك وتعالى لعباده الصالحين الصادقين في هذه الحياة الدنيا . ليعيش مرهف الحس ، حيَّ الضمير ، ولينهل من نبع خلوته مع الله مايبعث في نفسه حيويَّة العزيمة ، وقوة الثقة بالله ، جدير بالمسلم ــ أيِّ مسلم ــ مهما كانت ثقافته ، ومهما كان وضعه الاجتماعي ، ومهما كان وعيه أن يستوعب معنى : ( أنه عبدٌ لله ) ، فلا يغفل عن ذكره ، ولا يسمح لقلبه أن يزيغ فينحرف ، ولا تستهويه بهارج الدنيا ، ولا يقعده ثِقَلُ الرزايا والأهوال التي تعيشها الأمة اليوم ، ولا يثبط مُضِيَّه فقرٌ مدقعٌ ، ولا هول مفزع ، ولا هذه الشدائد التي تنوء بحملها الراسيات ، ولا تثنيه القوارع المبرحات عن تطلعاته إلى مشارق الأمل بالله الودود . أجل ... لابد للمسلم الفطن أن لايوهنه الخطب مهما جلَّ ، والهمُّ مهما ثَقُل ، ولتكن أسوته في كلِّ مايمكن أن يصيبه أو ما أصابه ... ماابتلى اللهُ به عباده الكرام من رسله وأنبيائه عليهم جميعا أفضل الصلاة وأتم السلام . وليكن دائما مشرق الوجه بالأمل ، مبشِّرًا لا منفِّرًا ميسِّرًا لامعسَِّرًا ، كما جاء في الأثر : ( بشِّروا ولا تنفِّروا ، ويسِّروا ولا تعسِّروا ) متفق عليه . فإنَّ حضور سجيَّةُ المسلم النقية تعني بلا ريب ومضة الاستبشار بوعد الله ، وتعني اليسر بعد العسر ، أي لابدَّ من الفرج بعد الضيق ، وبالفتح بعد الانحسار والهزيمة ، وبالتوفيق بعد التَّخبُّط في بحر الأوهام والضَّلالات . إن الله عزَّ وجلَّ رحيم بعباده ، وما خلقهم إلا ليكرمهم ، وما أوجدهم من العدم إلا لهذه المكانة السامية العالية : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ، ولقد سبقت رحمتُه غضِبَه ، بل جعل ملائكة السماء تدعو لأهل الأرض من أجل فوزهم بما أعدَّ الله لِمَن آمن به واتَّقاه ، يقول الله تعالى : ( ... وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ ، أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) 5 / الشورى . والأمة اليوم لو تأملت في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وسيرة أصحابه الأبرار الأطهار رضي الله عنهم أجمعين ، لوجدت مدى تعلُّق ذلك الجيل بذكر الله ، ومدى ما أعدَّ الله لذلك الجيل من المفازة والنعيم المقيم في جنات النعيم ، يقول علماء التفسير في معنى الآيات من سورة الكهف : ( 28، 29 ، 30 ، 31 ) : ( وقل لهؤلاء الغافلين: ما جئتكم به هو الحق من ربكم، فمن أراد منكم أن يصدق ويعمل به، فليفعل فهو خير له، ومن أراد أن يجحد فليفعل، فما ظَلَم إلا نفسه. إنا أعتدنا للكافرين نارًا شديدة أحاط بهم سورها، وإن يستغث هؤلاء الكفار في النار بطلب الماء مِن شدة العطش، يُؤتَ لهم بماء كالزيت العَكِر شديد الحرارة يشوي وجوههم. قَبُح هذا الشراب الذي لا يروي ظمأهم بل يزيده، وقَبُحَتْ النار منزلا لهم ومقامًا. وفي هذا وعيد وتهديد شديد لمن أعرض عن الحق، فلم يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يعمل بمقتضاها ) فحسنت الجنَّة مرتفقا للفائزين ، وساءت جهنم مرتفقا للخاسرين ، والمرتفق كما جاء في المعاجم : ساءت مُرتفقا﴿٢٩ الكهف﴾ متّكأ أو مقرّا في النّار ، وساءت النار منزلا ومقيلا للكافرين أعداء الله . الذين أضلهم إبليس وأعوانه وجنوده من الجن والإنس ، أو أضلَّهم فراعنتُهم الطغاة البغاة في كل عصر ومصر ، الذين أسسوا للكذب فضيَّعوا الناس ، ولقد أضلَّ فرعونُ قومَه وما هدى ، ومرج الأمر في الرعية فأفسدها ، ومعنى مَرَجَ كما جاء في المعجم : ( و مَرَجَ السُّلطانُ رعيّتَهُ : خلاَّها والفسادَ . و مَرَجَ الكذبَ : أرسلَ لسانه فيه ، فهو مَرَّاجٌ : يزيد في الحديث . وهو سَرَّاجٌ مَرَّاجٌ :كذَّاب و مَرَجَ أمْرَه : ضيَّعَهُ ( .
لقد أقبل الشهر الكريم ، وهذه نسماته تملأ الأكوان سكينة وحبورا . تعزِّي المكلومين من أبناء هذه الأمة ، لتأخذ بأيديهم إلى شاطئ النجاة ، وتذكرهم بسُنَّةِ الله في خلقه : ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ) 30/ الشورى . وتعيد إلى وعيهم نتائج غفلتهم عمَّـا أنزل الله من نور وهدى وسكينة ... وتضع أمام أعينهم المخرج الذي لامخرج للأمة في غيره أبدا يقول الله تعالى : (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (106( وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون (107 ( تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۗ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ(108) ، وحاشا لله أن يظلم أحدا . إنها الفرصة السانحة مع قدوم شهر الرحمات والمبرات الربانية ، الشهر الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ، فهلاَّ تآلفنا مع مجالس هذا الشهر ، فقمنا لياليه ، وصمنا أيامه ، ورجعنا إلى هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ولم نجد أفضل من هديه ولن نجد ، وهيهات ...
* شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله
* وجُعلتم فيه من أهل كرامة الله
*أنفاسكم فيه تسبيح
* ونومكم فيه عبادة
* وعملكم فيه مقبول
* ودعاؤُكم فيه مستجاب.
* فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة ان يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه
* فان الشقي كل الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم
* واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه
* وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم
*ووقروا كباركم وارحموا صغاركم وصلوا أرحامكم
* واحفظوا ألسنتكم ، وغضوا أبصاركم عما لا يحل النظر إليه .
* وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعكم
* وتحننوا على أيتام الناس يتحنن على أيتامكم.
* وتوبوا إلى الله من ذنوبكم ، يغفر لكم ، ويبدل سيئاتكم حسنات .
* وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء، في أوقات صلاتكم ، فإنها أفضل الساعات ينظر الله فيها إلى عباده بعين الرحمة، يجيبهم إذا ناجوه ، ويلبيهم إذا نادوه ويعطيهم إذا سألوه ويستجيب لهم إذا دعوه.
*أيها الناس: إن أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم، فخففوا عنها بطول سجودكم، واعلموا أن الله أقسم بعزته أن لا يعذب المصلين والساجدين وان لا يروعهم بالنار يوم يقوم الناس لرب العالمين. *أيها الناس: من فطر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشهر كان له بذلك عند الله عتق رقبة ومغفرة لما مضى من ذنوبه. فقيل: يا رسول الله وليس كلنا يقدر على ذلك فقال صلى الله عليه وآله وسلم : ( اتقوا الله ولو بشربة من ماء، واتقوا النار ولو بشق تمرة) . *أيها الناس: من حسن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جواز على الصراط يوم تزل فيه الأقدام، ومن خفف فيه عما ملكت يمينه خفف الله عليه حسابه، ومن كف فيه شره كف الله عنه غضبه يوم يلقاه، ومن أكرم فيه يتيماً أكرمه الله يوم يلقاه، ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن قطع فيه رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه، ومن تطوع بصلاة كتب الله له براءة من النار، ومن أدى فيه فرضاً كان له ثواب من أدى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، ومن أكثر فيه من الصلاة عليّ ــ صلى الله عليه وسلم ــ ثقل الله ميزانه يوم تخف الموازين، ومن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من ِالشهور. * أيها الناس: إن أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة فاسألوا ربكم أن لا يغلقها عليكم، وأبواب النيران مغلقة فاسألوا الله أن لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولة، فاسألوا ربكم أن لا يسلطها عليكم.
* والصيام لله عزَّ وجلَّ . لايعلم ثوابَ عامله إلا الله عزَّ وجلَّ
* الصيامُ جُنَّةٌ ، وحصن حصين من النار
* الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة
* مَن صام رمضان إيمانا واحتسابا غُفر له ماتقدم من ذنبه
* بَعُدَ مَن أدرك رمضان فلم يُغفَر له ( آمين )
* لله عند كل فطر عتقاء
* مَن سقى صائما سقاه الله من حوضي شربةً لايظمأ حتى يدخل الجنة
* مَن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غُفر له ماتقدم من ذنبه
* السحور كلُّه بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدُكم جرعة من ماء ، فإن الله عزَّ وجلَّ وملائكتَه يصلون على المتسحرين
* هلُمَّ إلى الغداء المبارك . ( تلك دعوة النبي صلى الله عليه وسلم للعرباض بن سارية على السحور )
* قال الله عزَّ وجلَّ : إنَّ أحبَّ عبادي إليَّ أعجلُهم فِطرًا ( من حديث يرويه الحبيب صلى الله عليه وسلم عن ربه )
* إنَّ الصائم تصلي عليه الملائكة .
* مَن اعتكف عشرا في رمضان كان كحجتين وعمرتين .
* ( قد أفلح مَن تزكى ، وذكر اسم ربه فصلى ) ... ( أُنزلت في زكاة الفطر )
* مَن صام رمضان وأتبعه ستًّا من شوال خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمُّه
أجل إنها إضاءات مشرقة على دربك ــ أيها المسلم الصَّوَّام القوَّام ــ من أجل أن تتقن المسيرة إلى الله ... حيث الخلود في دار رحمته ورضوانه ، فلْتكن نيَّتُك خالصة له سبحانه ، وليكن إخلاصك سندا لإيمانك وأعمالك . فالأعمال بالنيات ، والإخلاص مطية الفوز . ( ونفس وما سوَّاها ، فألهمها فجورها وتقواها ، قد أفلح مَن زكَّاها وقد خاب مَن دسَّاها ) 7/10 الشمس . لايكن حظُّك من قيامك التعب والسهر ، ولا يكن حظُّك من صيامك الجوع والعطش ... اجعل لصلاتك وصيامك معنى وروحا ، وأثرا ظاهرا على سلوكك ، لتكون بهذا داعيا إلى الله رب العالمين ... قد يحرز الناس الأموال الطائلة ويوجهون كلَّ طاقتهم من أجلها ، ويُسمون أغنياء وموسرين ... فاجعل غِناك بالله ، لأن العبرة بالباقي الدائم ، وليس بالعرض الزائل ، فستفنى الأموال ، وتبقى الحسنات ، فطوبى لمن كان من موسري أهل جنَّة الخلد بحسناته الباقيات ، فتلك ثمارك ستقطفها بعد موتك ، فبداية الغنى الحقيقي ، والفقر الحقيقي ستكون يو البعث ، فالغني مَن فاز بالجنَّة ، والفقير مَن دخل النار ... يوم تبدل الأرض غير الأرض ، والسماء ... بداية جديدة لعالَم جديد ، فبشراك يابن آدم أيها المسلم الصائم القائم بجنة عرضها السماوات والأرض وفيها : ( إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى ، وأنك لاتظمأ فيها ولا تضحى ) ... ضروريات الحياة التي عايشتها في أرض الحياة الدنيا ــ أيها الإنسان الفائز بالجنة ــ تجد أفضل منها على أرض الجنة ... ففي جنة الخلد مالاعين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .
أبشر أخا الإسلام ، واغتنم الفرصة وابق مع هدي نبيِّك صلى الله عليه وسلم :
أبشر أخا الإسلام ، فوالله أنت الفائز في الدنيا ، وأنت الجدير برحمة الله في الآخرة ، لأنك وجهت وجهك لله وحده ، وتحرجتَ من ارتكاب المآثم والأوزار ، وآليت إلا أن تكون عبدا لله ، وبرهنت على ذلك حين التزمت بأوامر الله واجتنبتَ نواهيه وشهد لك شهر الصوم على ذلك ، يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( مَن صام رمضان وعرف حدودَه ( أي حقوقه ) وتحفَّظ ( أي تحرَّج من ارتكاب الذنوب ) ماينبغي له أن يتحفظ كفَّر ماقبله ) رواه ابن حِبان .
فاجعل ثروتك عملَك الصالح ، وقد خاب مَن أهلك نفسَه في طلب متاع الدنيا وحسب ... يقول : مالي ، ثروتي ، طعامي ، شرابي ، سعادتي !!! ولكن ليس له من دنياه إلا ما أكل فأفنى ومالبس فأبلى ، وإن فقد العمل الصالح فقد خسر ...
فلا تحرم نفسك من اتفاقية الفوز بالآخرة مع تزكيتها بالعبادات ، وصيانتها من الموبقات ، والرقي بها إلى أعلى الدرجات بصلاة وصوم وحج وزكاة ... إذ ليس للإنسان إلا ماسعى .
اخرج بإيمانك بالله ، وثقتك بعفوه وفضله من صراع نفسك مع نفسك في أمور الشهوة الحيوانية من طعام وشهوة ، فلذتها مؤقتة زائلة مع حسرة وندامة إن لم تكن حلالا . واغتنم أيام الله المباركات ، ولا تنس مَن حضر ، إنه شهر رمضان ‘ فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، عن النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( أتاكم رمضان ، شهر بركة يغشاكم الله فيه ، فيُنزلُ الرحمةَ ، ويحط الخطايا ، ويستجيب فيه الدعاء ، ينظر اللهُ إلى تنافسكم ، ويباهي بكم ملائكته ، فأروا الله من أنفسِكم خيرا ، فإن الشقيَّ مَن حُرم فيه رحمة الله عزَّ وجلَّ ) رواه الطبراني .
اجعل لك هجرة إلى ربك في هذا الشهر المبارك ، هاجر من فساد أهل هذا الزمان إلى مواطن العبودية لله ، فإنَّ عبادة في الهرج كهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عن النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم قال : ( مَن تمسَّكَ بسُنَّتي عند فساد أمتي فله أجرُ شهيد ) رواه الطبراني .
كن غدا ملكا من ملوك الجنَّة ، ولا تستخفنَّك بهارج دنياهم ، ولا تستكثر على نفسك أن تكون ملكا مخلَّدا في جنَّات الخلود . يوضِّح لك ذلك معاذ بن جبل رضي الله عنه ، وهو ينقل إليك الخبر الصحيح عن نبيِّك صلى الله عليه وسلم حيثُ قال : ( ألا أُخبركم عن ملوك الجنَّة ؟ ) قال معاذ : بلى يارسول الله . فقال صلى الله عليه وسلم : ( كلُّ رجل ضعيف مستضعف ذو طمرين لايؤبه له ، لو أقسم على الله لأبرَّه ) رواه ابن ماجه . لقد زُيِّن للناس حبُّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ... ولكن صاحب العقل لايأبه بمتاع لايعدو كونه متاع الحياة الدنيا الفانية ، أين فرعون ؟ أين قارون ؟ يقول الله تعالى : ( وللدارُ الآخرة خير للذين يتقون ، أفلا تعقلون ؟ ) 32/ الأنعام .
هذا شهر رمضان ، شهر التقوى ومضاعفة الأجور ، فأقبل فيه على الله بصدق ، وشمِّر عن سواعد الأعمال الصالحات ، وزكِّ نفسك فقد أفلح ــ واللهِ ــ مَن زكَّاها ، فقد دعا نبيُّك صلى الله عليه وسلم فقال : ( اللهم مَن آمن بك ، وشهد أني رسولُك ، فحبِّبْ إليه لقاءَك ، وسهِّلْ عليه قضاءَك ، وأقلل له من الدنيا ...) أجل أقلل له من الدنيا لأن مافيها غير باق ،وما فيها لابن آدم ينفد ، ولكنَّ ماعند الله باق ، والزهد بالدنيا يريح القلب والجسد ، وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَن كانت الدنيا همَّه فرَّقَ اللهُ عليه أمره ، وجعل فقرَه بين عينيه ، ولم يأتِه من الدنيا إلا ماكُتبَ له ، ومَن كانت الآخرةُ نيَّتَه جمع الله له أمره ، وجعل غِناه في قلبِه ، وأتته الدنيا وهي راغبةٌ ... ) .
أيُّها الناسُ : هلمُّوا إلى ربكم فإنَّ ماقلَّ وكفى خيرٌ ممَّا كثُرَ وألهى ... هكذا أخبرنا الحبيب صاحب الحوض المورود صلى الله عليه وسلم . وقد تلا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى : ( مَن كان يريد حرث الآخرة نزدْ له في حرثه ... ) ثم قال : ( يقول الله : ابنَ آدم تفرَّغ لعبادتي أملأْ صدرَك غِنىً ، وأسدَّ فقرَك ، وإلا تفعل ملأتُ صدرَك شغلا ولم أسدَّ فقرك ) ... فهيَّا إلى الله فلديه الغِنى ، وبه النجاة والفوز ، ولديه الفتح والتمكين .
أبشر أخا الإسلام ، لاتقل ذنوبي ، فربُّك غفور رحيم ، وسارع إلى الجنَّة :
( وقال أهل الله ... )
لاتقل ذنوبي ... تقصيري ... قلة عملي الصالح ... لاتخف إنك عبد لمَن بيده الأمر كلُّه ، هلمَّ إليه فإنه يغنيك ويعطيك ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( قال الله تعالى : يابن آدم إنك مادعوتني ورجوتني غفرتُ لك ماكان منك ولا أبالي . يابن آدم لو بلغتْ ذنوبُك عَنان السماءِ ثم استغفرتني غفرتُ لك . يابن آدم لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتني لاتشركُ بي شيئا لأتيتُك بقُرابها مغفرة ) رواه الترمذي . الله أكبر ... الله أكبر ... ما أعظم كرم الله . ولا تنس أن حُسن الظن بالله من حُسن عبادة الله . قصة قصيرة أخبرنا بها النبي صلى الله عليه وسلم وما أكثر القصص في الدنيا ، وما أكثرها في الآخرة والعاقل من اتعظ : يُساق الناس يوم القيامة ، فمنهم فريق إلى الجنَّة ، ومنهم فريق إلى السعير ، وجيءَ بعبد تسوقه الملائكة إلى النار ، حتى وقف على شفير جهنم ، وما أدراك ماجهنم ، في يوم لاينفع فيه مال ولا بنون ، فالتفت ذلك الإنسان ، فلم يجد إلا أن يرفع بصره واثقا بربه وقال : أما والله يارب إن كان ظني بك لحسنا. فقال الله عزَّ وجلَّ ــ وهو أرحم الراحمين ــ أنا عند حسن ظن عبدي بي . هذا شهر الهدى والندى والفرقان ، حسِّنْ ظنَّك بالله ، لاتترك الصلاة ، اقرأ القرآن آناء الليل وأطراف النهار ، تبتَّلْ إلى الله ... وأبشر برحمة من الله ورضوان من سيد ولد عدنان ، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لِيدخلَنَّ الجنَّةَ من أمتي سبعون ألفا أو سبع مئة ألف متماسكون آخذٌ بعضُهم ببعض ، لايدخلُ أولُهم حتى يدخل آخرُهم . وجوهُهُم على صورة القمر ليلة البدر ) رواه البخاري ومسلم . إلى الجنَّة ... إلى الجنَّة : } أول زمرة تلجُ الجنة صورُهم على صورة القمر ليلة البدر ... لايبصقون ولا يتمخطون ولا يتغوطون ... آنيتُهم فيها الذهب ... أمشاطُهم من الذهب والفضة ... ومجامرُهم الأَلُوَّةُ ، ورشحُهُمُ المســــــــــــــك ... لكل واحد منهم زوجتان يُرَى مُخُّ سوقهما من وراء اللحم من الحسن ... لااختلاف بينهم ولا تباغض ... قلوبُهم قلب واحد يسبحون الله بكرة وعشيا . رواه البخاري ومسلم . أيها الناسُ : أتاكم رمضان ... وما أدراكم مارمضان ، فيه الفتح والسؤدد ، وفيه المجد والمباهاة ، وفيه ليلة القدر المنيفة الأثيرة خير من ألف شهر ... أتاكم رمضان شهر بركة يغشاكم الله فيه ــ فبادروا قبل أن يرحل ــ فينزل الرحمة ويحط الخطايا ويستجيب فيه الدعاء ... ينظر الله إلى تنافسكم ، ويباهي بكم ملائكته... فأروا الله من أنفسكم خيرا ... فإن الشقيَّ مَن حُرم فيه رحمة الله عزَّ وجلَّ . رحمة الله ... وما أدراك مارحمة الله ... لاتحيط بها معرفتنا ، ولا يدرك كنها علمنا ... وهيهات ... إنَّ لله عند كل فطر عتقاء ... إنَّ لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة ... إنَّ الله يأمر جنته فيقول لها :استعدي وتزيني لعبادي ، أوشك أن يستريحوا من تعب الدنيا إلى داري و كرامتي ... إلى الجنَّة مرَّة أخرى ... وكم تذاكر أصحاب مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ( الجنَّة ) ... ذاك عبدالله بن أبي الهذيل ، وعبدالله بن مسعود ... في الشام أو في عمان ...وكم كانوا يفرحون وينتفعون بالأعراب إذا جاؤوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شجرة السدر المؤذية في القرآن ، فيتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوههم ويقول : (أليس الله يقول : في سدر مخضود ؟ خضد الله شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة ، فإنها لتنبت ثمرا ، تفتَّق التمرة منها عن اثنين وسبعين لونا من طعام مافيها لونٌ يشبه الآخر عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( لَغَدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ... ولَقابُ قوس أحدكم أو موضع قيده يُعني سَوطه من الجنة خير من الدنيا وما فيها ... ولو اطلعت امرأةٌ من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت مابينهما ريحا ، ولأضاءت مابينهما ، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها ) رواه البخاري ومسلم .
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ،وما قرَّب إليهما من قول وعمل . ونعوذ بك من سخطك والنار ، وما قرَّب إليهما من قول وعمل ، ونبوء لك بنعمك ونعترف بذنوبنا ، فتدارك بعفوك فواتَنا ، واغفر بفضلك هفواتنا ، واجعلنا من عبادك المخلصين .
أبشر أخا الإسلام واسلك طريق نبيِّك تفز الفوز العظيم :
أبشر فلله عاقبة الأمور ... أظنك حزينا على ماحلَّ بالمسلمين ، وأحسبك ممَّن فاضت دموعهم على مافاض من دماء المسلمين ، ولا أشك بأنك المكلوم على كثرة أعداد الشهداء من أبناء الأمة ، الذين قتلتهم أيادي الأعداء والطغاة والفراعنة ، ولكن اصبر وأيقن بأن الشهداء الآن عند ربهم فرحون مستبشرون أحياء عند ربِّهم يرزقون ، وأيقن أن الفرج آتٍ ــ بإذن الله سبحانه ــ فإن الله قوي عزيز ، وأن لله عاقبة الأمور ، وأن تجديد الإيمان يمحق الوهن الذي أصاب القلوب ، وأن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لاتُبقي هذا الحرمان ... حرمان المسلمين من السكينة والرحمة والفتح والفرج . لقد أوجب الله لشهداء هذه الأمة ولكل شهيد في سبيله ما لا عين رأت ولا أذُن سمعت ولا خطر على قلب بشر : ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ* يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران:169 ،170، 171) .
فالدنيا كلها لا تساوي لحظة من رضوان الله الذي أكرم به الشهيد ﴿وَلاَ تَقُولُوا لِمَن يُّقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ﴾ (البقرة:154) وهذه هي سنة الحياة ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ من 155/157 / البقرة . الأمة لن تنسى ولن تتناسى ماحلَّ بها وأصابها من نقص في الأموال والأنفس والثمرات ، ونسأل الله أن لاتنسى الأمة الصبرَ وفعل الخيرات والمبرات ، وأن يهيئ لها بمحض رحمته وجوده أسباب التقوى وعمل الصالحات ، يقول الله تعالى : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) 73 / الأنبياء ، ونسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعل أبناء الأمة وبناتها من أهل الركوع والسجود والفلاح : ( يَا أَيُّهَاالَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُواالْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) 77/ الحج . وأن لايُنسي هذه الأمة أن لها وللخلق جميعا يوما للحساب : ( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )48/ البقرة . فإن اجتمع الخلق أنبأهم ربُّهم بما كانوا يفعلون : ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) 48/ المائدة .
إنها الخيرات التي بيَّنها الله في كتابه العظيم ، وإنها المبرات التي ذكَّر الأمةَ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنه التعاون على مايرضي الله : ( وتعاونوا على البر والتقوى ) 2/ المائدة ، ومن التقوى فعل الخيرات وإسداء المعروف والنصيحة الحانية . ومهما كان العمل الصالح قليلا ففيه خير كثير ، قال علماؤُنا : ( إن الله تعالى شاكر يثيب على القليل بالكثير, عليم بأعمال عباده فلا بضيعها, ولا يبخس أحدًا مثقال ذرة . قال تعالى : (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً ) 9/ الإنسان . أي : ويقولون في أنفسهم: إنما نحسن إليكم ابتغاء مرضاة الله, وطلب ثوابه, لا نبتغي عوضًا ولا نقصد حمدًا ولا ثناءً منكم ) ، فهل من عودة صادقة إلى رحاب سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه , و من كان فى حاجة أخيه كان الله فى حاجته ) رواه البخاري . ( ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة و من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة (.
ولعل الله سبحانه وتعالى يمن على مَن يتولى شأن المسلمين أن يعمل على إعادتهم إلى كتاب الله ، وإلى سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم . فعن أبي مريم الأزدي رضي الله عنه أنه قال لمعاوية رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من ولَّاه الله شيئا من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة ) ، فجعل معاوية رجلا على حوائج الناس . رواه أبو داود والترمذي . فالمسلمون أسرة واحدة ، وبحاجة إلى تعاون أفراد هذه الأسرة مهما اتسعت الرحاب و تناءت الديار ، وتباينت الأعراق والأجناس ، واختلفت اللغات : ( وأن أمتكم هذه أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) ، فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يزال الله في حاجة العبدما دام العبد في حاجة أخيه ) رواه الطبراني . وعن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( على كل مسلم صدقة ) قيل : أرأيت إن لم يجد قال : ( يعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق ) قال : أرأيت إن لم يستطع قال ) : يعين ذا الحاجة الملهوف( ، قال : قيل له أرأيت إن لم يستطع قال : ( يأمر بالمعروف أوالخير ، قال أرأيت إن لم يفعل قال : ( يمسك عن الشر فإنها صدقة ) رواه البخاري ومسلم ، أجل هذا هو الإسلام دين الرحمة والتآخي ، فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما : ( أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن كسوتَ عورته أو أشبعتَ جوعته أو قضيتَ له حاجة ) رواه الطبراني . أجل هذا هو الإسلام دين الضمائر الحيَّة المتلهفة إلى رضوان الله ، قال صلى الله عليه وسلم: ( لقد رأيت رجلأً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين ) رواه مسلم ، وهكذا لم يترك الإسلام بابا من أبواب الخير إلا فتحه لأبناء الأمة ، وضاعف لمَن ولجه المثوبةَ في الفردوس : قال صلى الله عليه وسلم: ( الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار ) متفق عليه . ويكفي الأمة شرفا ومكانة بين الأمم أنها كما قال صلى الله عليه وسلم: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد اذا إشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) رواه احمد ومسلم .
في شهر القرآن العظيم لايمل المؤمن من عمل الخيرات ، وإسداء المبرات لإخوانه من أبناء هذه الأمة أينما كانوا : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ) ، ولا ينسى المؤمن معاني الفوز والفلاح يوم لاينفع مال ولا بنون إلا مَن أتى الله بقلب سليم : ( وَافْعَلُواالْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ، إنه السباق إلى الجنة في هذا الشهر الذي تتضاعف فيه الحسنات : ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ) . مَن مِن المسلمين لايحب الخير وإشاعته بين الناس : ( ومن تطوع خيراً فهو خير له ) لأنه يعلم الجزاء الأوفى عند الله الجواد .
إنها الشريعة الربانية ...
وقد فوَّحتْ أشذاؤُها في شهر رمضان المبارك بالرحمات والتسامح والإخاء ، تتجدد دائما باليسر والرفق ، فلا ضيق ولا حرج في دين الله تبارك وتعالى ، وإنما اليسر الذي يدفع المشقة عن الناس ، وبهذه السِّمات يتحلى سلوك المسلم ويعيش وكأنه قرآن يمشي على وجه الأرض ، أخلاق حسنة ، وسيرة محمودة أثيرة ، وقلوب رحيمة بالضعفاء والمساكين ، وسعي لايمل على مدارج الفضائل والمكرمات ، المسلم وضع نصب عينيه حساب الآخرة ، ونظر إلى يمينه فرأى الجنة ، والتفت إلى شماله فرأى النار , فآثر الفوز بالجنة ، ونعم السعي نحو جنَّات الخلود ، وآثر هجر الموبقات المهلكات ، لينجو من نار الجحيم . وإنها لدلائل التصديق والإيمان بالله تتجلَّى في سلوكه وفي أقواله وأعماله . إن قوة اليقين التي يمنحها الإيمانُ بالغيب هي قوة تحرر النفوس من الأوهام ، وتبعدها عن المحرمات ، وقد أفلح مَن زكَّاها وقد خاب مَن دسَّاها ، هذا اليقين بما عند الله في الغيب يبلور لدى المسلم صفاء وجهته واستقامة منهجه ، ويجعل كُلِّيَّتَه لله ، ولله وحده : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) ، إنها ثمرة قوة الإيمان بالله ، وصدق اليقين الذي لايكدره ريب ، فينطلق المسلم إلى أداء الصوات وإلى أداء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت ، وغلى الجهاد في سبيل الله ، وإلى المشاركة الإيجابية لأبناء أمته في كل مايعود على الأمة بالخير والفتح والسؤدد . ولكل ركن من أركان الإسلام مزاياه ومنافعه ومكانته الاجتماعية ، إضافة إلى الرقي بالنفس ، إن المسلم يناجي ربَّه أثناء الصلاة ، وإنها المناجاة الغالية ، ذات الأُنس والسكينة والشعور بالأمان ، إنه الموقف الرباني لهذا العبد الذي يشعر بأن الله يراه ، وأنه هو بين يَدَي الله عزَّ وجلَّ في خشوعه وخضوعه وفي محبته وأشواقه ، ولا يفوته أن هذا الدين العظيم ، دين التوحيد هو النور الذي ماضاع مَن اقتفى آثاره على مدى الحياة الدنيا في كل عصورها ، وأنه منحَ جميع الأمم التي آمنت بالله حبلَ الأمان الذي يوصلها إلى الفوز برضوان الله ، الرضوان الذي هو غاية المؤمنين من عبادتهم لله رب العالمين .
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ :
حيثُ يجري على الخلق في الليلة المباركة من ليالي العشر الأواخر من هذا الشهر يقدِّرُ الله تبارك وتعالى الآجال والأرزاق ، كما ذكر عبدالله بن عباس رضي الله عنهما . وأن مَن أدرك هذه الليلة فقامها ، وعمل الصالحات الباقيات فيها كان له من الأجر مايعدل عبادة أكثر من ثمانين عاما ، ويغفر الله له ماتقدم من ذنبه . إنها فرصة العمر ، وإنه كرم المولى تبارك وتعالى يتجلَّى في هذه الليلة العظيمة من ليالي شهر الصوم . إنها الليلة المباركة ذات القدر والمكانة ، وموئل الرحمة والرضوان ، وفيها تكتب الآجال والأرزاق وحوادث الزمان كما قلنا ، يقول الله عزَّ وجلَّ : (إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ ) 3/4/الدخان . وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من قامَ ليلةَ القدر إيمانا واحتسابا غُفِرَ له ما تقدَّم مِنْ ذَنْبِهِ ) رواه النسائي .
في هذه الليلة أنزل الله القرآن الكريم ، فكان نداء للإيمان بالله ، وكان إيذانا بالفتح والنصر لهذه الأمة ، وكان ظلا ظليلا للأمن للفرد المسلم وللأمة المسلمة ، فلا يخاف المؤمنون بالله من رزايا نزلت ، ونوائب أحدقت ، وخطوب أظلمت منها الآفاق ، فإن الأمر لله الذي أنزل هذا القرآن : ( لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ”) 4/5/6/الروم ، والله عزَّ وجلَّ تكفَّل بحفظ هذا القرآن ، فلن يُحرَّفَ ولن يتبدل ، كما تكفل الله بحفظ أهله الذين يتلونه آناء الليل وأطراف النهار ، ويعملون بمقتضاه ، أجل تكفل الله بحفظ أهله من لدن نبيِّنا صلى الله عليه وسلم وإلى قيام الساعة . قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ 9/ الحجر .
رُوِيَ أن أبا جَهْلٍ جاءَ والنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي، فَهمَّ بِأَنْ يَصِلَ إلَيْهِ، وَيَمْنَعَهُ مِنَ الصَّلاَةِ، ثُمَّ رجعَّ وَوَلَّى نَاكِصاً على عَقِبَيْهِ مُتَّقِياً بِيَدَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: لَقَدْ عَرَضَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خَنْدَقٌ مِنْ نَارٍ، وَهَوْلٌ وَأَجْنِحَةٌ، فيروى: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ) : لَوْ دَنَا مِنِّي لأَخَذَتْهُ المَلاَئِكَةُ عِيَاناً ) ولما لم يَنْتَهِ عَدُوُّ اللَّهِ أَخَذَهُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَمْكَنَ مِنْهُ، وذَكَرَ الوائليُّ الحَافِظُ في كتابِ الإبَانَةِ له مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بن مغول عن نافِع عن ابن عمر قال: بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ بِجَنَبَاتِ بَدْرٍ إذْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنَ الأَرْضِ في عُنُقِهِ سِلْسِلَةٌ يُمْسِكُ طَرَفهَا أَسْوَدُ، فَقال: يَا عَبْدَ اللَّهِ، اسْقِنِي، فَقَالَ ابن عُمَرَ: لاَ أَدْرِي أَعَرَفَ اسمي، أَوْ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، فَقَالَ لي الأَسْوَدُ: لاَ تَسْقِهِ؛ فَإنَّهُ كَافِرٌ، ثُمَّ اجتذبه، فَدَخَلَ الأرْضَ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُه، فقال: ( أَوَ قَدْ رَأَيْتَهُ؟ ذَلِكَ عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وهُوَ عَذَابُهُ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ) . ولقد صبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم على أذى الكفار وأهل الكتاب في زمانه ، وقصص الإيذاء مبثوثة في سيرته العطرة صلى الله عليه وسلم ، كما صبر أصحابه وأتباعه على أذى أهل الكفر والكتاب ، وعلى ظلم الطغاة والبغاة على مرِّ العصور ، أسوتهم في ذلك نبيُّهم الحبيب صلى الله عليه وسلم ، الذي رفض الجاه والمال والمناصب التي تكفلَ بها كفار قريش وقال لهم : (والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي، على أن أدع هذا الأمر، ما تركته، حتى يظهره الله، أو أهلك دونه ) .
إنه شهر القرآن الكريم ، إنه شهر ليلة القدر : (الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ ) 23 / الزمر . فهل من متدبر لآيات الله سبحانه : ( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ليدبروا آيَاتِه ) 29/ ص ، هل تعود الأمة إلى قرآن مولاها في هذه الأيام المباركات لتجد فتحه وتأييده ورضوانه : ( عطاء غير مجذوذ ) في الدنيا وفي الآخرة ، فرزق الله ماله من نفاد ، وقدرة الله مالها من حدود ، ألم يقرأ المسلمون عن كرم الله وعظيم رحمته وجوده : ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ* سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ ، عبادة الله في هذه الليلة تعدل عبادته ألف شهر ، ويشهد المسلمون فيها الخيرات والمبرات ونزول ملائكة الرحمة : ( وإن الملائكة تلك الليلة أكثر في الأرض من عدد الحصى ) . ومن كان متحريها فليتحرَّها في العشر الأواخر وعلى الأخص في ليلة السابع والعشرين .
﴿ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾
وسوم: العدد 671