ليالي رمضان فرصة استعراض رسالة الله عز وجل الخاتمة لعرض الذوات عليها وقياس المسافة الفاصلة بينها وبين النموذج البشري السوي
من المعلوم أن الله عز وجل لم يهمل الإنسان بعد هبوطه على سطح هذا الكوكب فشمله برحمته ، وتداركه بألطافه من خلال الاتصال به عبر رسائل توجيهية كلف رسلا كراما بتبليغها لتدله على سبل الحياة الكريمة في عاجله، والسعادة الأبدية في آجله ذلك لأن فعل الله عز وجل منزه عن العبث واللهو ، ولا مكان فيه للصدف مصداقا لقوله تعالى : (( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق)) وقوله عز من قائل : (( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون )) فالكون والإنسان فيه مخلوقان بجد وحق، لهذا جاءت رسالات الله عز وجل بالحق . ولما أوشكت فترة الحياة الدنيا على النهاية ختم الله عز وجل الرسالات بالرسالة العالمية الخاتمة ووجهها للناس كافة . ولقد سمى الله تعالى الرسالة الخاتمة قرآنا ، والقرآن مصدر فعل قرأ لأنه سبحانه أراد من الناس مداومة قراءتها علما بأنه لا مندوحة لهم عنها وهي الرسالة التي تغطي جميع ما يكونون عليه في مختلف أحوالهم وهم يخوضون غمار الحياة في وضعية الممتحنين . ولا توجد حال أو وضعية يمر بها الإنسان في حياته لا تتعرض لها الرسالة الخاتمة . إنها رسالة تكشف للإنسان سر وجوده ،والغاية منه، وكيفيته ، وتوجهه في مأكله ،ومشربه ، وملبسه ، و تناسله وتكاثره ، وعلاقاته، ومعاملاته ... ولا مندوحة له عن هذه التوجيهات إذا ما رام سعادة الدارين . والحياة وفق توجيهات هذه الرسالة هي الحق ، وما سواها باطل . فمن أكل أو شرب أو تناسل أو تكاثر أو تعامل... خلافها كان فعله باطلا وعبثا ولهوا ولعبا . وتتناول الرسالة الخاتمة أحداث الماضي لتكون عبرة لمن يتعامل معها في كل عصر ومصر ، كما أنها تتناول أحداث المستقبل المغيب لتحذير من يتعامل معها مما يخفيه هذا المستقبل ، وتتناول أحداث الحاضر الذي يحتضن من يتلقاها لتوجيهه الوجهة المفضية إلى الحياة الكريمة في الدنيا والسعادة الأبدية في الآخرة . ولقد اختار الله عز وجل لتبليغ رسالته الخاتمة للناس كافة الشهر التاسع من السنة القمرية ،وهو شهر رمضان ليكون مناسبة التبليغ ، ففي هذا الشهر أنزلت كل الرسالات السابقة للرسالة الخاتمة ، وفيه أنزلت هذه الأخيرة أيضا كما يخبر بذلك الله عز وجل في قوله عز من قائل : (( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان )) ففي هذا القول ما يدل على زمن نزول الرسالة ، وما يدل على وظيفتها المتمثلة في هدي الناس ليفرقوا بين حياة الباطل وحياة الحق ، وقد نعت الله رسالته الخاتمة بالفرقان للإشارة إلى تفريقها بين الحق الذي وجد به الوجود وهو الأصل ، وبين الباطل الطارىء عليه . وكما أنزل الله تعالى القرآن في رمضان ،فإنه تعبد الخلق فيه بعبادة الصيام مصداقا لقوله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات )) ففي هذه الآية ما يدل على أن ما كتب على الذين آمنوا من أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو صيام شهر رمضان قد كتب على أمم سابقة من قبل . والسر ـ والله أعلم ـ من اقتران نزول الرسالات بعبادة الصيام هو إعداد الخلق لتلقي هذه الرسالات لأن هذا الخلق في حالة الصيام وهو إمساك عن الشهوات يسمو عنها ، ويحقق آدميته الحقة التي أرادها له خالقه جل في علاه . ومعلوم أن عبادة الصيام هي العبادة الوحيدة التي ليس لها ظاهر يمكن أن ينزلق بها إلى الرياء، ذلك أن الإنسان يمسك عن شهوتي البطن والفرج عن قناعة وإرادة في داخله الذي لا يعلمه إلا خالقه، لهذا يصدق الإنسان في طاعة ربه سبحانه حين يصوم ، ومن ثم يكون في درجة عالية من سمو النفس ، وهي حالة يمر بها فتؤهله لتلقي خطاب الرسالة الخاتمة . ولهذا ليس من قبيل الصدفة أن يأمر الخالق جل شأنه الإنسان بالصوم نهارا استعدادا لتلقي الرسالة ليلا في صلاة خاصة . ويكون استعراض هذه الرسالة بكيفية معلومة قوامها القراءة والاستماع والإنصات . أما القراءة فقد أمر بها الخالق سبحانه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، ومن خلاله كلف الخلق بها حيث قال : (( إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه)) كما قال : (( إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة التي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن )) فبموجب هذا النص نجد أن تلاوة القرآن ملازمة لإخلاص العبادة لله تعالى ، وملازمة للانتماء للإسلام . ويأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بترتيل القرآن في قوله : (( ورتل القرآن ترتيلا )) والترتيل كيفية معلومة للقراءة على وجه معلوم من الجودة الممكنة من استيعاب مضامين الرسالة الخاتمة بشكل جيد يفي بالغرض . ويخاطب الله تعالى الناس كافة بقراءة القرآن فيقول : (( فاقرءوا ما تيسر من القرآن )) واليسير من الرسالة الخاتمة فيه تغطية لجوانب من حياة الناس هم في أمس الحاجة إلى من يوجههم فيها إلى الصواب . ومن خصائص الرسالة الخاتمة أنها تخالف الرسائل البشرية التي يتداولها الناس فيما بينهم ، ذلك أن هذه الأخيرة يتحكم فيها الزمان والمكان ، وتفقد قيمتها بتراخي الزمان، وتغير المكان إلا أن الرسالة الخاتمة تتخطى الزمان والمكان ، ولا تبلى بتغيرهما ذلك أن توجيهاتها خالدة وصالحة للإنسان في كل عصر ومصر . واستعراض الرسالة الخاتمة في ليالي رمضان بعد تطهير النفوس بعبادة الصيام هو فرصة لعرض الذوات على مضامينها ، وفرصة لقياس المسافة الفاصل بينها وبين النموذج البشري السوي والمنشود . ومما يشترط في استعراض الرسالة الخاتمة أن يتعامل معها المتلقي وكأنها أنزلت عليه وأنه المستهدف والمخصوص بها والعبرة فيها بعموم ألفاظها لا بخصوص أسبابها ، ذلك لأنها تقدم أحوال نموذجين بشريين ، نموذج إنسان الحق، و نموذج إنسان الباطل لمن يستعرضها ليقيس المسافة التي تفصله عن هذا النموذج أو ذاك أو تصله بأحدهما . وقد يظن مستعرض الرسالة الخاتمة أن حديثها عن هذا النموذج أو ذاك لا يعنيه في شيء إذا كان لا يتدبرها كما أمر الخالق سبحانه وتعالى حين يقول : (( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها )) فمن الأقفال التي تحول دون تدبر القلوب للرسالة الخاتمة الاعتقاد بأن أخبارها عن السابقين لا تعني الذين يستعرضونها في شيء مع أن التدبر فيها يفضي بالضرورة إلى استخلاص العبر والدروس لتنكب حال نموذج إنسان الباطل ونشدان نموذج إنسان الحق . ولقد جعل الله عز وجل وظيفة الرسالة الخاتمة هداية الناس إلى الحق ، وهو ما يدل عليه قوله عز من قائل : (( ألر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد )) وصراطه هو صراط الحق الذي يكسب الإنسان العزة والمحمدة . ومن فاته استعرض الرسالة الخاتمة في رمضان فقد فاتته فرصة تنكب الباطل، و فرصة الظفر بالحق . والمفروض في مستعرض الرسالة الخاتمة أن يغير من حاله أثناء وبعد انصرام الأيام المعدودات من شهر الصيام ، ومن لم يفعل فإنه لم يدرك الغرض من استعراضها، ولم يفد منه شيئا ، وليس له من استعراضها إلا الوقوف وراء المقرئين والمرتلين ،وهو شارد ومشغول عنها. وإذا كان حظ من لا يفيد من عبادة الصيام الجوع والعطش فقط، فإن حظ من لا يفيد من استعراض الرسالة الخاتمة السهر والتعب فقط .
وسوم: العدد 673