أيها الإخوان هذه مهمتنا وتلك ثوابتنا
بسم الله الرحمن الرحيم
أما عن العدة التى نحتاجها فى هذه الفترة فيوصى الإمام البنا الإخوان فيقول :
أيها الإخوان ..
آمنوا بالله واعتزوا بمعرفته والاعتماد عليه والاستناد إليه ، فلا تخافوا غيره ولا ترهبوا سواه. وأدوا فرائضه واجتنبوا نواهيه .
وتخلقوا بالفضائل وتمسكوا بالكمالات . وكونوا أقوياء بأخلاقكم أعزاء بما وهب الله لكم من عزة المؤمنين وكرامة الاتقاء الصالحين .
وأقبلوا علي القرآن تتدارسونه، وعلي السيرة المطهرة تتذاكرونها، وكونوا عمليين لا جدليين؛ فإذا هدي الله قوما ألهمهم العمل؛ وما ضل قوم بعد هدي كانوا عليه إلا أوتوا الجدل.
وتحابوا فيما بينكم ، واحرصوا كل الحرص علي رابطتكم فهي سر قوتكم وعماد نجاحكم ، واثبتوا حتى يفتح الله بينكم وبين قومكم بالحق وهو خير الفاتحين .
واسمعوا وأطيعوا لقيادتكم في العسر واليسر والمنشط والمكره ، فهي رمز فكرتكم وحلقة الاتصال فيما بينكم .
وترقبوا بعد ذلك نصر الله وتأييده .
والفرصة آتية لا ريب فيها ، (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ، بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم:4-5) .
وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، وسلك بنا وبكم مسالك الأخيار المهتدين، وأحياناً حياة الأعزاء السعداء وأماتنا موت المجاهدين والشهداء إنه نعم المولي ونعم النصير .
أيها الإخوان المسلمون ، اسمعوا :
أردت بهذه الكلمات أن أضع فكرتكم أمام أنظاركم فلعل ساعات عصيبة تنتظرنا يحال فيها بيني وبينكم إلي حين؛ فلا أستطيع أن أتحدث معكم أو أكتب إليكم، فأوصيكم أن تتدبروا هذه الكلمات وأن تحفظوها إذا استطعتم وأن تجتمعوا عليها، وإن تحت كل كلمة لمعاني جمة.
أيها الإخوان : أنتم لستم جمعية خيرية ولا حزباً سياسياً ولا هيئة موضعية لأغراض محدودة المقاصد .
ولكنكم روح جديد يسري في قلب هذه الأمة فيحييه بالقرآن، ونور جديد يشرق فيسدد ظلام المادة بمعرفة الله، وصوت داو يعلو مردداً دعوة الرسول صلي الله عليه وسلم
ومن الحق الذي لا غلو فيه أن تشعروا أنكم تحملون هذا العبء بعد أن تخلي عنه الناس.
إذا قيل إلام لكم تدعون ؟ …
فقولوا ندعو إلي الإسلام الذي جاء به محمد صلي الله عليه وسلم والحكومة جزء منه والحرية فريضة من فرائضه،
فإن قيل لكم هذه سياسة !
فقولوا هذا هو الإسلام ونحن لا نعرف هذه الأقسام .
وإن قيل لكم أنتم دعاة ثورة ،
فقولوا نحن دعاة حق وسلام نعتقده ونعتز به ، فإن ثرتم علينا ووقفتم في طريق دعوتنا فقد أذن الله أن ندفع عن أنفسنا وكنتم الثائرين الظالمين .
وإن قيل لكم إنكم تستعينون بالأشخاص والهيئات ... فقولوا : (آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) (غافر:84)،
فإن لجّوا في عدوانهم فقولوا: (سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) (القصص:55) .
وهكدا أخي الكريم
قد علمت ـ أعزك الله ـ أن الإخوان المسلمين رأوا في الإسلام أفضل الوسائل لتهذيب نفوسهم وتجديد أرواحهم وتزكية أخلاقهم، فاقتبسوا من نوره عقيدتهم واغترفوا من فيضه مشربهم .
المطلب الثابت
في فهم الثوابت والمتغيرات
ثوابت الإسلام ومبادئه الأساسية كما وضَّحها القرآن وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتفق عليها علماء الأمة وسلفها؛ أمر مطالب به كل مسلم وكل جماعة تنتمي للإسلام أو تعمل له، ويشكل ذلك مرجعية ورسالة أساسية ليست محل التشكيك أو المراجعة أو التغيير والتعديل.
ففي الإسلام - كما نعلم - منطقتين:
الأولى : قابلة للتغيير والتجديد والتطوير والاجتهاد فيها، وهي منطقة واسعة جداً،
فمعظم الأحكام الشرعية العملية ومعظم أمور الحياة الدنيوية التي جاء فيها الهدي النبوي (أنتم أعلم بأمور دنياكم)
والأشياء التي لا نص فيها من الشرع وهي (منطقة العفو) والتي جاءت رحمة بنا من رب غفور رحيم ومن غير نسيان، منطقة فيها نصوص كلية عامة، ونصوص جزئية قابلة للإفهام والتفسير بقواعد الاجتهاد المضبوطة بضوابط الشرع-.
أما المنطقة الثانية فهي مغلقة لا يدخلها التطوير ولا الاجتهاد ولا التجديد، وتشمل العقائد الأساسية - كما ذكرنا- والأصول الكلية والأحكام القطعية وهي التي تجسد الوحدة العقلية والشعورية، والفكرية والسلوكية للأمة، وهي التي تنطلق منها حضارة الأمة كمقوم أساسي لها ولذلك فهي ثابتة على مرِّ الزمان والمكان.
ولولا هذه الثوابت لوجدنا أمما داخل الأمة، وحضارات داخل الحضارة الإسلامية، ولأصبح الدين عجينة يشكلها من يشاء كما يشاء، ويصبح لكل عصر تصور ودين خاص، وكل قطر له دين خاص، وكل جماعة ليس لها ثوابت تجمعها جميعاً، بل لكل جماعة دين خاص، ولا يصبح عندنا إسلام واحد يوحد الأمة وتقام عليه الحضارة وإنما إسلام متعدد بتعدد الزمان والمكان والأقطار والجماعات واللغات والطبقات، وبذلك يتحقق لأعداء الإسلام هدفهم، فهم يقولون للناس: إن القرآن جاء لفترة معينة هي فترة الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، وبالتالي فهو ليس ديناً خالداً، وليس كتاب الله لكل الناس، وبالتالي فليس هناك حضارة ثابتة للإسلام، بينما رسالة الإسلام جاءت لكل شؤون الحياة العامة لا تختص بها أمة دون أمة على مر العصور والدهور.
وبشيء من الإجمال نستطيع أن نقول: إن الثوابت في الإسلام هي ما أبانه الله لخلقه نصاً وجاء بصيغة قاطعة لا مجال للاجتهاد فيه، فهو لا يتغير بتغير الزمان ولا المكان ولا الأشخاص ولا البيئات، وهذه أحكام جاءت تفصيلية سموا بها عن الجدل، ببنائها على أسباب لا تختلف باختلاف الأزمنة كآيات وجوب الصلاة، والزكاة، والصوم، والمواريث التي حددت أنصبة الوارثين، وتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن كحرمة الزنا، والقذف، والخمر، وأكل أموال الناس بالباطل، والقتل بغير حق، وأكل الميتة، ولحم الخنزير، وما إلى ذلك من أصول العقائد ومسائل الإيمان،
وكذلك وجوب العمل بما أنزل الله، ووجوب العمل بالحديث الصحيح، وأمهات الأخلاق،
أو بمعنى آخر النصوص القطعية في ثبوتها وفي دلالتها من الكتاب والسنة المتواترة سواء كانت الأحكام الدالة عليها معلومة من الدين بالضرورة، أو كانت مما خفي على بعض الناس كأنصبة المواريث مثلاً، أو كانت من المقدرات الشرعية التي لا مجال للرأي فيها وثبتت بالسنة المتواترة كعدد الركعات في كل صلاة، ومواقيت الصلاة وما شاكلها.
هذا بالإضافة إلى الإجماع الصريح المنقول إلينا بالتواتر ولا يجوز الاجتهاد فيه.
ولهذا كانت هذه الثوابت حاكمة ومميزة للسلوك والاعتقاد والتي يعرف بها الأتباع لهذا الدين من غيرهم، لأنها بمنزلة العقائد وهي واجبة الاتباع عيناً على كل إنسان، وبها يتميز المؤمن عن غيره، ولذلك لا يجوز الخروج عليها شرعاً.
المتغيرات:
هي مجال العقل والتفكر والتدبر والاجتهاد في إطار الثوابت القطعية لأن المتغيرات ظنيات، ولذلك من أنكر فيها فهماً معيناً تحتمله الآية كما تحتمل غيره لا يكون خارجاً عن الملة - كما قلنا- لأنه آمن بالثوابت القطعية وما حاد عنها، ولكنه أنكر وجهاً من الظنيات المتغيرة المجتهدة فيها، وكل مجتهد يتبع فيه ما ترجح عنده، وأتباعه على حق ما دام أهلاً للاجتهاد والنظر.
إذ لو كانت الأدلة كلها قطعية ثابتة، لكان في هذا حجر على العقول البشرية، وجمود للأفكار ولأصيب الناس بحرج شديد وتضييق كبير، ولوقفنا عاجزين أمام المسائل المتجددة في كل عصر، والتي يطلب الناس معرفة حكمها، ولا يكون ذلك على الوجه الأكمل إلا إذا نظر المجتهدون في الظن من النصوص، واستنبطوا منها أحكاماً لما يجد من الحوادث، وبذلك تتعامل الشريعة مع مصالح الناس في كل عصر ومصر، بل لو جاءت النصوص كلها قطعية لقال قائل هلا جاءت مرنة حتى لا نكون أمام النصوص آلات لا إرادة لها ولا اختيار ولا إعمال عقل (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) [الملك: 14].
وهكذا يكون الخلاف الفقهي الناتج من الاجتهاد في المتغيرات لا ضرر فيه، ولا مفسدة بل هو توسعة على الأمة في مجال الاختيار، وفسحة أمامهم في طريق العمل، يأخذون من هذه الأحكام ما يحقق مصالحهم، ويتفق مع ما تتطلبه حياتهم، ويرفع عنهم الحرج والضيق، بل كان الاختلاف نفسه مصدر ثروة تشريعية عظيمة، وتراث فقهي رائع، تستوعب حاجات الناس في ظلال شريعة الإسلام الخالدة ما دمنا نحافظ على القطعى الثابت،
وفي هذا يقول عمر بن عبد العزيز: ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالاً. وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا، كان في الأمر سعة.
لذلك قال الإمام أحمد: الخلاف سعة.
ويقول يحيى بن سعيد: أهل العلم أهل توسعة وما برح المفتون يختلفون، فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يعيب هذا على هذا ما دام اجتمع الجميع على الثوابت الحاكمة وكان اجتهادهم في المتغيرات.
وبهذا التصور السليم، والفهم الصحيح للثوابت والمتغيرات، تصبح الثوابت بمثابة القواعد الحاكمة على الأفراد، والإطار الضابط لسلوكهم وتصرفهم والميزان الدقيق الذي يعرف به وجهتهم، بل وبه يتميزون عن غيرهم.
ثم هناك درجة أخرى تُضاف لهذا الأمر، وهو أن يكون لجماعة تعمل للإسلام ولنهضة الوطن بعض الخصائص التي تخص نفسها بها أو يكون لها ثوابت خاصة بها، تلزم أفرادها بها، وليست محل مراجعة منها أو تغيير إلا إذا كانت ستغير مسارها ودعوتها...
ويشترط في هذه الثوابت الخاصة بجماعة ما :
1- ألا تخالف أو تصادم مبادئ الإسلام وأحكامه.
2- ألا يعتبر من تركها أو ترك بعضها وفارق جماعتها، أنه انتقص إسلامه أو أصبح عدوًّا لها أو تنتقص من قدره.
3- أن تكون دعوتها وثوابتها معروفة معلنة، ليست سرية أو غامضة، يفاجأ بها الأعضاء.
وهذه الثوابت بعضها يكون في جانب التصور والفهم والأهداف، وبعضها في المنهج والرؤية، أو في الاختيار الفقهي، أو في المواقف الأساسية، وبعضها قد يكون في الوسائل والإجراءات.
ولأن جماعة الإخوان المسلمين جماعة من جماعات المسلمين، فهي تتقيد بثوابت الإسلام كلها، وتلتزم التزام السلف وأهل السنة والجماعة بها، وهم - أي الإخوان- لا يحتكرون الإسلام لأنفسهم، ولا يتصورون أن كل المسلمين بل هم جماعة من جماعاتهم، وعلى هذا فإن الذي لا ينضم إليهم - أو الذي يخرج عليهم - لا يفقد إسلامه بعدم الانضمام أو بهذا الخروج، ما دام يلتزم بثوابت الإسلام لا يغير فيها ولا يبدل ولا يخرج عليها.
هذا بالنسبة للثابت المستمر المرتبط برؤيتها ومبادئها الأساسية، وهو بخلاف ثوابت المرحلة؛ حيث تحدد الجماعة مدتها ومتى يتم إعادة مراجعتها مثل اللوائح أو الالتزام بآلية أو فعالية معينة في مرحلة ما.
والثوابت الخاصة في دعوة الإخوان ليست فقط لا تخالف أحكام الإسلام، وإنما تحرص أن تكون مستمدة من مبادئ الإسلام وأحكامه، وداعمة لرسالتها وأهدافها العليا.
وهذا الأمر حقٌّ من حقوقها كأي جماعة، ملزم وثابت لجميع أفرادها، أما من هم غير ذلك من أفراد وكيانات، فمع تقديرهم واستمرار التعاون معهم، فليس يلزمهم شيء من ذلك (إلا ثوابت الإسلام العامة) وليس عليهم أن يقتنعوا بتلك الثوابت طالما هم خارج الجماعة وتنظيمها.
وكما أشرنا، فإن الثوابت تعني أنها ليست خاصة بمرحلة من المراحل، أو ظرف من الظروف، وكذلك أنها ليست محلاًّ للمراجعة والتغيير، فهي اختيار الجماعة الثابت.
أما المراجعة والتغيير والتطور فهو يشمل الأمور الأخرى خارج هذا النطاق، ويشمل الوسائل ومجالات العمل والنشاط والبرامج.
وسنشير في السطور التالية بصورة موجزة إلى أهم الثوابت التي تميز جماعة الإخوان، ومن أراد الاستزادة؛ فنحيله إلى كتاب فضيلة الأستاذ جمعة أمين –رحمه الله- "الثوابت والمتغيرات"..
وتشكل رسائل الإمام الشهيد ومنهجه العملي في بناء الجماعة والتحرك بالدعوة مصدرًّا رئيسيًّا لهذا الأمر، وكذلك ما صدر عن قيادة الجماعة بعد دراسة، وأصدرته معبرًا عن رأيها وموقفها بالنسبة لتعدد الأحزاب، والمرأة، والشورى (أو الديمقراطية)، وكذلك ما ثبتت عليه عبر تاريخها ونضالها المستمر.
توضيح للثوابت الخاصة بالجماعة:
1- أنها جماعة من المسلمين ودعوة إسلامية شكلاً وجوهرًا، تلتزم بصبغة الإسلام، وبمنطلقات الإسلام، وثوابته وأهدافه، وترجع إليه وإلى أحكامه في كل أمورها يقول الإمام الشهيد: "لقد أعلنتم من أول يوم أن دعوتكم "إسلامية صميمة" على الإسلام تعتمد ومنه تستمد" ...(رسالة اجتماع رؤساء المناطق).
2- أن أصول الفهم العشرين تشكل أصولاً ثابتة في الفهم عندها فيما تعرضت له من أمور.
3- وأن الباعث لقيام الجماعة والرسالة التي تعمل لها تشكل ثابتًّا من الثوابت.
فالباعث يتمثل في: "الاعتقاد الجازم بأن رضا الله- سبحانه وتعالى- وبراءة ذمتنا يوم العرض عليه، توجب علينا العمل الجماعي لأداء تكاليف الشريعة عامة ولإعلاء كلمة الله- تبارك وتعالى- خاصة وفق الفهم الصحيح للإسلام الذي عبَّرت عنه رسالة التعاليم عمومًا وركن الفهم منها على وجه الخصوص، وينبني على هذا الباعث أن تكون كافة ممارساتنا الجماعية نابعة من المنطلق التعبدي، وأن يكون العمل الجماعي- وكذلك الجماعة- ليست غاية ولا وسيلة ولكنها فريضة، وأن الحاجة إلى الجماعة تظل قائمةً ما دام التكليف الشرعي الباعث على إنشائها لم ينتف".
أما الرسالة التي تسعى الجماعة لتحقيقها فتتلخص في: "العمل على أن تكون كلمة الله هي العليا، بأن تسود قيم وأحكام الإسلام وشرائعه في ربوع العالم ﴿حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ (الأنفال: من الآية 39).
وذلك بالنهوض بالأمة الإسلامية لتتبوأ مكانة أستاذية العالم، وتقوم بواجب الشهادة على العالمين ﴿لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ (البقرة: من الآية 134)، وبالتعاون فيما بيننا على القيام بالتكاليف والواجبات الشرعية المناطة بنا".
4- الأهداف الإسلامية التي حدَّدها الإمام الشهيد للجماعة، ووصفها بمراتب العمل، ووضحها في رسالة التعاليم هي من الثوابت التي تحدد رسالة الجماعة تفصيلاً، وهي باختصار: تكوين الفرد المسلم، والبيت المسلم، والمجتمع المسلم، وتحرير الوطن واستقلاله، وإصلاح الحكومة حتى تكون إسلامية بحق، وتحرير أوطان المسلمين المغتصبة وإقامة الخلافة الراشدة، وأستاذية أمة الإسلام للعالم ونشر دعوة الإسلام فيه.
5- منهج الجماعة في التغيير وتحقيق الأهداف، يقوم على تربية الجيل المؤمن وتربية الشعب التربية الإسلامية التي تشكل الأساس لإقامة الحكم الإسلامي.
يقول الإمام الشهيد: "إن غاية الإخوان تنحصر في تكوين جيل من المؤمنين بتعاليم الإسلام الصحيح، يعمل على صبغ الأمة بالصبغة الإسلامية الكاملة في كل مظاهر حياتها.." (رسالة المؤتمر الخامس صـ188).
6- سمات منهج الإصلاح في الجماعة، وأنه يقوم على التغيير السلمي بالاقتناع والفهم والتربية، واستخدام وسائل النضال الدستوري والكفاح السياسي.
وأنه منهج شامل متدرج، يركِّز على إصلاح الفرد وتربيته وعلى إصلاح المجتمعات وليس عن طريق الفرض أو الإكراه من أعلى.. وكذلك مع إصلاح المجتمعات إصلاح الحكم.
يقول الإمام الشهيد: "ندعو إلى الإسلام والحكومة جزء منه والحرية فريضة من فرائضه".. وأن أساس هذا الإصلاح هو المنهج الإسلامي.
7- أن منهج الجماعة في الإصلاح لا يقوم على الاحتكار أو الانفراد دون الأمة، بل إيقاظها والتعاون مع كل القوى الوطنية، والجماعة من بينهم تعمل وتتعاون وتساعد وتوجه.
8- أنها ترفض أسلوب العنف أو استخدام القوة في التغيير داخل المجتمع، أو تكفير الناس والحكم عليهم، أو استباحة دمائهم وأموالهم، وكذلك ليست الثورة- وهي أقوى مظاهر العنف- أو إشاعة الفوضى من وسائلهم في التغيير (راجع رسالة المؤتمر الخامس).
9- أن دعوتها ومبادئها وصبغتها الإسلامية علنية، لا تخفيها.
10- أنها دعوة عالمية ليست خاصة بقطر من الأقطار، أو مرحلة من المراحل؛ ولكنها مستمرة حتى تحقق كامل الأهداف العليا وتسير بها.
يقول الإمام الشهيد: "والإخوان المسلمون لا يختصون بهذه الدعوة قطرًا دون قطر من الأقطار الإسلامية.." (رسالة إلى أي شيء ندعو الناس صـ47).
11- شمول دعوة الجماعة لكل مجالات الإصلاح، شمول الفكرة الإسلامية، ولا يمكن أن تنحصر في هيئة موضعية أو شكل جزئي (مثل جمعية خيرية، أو حزب سياسي أو نادي اجتماعي... إلخ)، فهذه كلها أجزاء قد تستخدمها، لكن تبقى الدعوة أشمل وأوسع كيانًا وحركة وفكرة من كل ذلك، وأن العمل السياسي جزء من العمل الدعوي لا يمكن الفصل بينهما.
12- موقفها من المرأة، وموقفها من الأقباط، وموقفها من التعددية السياسية ومن تداول السلطة في المجتمع ومن الشورى (أو الديمقراطية) كلها مواقف أساسية ثابتة بناء على روح الإسلام، والترجيح الفقهي لديها وليس مجرد مناورة أو تكتيك مرحلي أو أمر قابل للتغيير والتبديل (راجع رسائل الإمام الشهيد.. ووثيقة الجماعة الخاصة بذلك).
13- موقف الجماعة من القضايا الأساسية: من قضية فلسطين والعمل على استردادها، ومن المشروع الغربي- الأمريكي- الصهيوني ومواجهته، ثابت من الثوابت التي تعمل عليها وتضحي في سبيلها.. ولن تفرط الجماعة في شبر من أرض فلسطين.. ولن تلتقي أبدًا في منتصف الطريق مع المشروع الأمريكي الصهيوني.
14- كما أنه من الثوابت، سمو الدعوة وآداب وأخلاق الداعية المستمدة من منهج الإسلام، وأن يشكل ذلك المرجعية التي تجتهد الجماعة في الالتزام بها، وتقيم عملها الدعوي على أساسه.
15- تشكل أركان البيعة التي حدَّدها الإمام الشهيد، ووضَّح معانيها في رسالة التعاليم ثابتًا من الثوابت (وهي باختصار: الفهم- الإخلاص- العمل- الجهاد- التضحية- الطاعة- الثبات- التجرد- الأخوة- الثقة).
16- أن التنظيم بما يعني وجود القيادة والصف، والارتباط القوي القائم على الحب والأخوة، ومبدأ السمع والطاعة بضوابطه الإسلامية؛ ثابت من الثوابت.
17- أن الشورى والمؤسسية داخل الجماعة من ثوابت التنظيم، ويترك للجماعة اختيار وتطوير الشكل المناسب واللوائح المنظمة حسب الواقع والظروف المتغيرة.
18- أن منهجها في الدعوة، يقوم على "التعريف" والتكوين (التربية)، والتنفيذ العملي كما وضَّحه الإمام الشهيد.
فهي تعمل على نشر دعوة الإسلام، وتكوين الأفراد وتربيتهم، وعلى الحركة بالدعوة في كل المجالات المتاحة، ولا تقتصر على الجانب الفكري دون الجانب التربوي والحركي (فهي جماعة دعوية- تربوية- جهادية).
19- تشكل الأسرة التربوية والكتيبة الروحية ثابتًا من الثوابت في منهجها التربوي، ويترك للقيادة اختيار أفضل الأشكال والبرامج والوسائل لتنفيذ ذلك وفق الظروف المتاحة لتحقيق الهدف منها.
20- أن اسم "الإخوان المسلمين" ببعده التاريخي ومعناه الشرعي، أصبح من الثوابت التي لا تغيير فيها للجماعة في القطر المصري أساسًا، وليس مطروحًا أن تغير هذا الاسم أو تتخلى عنه، وهذا بخلاف الأقطار الأخرى التي قد تواجه ظروفًا تجعلها تتخذ اسمًا آخر؛ لكن يبقى الالتزام بمبادئ الجماعة ومنهجها وثوابتها وقيادتها أمرًا أساسيًّا مستمرًا معها.
وكذلك بالنسبة لشعار الجماعة وهتافها الدائم: "الله غايتنا.. والقرآن دستورنا.. والرسول زعيمنا.. إلخ" هو من الثوابت لفظًا ومضمونًا، وأيضًا شعار "الإسلام هو الحل"، فهو من ناحية المضمون والصبغة ثابت من ثوابت الجماعة والدعوة منذ يومها الأول، ثم في مرحلة أصبح الشعار بألفاظه تلك من الثوابت في شعارات الجماعة مستمر معها، وليس مطروحًا للمراجعة، ويترك لاجتهاد الجماعة في كيفية إبرازه واستخدامه.
ولأنها- أي هذه الشعارات - مرتبطة بالباعث والرسالة والصبغة الإسلامية ، فإننا نعتبرها بمضمونها من الثوابت .
ومعنى ذلك أن الجماعة ليس وارداً أن تلغي هذا الشعار أوتجعله خارج رؤيتها ، ويصبح قرار الجماعة المعتمد هو متى تستخدمه ؟ .
وليس معناه كثابت وجوب أن تعلنه في كل بيان وكل موقف وكل حديث أو لا تضيف عليه ، فكيفية استخدامه وإظهاره ومتى يكون ذلك كلها متغيرات تخضع للتقدير البشري .
كما نفرِّق هنا بين مضمون الثوابت ومعناها، وبين الإجراءات والبرامج والخطط التي تعبر أو تترجم هذا الثابت إلى واقع، فهذه الإجراءات تقبل المراجعة والتعديل مستهدفة التطبيق الأمثل لهذه الثوابت في مواجهة الواقع والظروف المتغيرة.
والتعبير عن هذه الثوابت أو بعضها قد يكون بألفاظ أخرى؛ لكن يبقى نفس المضمون والمعنى الواحد، وقد يكون بتفصيل وتوضيح أكثر أو بإعادة التقسيم للنقاط أو بإيجاز ودمج لها، فكل هذا وارد ومقبول ما دام يعبِّر عن المعنى المطلوب ولا يخلّ بالمضمون الأساسي، ولا يعتبر تغييرًا واختلافًا.
وبعد، فهذه إطلالة مختصرة سريعة على موضوع الثوابت، نسأل الله عز وجل أن يلهمنا الحق والصواب، وهو سبحانه الهادي إلى سواء السبيل.
المبحث الثاني
ملخص بحث
الأستاذ جمعة أمين – يرحمه الله-
حول
منهج الإمام حسن البنا رحمه الله – ثوابته ومتغيراته –
توطئـــــة
ما من فكر أصيل إلا ويرتكز على عمد ممدودة، وجدران قوية، وركائز متينة ثابتة عميقة الجذور، يقام عليها البناء فتتشكل حجراته، وتتنوع أحجامه، وتتغير ألوانه، وتبقى العمد والجدران والركائز ثابتة ثبوت الرواسي، لا يتبدل أساسها ولا تتغير جدرانها ولا تنتقل أركانها.
ولقد علمنا القرآن الكون نفسه قائم على نظام وسنن لا تتغير ولا تتبدل، يحفظ الله بها الكون من الهلاك والدمار" وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون (37) والشمس تجري لمستقرٍ لها ذلك تقدير العزيز العليم (38) والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم (39) لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون". [يس: 37-40] .
فإذا ما اضطربت هذه السنن الثابتة هلك الزرع والضرع بل انتهت الحياة بكل ما فيها “إذا السماء انفطرت (1) وإذا الكواكب اندثرت” [الانفطار: 1، 2] لأن الثوابت هي الأسس التي يقوم عليها البناء في كل زمان ومكان مهما تطاول مستقبل الزمان، وفي كل مكان، مهما تباعدت جهات المكان، وهي لا يختلف عليها أحد من المسلمين لأنها اللب والجوهر.
والفكر الأصيل يقوم بنيانه على هذه الثوابت ولولا المحافظة عليها بل والتضحية من أجلها ما بقيت الجماعة التي تحمل التصور السليم والفهم السديد، من أجل ذلك كان أمر هذه الثوابت في جماعتنا واضح وضوح الشمس في رابعة النهار.
والإمام البنا رضوان الله عليه أوضح هذه الثوابت والمتغيرات في دعوته، ولأنها كانت واضحة تمسَّك بها الأتباع، وحافظوا عليها بل بذلوا النفس والنفيس للإبقاء عليها، ولولا ذلك ما استمرت إلى يومنا هذا منهجاً وحركة، والذين ابتلوا، وصبروا، وعذبوا بل واستشهدوا في السجون والمعتقلات، وما وهنوا واضعفوا وما استكانوا، هم الذين حافظوا على ثوابت الجماعة من الضياع، ولولا هذه التضحيات ما بقي الاسم ولا المسمى، فضلاً عن الكيان والرجال، ويوم أن حاول نفر ممن عذبوا عذاباً شديداً في سجونهم أن ينحرفوا بفكر الجماعة وتصوراتها واعتنقوا فكر التكفير الشاذ، ودعوا إليه في السجون، تصدى لهم علم من أعلام رجالها ومرشد من مرشديها بالتوضيح والتبيين في كتاب (دعاة لا قضاة) مبيناً ثوابت الدعوة التي لا تحيد عنها، واستمسك بالذي تسلمه بأمانة وإخلاص، وحافظ على ثوابت الدعوة من الانحراف، وسار بها في طريقها الذي رسمه وحدده مؤسسها الإمام البنا رحمه الله، وسار على دربه من أقر بعده من الرجال الصادقين قيادة وجنوداً.
وأصبح واضحاً أن للجماعة ثوابت هي بمثابة العقائد لا يجوز الاقتراب منها مداهنة أو مساومة فضلاً عن تبديلها أو تغييرها.
أما المتغيرات عند الجماعة فيحكمها القواعد الشرعية والاختيارات الفقهية، وهي تطور للأحسن في الوسائل والرؤى دون تفلت، وتقدم للإمام دون تهور أو تغير، واجتهاد مع استمرار في الطريق دون جمود أو تحجر، وأخذ بالعصرية دون انحراف أو مداهنة وتلون، وأصالة وتمسك دون تنازل أو تميع، وتعدد للوسائل دون الخروج على الأصول، وكل ذلك في إطار الثوابت الحاكمة لأنه لا يمكن للتغيير أن يحدث ويُحدث أثره إلا في إطارها.
ولأهمية هذا الموضوع كانت هذه الدراسة التحليلية لمنهج الإمام حسن البنا رحمه الله – ثوابته ومتغيراته – وهي محاولة أسأل الله فيها التوفيق فإن أصبت فمن توفيق الله، وإن كانت الأخرى فأسأل الله أن يغفر لي ذنبي، وأن يصوب لي خطئي من عاش ثوابت الجماعة ونافح عنها من أهل الحل والعقد. وفي كلا الحالين أسأل الله الأجر إنه نعم المولى ونعم النصير.
ثوابت الدعوة العشر
ثوابت الدعوة العشر هي:
أولاً: اسم الجماعة فكرة وتاريخاً ووفاء.
ثانياً: العمل الجماعي وسيلتنا.
ثالثاً: التربية ونبذ العنف سبيلنا.
رابعاً: الأسرة محضن التربية عندنا.
خامساً: رسالة التعاليم والأركان العشرة خاصة الأصول العشرين، ورسالة العقائد أساس لنا ومصدر تعلمنا.
سادساً: الشمول والعموم أساس نظرتنا الكلية وفهمنا الشامل.
سابعاً: الشورى الملزمة تحسم الخلاف بيننا.
ثامناً: احترام النظم واللوائح من أخلاق بيعتنا.
تاسعاً: الاختيارات الفقهية للجماعة لا خيرة للأفراد فيها.
عاشراً: الله الغاية في كل ثوابتنا ومتغيراتنا، وكل ما نقول ونعمل.
أولاً: الاسم فكرة وتطبيقاً وتاريخاً ووفاءً
اسم الجماعة علم يعرف به فكرها وتصورها وتاريخها، فبمجرد أن تذكر الاسم يبرز إلى مخيلتك الفكر الذي تحمله، والتصور الذي تدعو إليه، والرجال الذين يحملون فكرتها، وتاريخهم منذ نشأتها وبالأحداث الجسام التي مرت بها، بجهاد رجالها، بتراثها ومعاناتها، وأوصاف وصفات أفرادها.
إن مجرد ذكر اسم الجماعة يبرز إلى الذاكرة كل هذه المعاني فكيف نفرط في هذا الاسم العزيز إلى القلب الشامخ كالطود، إننا لا نرضى به بديلاً، ولو اضطر بعض الأتباع في بعض البلاد اتخاذ اسم غير الاسم لظروف قدّروها تقديراً، وقالوا ليست العبرة بالأسماء ولكن العبرة بالمسميات، إن تعددت أسماء الأبناء، فجميع الأبناء ينتسبون إليها، فهم يعرفون بالانتساب إلى الأصل ولا يجوز للأصل أن يغير من اسمه فبه يعرف الأتباع والأبناء وله ينتسبون.
إن أصحاب المحال التجارية لا يفرطون في اسم الشهرة لمحالهم بعد أن أصبح له قيمة وتاريخ، وأمامنا كثير من المحال التجارية التي ذهب أصحابها بل اندثروا وتركوا الأوطان، ومازالت أسماء محالهم حتى الآن ترددها الألسن، تنتقل ملكيتها من فرد لآخر، ويشتريها المشتري باسمها الذي يرفع من قيمة الشراء لأنه أصبح قيمة مادية، فما بالك إذا أضيف لهذه القيمة المعنوية والتاريخية، فهل يجوز التفريط في هذا الاسم الغالي الذي يذكرنا بأخوة الإسلام.
إن اسم الجماعة هو الرمز الذي يشير إلى الفكرة والتاريخ، وبمجرد ذكر الاسم يتضح للسامع غليه ما يميز هذه الجماعة عن غيرها، فإذا ما ذكر اسمها برز فكرها وتاريخها، والعكس صحيح إذا ما ذكر الفهم والتصور والسلوك والتاريخ تردد اسمها، وبذلك أصبح الفهم والاسم كوجهي العملة لا يصح أحدهما إلا بالآخر، وكم من مرة سوومت الجماعة على تغيير اسمها فكان الرفض حفاظاً على التاريخ الذي يراد له اندثاراً، وأراد له الأتباع انتشاراً وحفاظاً فكان الإصرار على بقاء الاسم.
إن شيوع الاسم بين العامة والخاصة في الداخل والخارج، بين الأحباب والأعداء، بين المنصفين والجاحدين، بين المحبين والمشوهين، تاريخ رجال وذكرى لمؤسس أحبه الأتباع، وبذكره يذكر الإخوان، وبذكر الإخوان يذكر الشهيد الإمام، وخلفه المحتسب الصابر الذي لم تلن له قناة، وقاد السفينة في بجر لجى يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب قاتم، فقادها إلى بر الأمان وكان مرشدها الثابت الأمين، ويذكر الاسم حين يذكر الناس مرشدها الثالث صاحب الصورة المشرقة الصادقة، كما يذكرون مرشدها الرابع الشامخ كالطود، كما يذكرون المرشد الحالي أطال الله في عمره. إنه تاريخ رجال آمنوا بسمو فكرتهم ونافحوا عنها وارتبط جهادهم باسم الجماعة، فبها يذكرون وباسمها يخلدون.
إنه تاريخ أبطال فلسطين وشهداء القتال، وشهداء طرة، ورجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا، كل هؤلاء يذكرون كلما ذكر الاسم الحبيب إلى قلوبهم (الإخوان المسلمون) فكيف نفرط في هذا الاسم الذي غُرس في القلوب بدماء الشهداء وثبات الرجال.
كبرى الحركات الإسلامية:
إن كثيراً من الكتابات التي تصف الجماعة تصفها باسمها، ففي سنة 1947 أصدر الأستاذ الدكتور موسى الحسيني كتاباً بعنوان (الإخوان المسلمون كبرى الحركات الإسلامية الحديثة) وهي دراسة موضوعية كما ذكر الأستاذ الدكتور القرضاوي وقال: إنها دراسة محايدة إلى حد كبير، وقد أنصف الإخوان وعرف الناس إنصافه، بترديده لاسم الجماعة كما عرفوا من هاجمها وتحامل عليها، وتصيد الشبهات لها بل الاختلاق للتهم حين يهاجم الاسم حاقد مثل صاحب كتاب (الإخوان في الميزان) فحين يتحدث مُعادٍ للفكرة مجرد ذكره جماعة الإخوان المسلمين يتبين للناس سبيل الكاذبين وسبيل الصادقين، فيعرفونه إن كان مغرضاً أم منصفاً محايداً أم متحاملاً.
فأصبح الاسم علماً على فكر وفهم، به تعرف وبه توزن، خاصة بعد أن اتسعت الحركة وانتشر اسمها، بعد أن أصبح لها أعضاء مشتركون وأنصار معاضدون في كل أقطار العالم العربي والإسلامي، بل وخارج العالم الإسلامي في أمريكا وأوربا والشرق الأقصى وغيرها من بلدان العالم، وأصبح المتحدثون عنها يتحدثون باسمها للعالم بأثره، فكيف تفرط البلد الأم للحركة في هذا الرصيد الثمين، وتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ولا ضير أن يتغير اسم الفرع ويمتد ويبقى الأصل الذي يعرف به الفرع، بعد أن شاع اسم الأصل، فالأبناء يعرفون بأسماء الآباء، فإن تعدد أسماء الأبناء فاسم الأب واحد لا يتغير وبه يعرفون ويتميزون.
قد يقول قائل:
ألهذا الحد أصبح الاسم وهو اختيار واجتهاد من مؤسس الجماعة لتُعرف به جماعته، يصبح من الأمور الثابتة التي لا تقبل التبديل أو التغيير؟.
فنقول وبالله التوفيق:
نحن لا ندعي أن هذا الاسم من ثوابت الإسلام، فثوابت الإسلام لا يختلف عليها مسلم – كما بيّنا – ولكننا نقول: إنه من ثوابت الإخوان التي لا يجب التفريط فيها للأسباب التي ذكرناها وبسطناها.
وللذين يتعجبون من هذا القول نقول لهم: إن الأحزاب الوضعية لا تفرط في اسمها، لأنه تاريخ بالنسبة للأتباع، فحزب الوفد مثلاً حين أتيحت له الفرصة بالعودة بعد غياب طال إلى عشرات السنين، فحين أراد أتباعه أن يبعثوا فيه الحياة ويعودوا إلى المشاركة في الحياة السياسية اختاروا نفس الاسم "الوفد"
ولما اعترضت الجهات الرسمية مع الاسم لأسباب معلومة، أضافوا إلى الاسم كلمة الجديد ليحتفظوا بنفس الاسم، وأصبح اسم "الوفد الجديد" ذلك لأن الاسم بالنسبة لهم يرتبط بمؤسس اختاره هو الزعيم سعد زغلول ويرتبط بتاريخ عزيز عليهم يذكرهم به الاسم، ولذلك أرادوا بتمسكهم بالاسم أن يذكروا الناس بهذا التاريخ، وهذا فهمهم الذي نشاركهم فيه.
وقسْ على ذلك الكثير، فكيف باسم لا يرتبط بشخص، إنما يرتبط بفكر ومنهج، رسالة رسول فحق للأتباع أن يستمسكوا بالاسم ولا يفرطوا فيه، فبثبات الاسم ودوامه تبقى الذكرى والفهم والتاريخ، ويعرف المبدأ والتطبيق، ولذلك يتوارثه المؤمنون بالفكرة إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، فيبقى الاسم ببقاء الفكر والفكرة والأتباع.
والأمر الذي يدعو إلى التعجب أن بعض المناوئين للفكرة، والمحاربين للمنهج، الكارهين للإسلام يقولون: إذا كنتم تسمّون أنفسكم "الإخوان المسلمون" فمعنى ذلك أن غيركم لا إخوة ولا مسلمون، وهذا ليس بحق أريد به باطل، بل هو بهتان وإثم مبين، وإلا لأصبح بهذا المنطق المعوّج المغرض ينطبق على "الحزب الوطني" فالاسم بهذا المنطق يعني أن غير المنتمين إلى هذا الحزب غير وطنيين،
بل نذهب إلى أبعد من هذا ونقول:
هل يعني أن هناك حزباً مسيحياً في بعض الدول الغربية ويسمى "الحزب المسيحي" ينفي صفة المسيحية لغير أعضائه من المسيحيين.
أليس هذا لوناً من العبث بل من التضليل.
ولن ينتهي اعتراض هؤلاء الناوئين على اسم "جماعة الإخوان المسلمين" بل سيتعدى إلى الجمعية الشرعية، فبمنطقهم الشاذ سيصبح غير المنتمين إلى الجمعية الشرعية غير شرعيين وغير المنتمين إلى جمعية أنصار السنة محاربين للسنة ومعادين لها، ولأصبح غير المنتمين إلى "الجماعة السلفية" من المسلمين غير سلفيين، بل لأصبح الشباب المسلم غير المنتمي "لنادي الشبان المسلمين" غير مسلمين.
إننا نحب هذا الاسم ونتمسك به لأنه يذكرنا بكل معاني الإسلام "إخوة وإسلام" فنحن "الإخوان المسلمون" جماعة من جماعة المسلمين، وكل المسلمين لنا أخوة لهم كل الولاء والحب.
لقد ألهم الله الإمام البنا هذا الاسم الجامع إذ أنه يحمل معاني الإسلام وأركانه معناه ومبناه، فاسم (الإخوان المسلمون) يذكرنا بل يرمز إلى عقدين: عقد الإيمان وعقد الأخوة، وهما ركنان بدونهما لا يتحقق منهج الإسلام، فلا تقوم أركانه ولا يكتمل بناؤه.
إذ بالإيمان تنصلح القلوب ويظهر أثره جلياً حين تجتمع هذه القلوب المؤمنة على محبة الله وتلتقي على طاعته، وتتوحد على دعوته، وتتعاهد على نصرة شريعته، فتتحقق أغلى رابطة بين المؤمنين، هذه الرابطة القيمة التي جعلها المولى سبحانه وتعالى من الإيمان، وجعل فدانها كفراً من الكفران (إنما المؤمنون أخوة) هذا ما يميز جماعة الإخوان: إيمان وأخوة، ومن هنا كان الاسم فكرة وتاريخاً.
وبذلك يكون قد رمز الاسم لأصل الوسيلة التي لا يتحقق المنهج إلا بها ألا وهي الجماعة القائمة على الإيمان والحب، وأحسب أن الله قد ألهم الإمام الشهيد حسن البنا بهذا الاسم الجامع فكيف نفرط فيه؟.
وأخيراً أليس من الوفاء للمؤسس والمربي والمعلم والمرشد أن نخلد ذكراه، وأن يبقى الاسم الذي اختاره، فبقاؤه تخليداً لذكراه واعتراف بفضله، فإذا ما ذكره الاسم ارتبط الاسم به والعكس صحيح.
إن من دلائل حب الولد أحياناً لأبيه أو جده تخليد ذكرى والده بتسمية اسم ابنه باسم جده، فإذا ما ذكر اسم الابن تذكروا جده بأفعاله وأقواله وتوجيهاته وتاريخه، فما بالك بمن يريد أن يغير اسم الوالد والجد؟!
وما بالك حين تمر الأيام وتمضي السنون بعد التغيير، سينسى الأصل تاريخاً وجهاداً وبناءً وتكويناً، بل وربما يندثر ولا يذكر إلا في مناسبة، وفي هذا جفاء وجحود وعدم عرفان بالفضل، قد تؤدي إلى طمس التاريخ، ونسيان الرجال الذين ارتبط جهادهم بالاسم، وارتبط الاسم بهم ..
فهل من الوفاء تغيير الاسم وهو يذكرنا بكل ما يتصل بالجماعة منهجاً وموقفاً وقيادة ورجالاً؟
اللهم لا.
ثانياً: وجوب العمل الجماعي
إن إخلاص القلب، ونقاء الضمير، وطهارة النفس، وصدق القول، وأمانة الأداء كلها من مكارم الأخلاق التي بعث الرسول صلى الله عليه وسلم ليتممها وليكوِّن بها اللبنات الصالحة في مجتمعه.
وعلى امتداد الأحقاب والقرون لم تخلُ أمة من الأمم من مثل هذه اللبنات التي تتمثل في بعض الأفراد الصالحين أو العباد الزاهدين أو الدعاة المخلصين، وحتى أقسى الأمم وأسوؤها لا يمكن أن يكون خلواً من بعض الأفراد الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، ومن يعرفون الخالق بالمخلوق والمنعم بالنعم، والحكيم بالحكمة ويتحلون بالأخلاق الحميدة.
والعبرة في حركة التاريخ أو في نمو الحضارة وازدهارها ليست بوجود الأفراد المخلصين الذين يتصفون بهذه الأخلاق، مهما بلغ صلاحهم وتقواهم وإدراكهم لحقائق الأمور، وإنما العبرة والأهم أن تكون هناك حركة جماعية، وصلاح يشبه أن يكون تياراً قوياً هادراً غالباً لا ضعيفاً ولا مغلوباً، مؤثراً في غيره بالتعريف بدعوته بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، لا يتأثر بغيره، يقول الحق بعزة المؤمن الذي يستمد قوته من الله ثم من الجماعة التي يرتبط بها.
وليس هذا تقليلاً من عمل الفرد ولا ما يتحلى به من صفات كريمة ولكن إحقاقاً للحق الذي ندين به، ذلك لأنه إذا لم ينجح الفرد المخلص في تحويل دعوته إلى تيار عام يحمله المخلصون أمثاله، ويعتصمون بحبل الله ويكونون على قلب رجل واحد في جماعة واحدة كان من الخاسرين “والعصر (1) إن الإنسان لفي خسر (2) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر” [العصر: 1-3] فالاستثناء من الخسران للجماعة التي تتواصى بالحق والصبر وليس للفرد ولو كان مخلصاً.
فإن قال قائل: أنا أستطيع أن أحكم بالإسلام على نفسي، فلا أظلم ولا أزني ولا أسكر، ولا أرابي، وأقيم صلاتي، وأؤدي زكاتي، وأصوم شهري، وأحج إلى قبلتي، وأقوم بكل واجباتي الإيمانية الفردية، وأدعو غيري لذلك ثم أمضي لحالي.
نقول: هذا جميل، ولكن من فعل ذلك كمن أحسن اختيار اللبنات وبدأ بنفسه فأصلحها، ودعا غيره لذلك، ولكن هل نطلق على اللبنات وإن كانت جيدة وصالحة للبناء ولكنها مبعثرة، إنها بناية متعددة الأدوار أو عمارة مرتفعة الطبقات دون أن تجمع هذه اللبنات أو يشد بعضها بعضاً؟.
فهذا حال من دعا إلى ذلك، فكيف نطبق منهاجنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتربوي بل من يقيم الحدود؟ ومن يقيم العدل ويرد الظلم؟ من يحدد الحلال والحرام؟ ومن يحدد أنواع النشاط ووسيلة الكسب؟ من يسوس الأمة ويحمي البيضة وينشر الدعوة ويجاهد الأعداء؟ مَنْ ومن ومن؟.
إن المسلمين إذا لم يحققوا ذلك في واقع حياتهم، واكتفوا بالمشاعر والشعائر فإنهم يقعون في تناقض اعتقادي لا مخرج منه وهم يستمعون إلى ربهم يقول لمن سبقهم وفعل ذلك من الأمم السابقة “أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى اشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون” [البقرة: 85] ، ويسمعون تحذير القرآن لرسولنا صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: “واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك” [المائدة: 49].
فلا يكفي أن يقوم أفراد محتسبون مخلصون من هنا وهنا يعملون متناثرين للإسلام.
وإن كان عملهم مفيداً ومرصوداً لهم في ميزانهم عند الله، فإن الله لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى، وكل امرئ يجزئ بما قدم حسب نيته، وإتقانه، “فمن يعمل مثال ذرة خيراً يره” [الزلزلة:7] “إن الله لا يظلم مثقال ذرة” [النساء: 40].
ولكن العمل الفردي في واقع الأمة الإسلامية المعاصر، لا يكفي لسد الثغرة وتحقيق الأمل المرتجى، بل لابد من عمل جماعي، وهذا ما يوجبه الدين ويحتمه الواقع.
الدين يدعو للجماعة:
فالدين يدعو إلى الجماعة ويكره الشذوذ، فيد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، ولا صلاة لمنفرد خلف الصف ولا لمتقدم عليه، والمؤمن للمؤمن كالبنان يشد بعضه بعضاً، والتعاون على البر والتقوى فريضة من فرائض الدين والتواصي بالحق والصبر أشد شروط النجاة من خسران الدنيا والآخرة.
والواقع يحتم أن يكون العمل المثمر جماعياً، فاليد الواحدة لا تصفق، والمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، ضعيف بمفرده، قوي بجماعته، والأعمال الكبيرة لا تتم إلا بجهود متضافرة، والمعارك الحاسمة لا يتحقق النصر فيها إلا بتضام الأيدي وتعاضد القوى، كما قال القرآن “إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيانٌ مرصوص” [الصف: 4]
يؤكد هذا: أن القوى المعادية لرسالة الإسلام وأمته، لا تعمل بطريقة فردية، ولا في صورة فئات مبعثرة، بل تعمل في صورة تكتلات وتجمعات منظمة غاية في التنظيم، لها هياكلها ولها أنظمتها ولها قيادها المحلية والإقليمية والعالمية،
ومن الواجب علينا أن نواجه أعداءنا بمثل ما يواجهونا به،
لا يجوز لنا أن نقاوم العمل الجماعي بالعمل الفردي، والعمل المنظم بالعمل المبعثر، فالفوضى لا تقاوم النظام، والفرد لا يقاوم الجماعة، والحصاة لا تقاوم الجبل.
والقرآن الكريم يحذرنا من ذلك حين يقول: “ والّذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفساد كبير” [الأنفال: 73] ومعنى “إلا تفعلوه” أي إن لم يوال بعضكم بعضاً ويساند بعضكم بعضاً، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير وأي فتنة وأي فساد أكبر من أن تتجمع قوى الكفر وتتفرق قوى الإسلام، وأن يتلاحم الباطل، ويتمزق الحق، فهذا هو الخطر الكبير والشر المستطير.
عمل جماعي منظم:
ولابد أن يكون العمل الجماعي منظماً، قائماً على قيادة مسؤولة، وقاعدة مترابطة، ومفاهيم واضحة، تحدد العلاقة بين القيادة والقاعدة على أساس من الشورى الواجبة الملزمة، والطاعة المبصرة اللازمة.
فالإسلام لا يعرف جماعة بغير نظام، حتى الجماعة الصغرى في الصلاة تقوم على النظام، فلا ينظر الله إلى الصف الأعوج، ولابد للصفوف أن تتراص وتتلاحم، ولا يجوز ترك ثغرة في الصف دون أن تملأ، فأي فرجة دون أن تملأ يسدها الشيطان، المنكب بجوار المنكب، والقدم بجانب القدم، وحدة في الحركة والمظهر، كما أنها وحدة في العقيدة والوجهة.
يعدل الإمام الصف خلفه حتى يستقيم ويتصل، وينصح من وراءه أن "لينوا بأيد إخوانكم" بالجماعة تقتضي قدراً من الليونة والمرونة لموافقة سائر الصف.
وبعد ذلك تكون الطاعة للإمام (إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبِّروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا قرأ فأنصتوا).
ولا يقبل من أحد أن يشذ أن الصف، ويسبق الإمام فيركع قبله أو يسجد قبله، ويحدث نشازاً في هذا البناء المنظم المتناسق، فمن فعل ذلك يخشى أن يمسخ الله رأسه رأس حمار، ولكن هذا الإمام إذا أخطأ فإن من حق مَنْ وراءه –بل من واجبه- أن يصحح له خطأه، سواء أكان من غلط أم من سهو، وسواء أكان الخطأ في القول أم في الفعل، في القراءة أم في أركان الصلاة الأخرى.
حتى إن المرأة في الصفوف البعيدة تصفق بيدها لينتبه الإمام إلى خطئه.
إنها صورة مصغرة لنظام الجماعة الإسلامية، وما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين القيادة والجندية، فليست إمامة معصومة، ولا طاعة عمياء مطلقة،
هذا ما دعا إليه الإمام حسن البنا حين أسس حركته الإسلامية المباركة ولم يكتف بالخطب والدروس والوعظ والإرشاد العام، على أهميته، بل رأى بنور بصيرته أنه لابد من التكوين بعد التنبيه، ومن التأسيس بعد التدريس كما عبر هو بقلمه وعلم أتباعه أن الجماعة ضرورة شرعية لابد لها من قائم يقوم عليها، وهكذا يكون فهمنا للإسلام، فكلى يقوم لابد له من عمل جماعي منظم.
فليس عناية الإسلام بالفرد إلا ليكون لبنة صالحة في الجماعة التي ستتحمل عبء الدعوة من حيث نشرها والجهاد في سبيل نصرتها، وإقامة الجولة التي دعا الإسلام إلى تشييدها وتدعيم أركانها.
لهذا كانت كل العبادات في الإسلام جماعية أو داعية إلى تدعيم الجماعة، فالصلاة في جماعة تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة، وصلاة الجمعة لا تصح إلا في جماعة، كذلك صلاة العيدين، حتى سنة القيام في رمضان من المستحب أن تكون جماعة.
والزكاة تؤخذ من الأغنياء وتعطى للفقراء فيتعاطف الجميع وتزول الشحناء والأثرة فتتدعم الجماعة،
كما يدفع الصيام الأغنياء على العطف على الفقراء، فيلتئم الشمل وتتحاب الجماعة،
والحج في مظهره ومخبره فريضة جماعية يتساوى فيها الجميع في الملبس والموقف مودعين الدنيا مقبلين على الله
فتتآلف القلوب وتتحد المشاعر، وتقوى رابطة الأخوة فيشتد عود الجماعة، والجهاد يقف فيه المسلمون صفاً كأنهم بنيان مرصوص، فيرضى الله عنهم ويرضوا عنه ذلك لمن خشى ربه،
فجميع العبادات تدعم الجماعة وتقوى الروابط بين أفرادها لتحقق أهدافها السامية.
كمال الإخلاص بالجماعة:
إن العمل الجماعي وصية الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين: "يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار"، "فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية"، "من أراد بحبوحه الجنة فليلزم الجماعة".
يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن الجماعة: إنها حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة خير مما تحبون في الفرقة.
ويقول علي رضي الله عنه: كدر الجماعة ولا صفاء الفرد.
والجماعة – كما قلنا- أفراداً وقيادة ومنهجاً، تنشئ أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، ونصرها محقق بوعد الله لها: بالفهم السليم والإخلاص لهذا الدين: “ وإن جندنا لهم الغالبون” [الصفات: 173] ... “ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإنّ حزب الله هم الغالبون” [المائدة: 56] .
فالإسلام دين يؤمن به أفراد يكونون جماعة يتحرك بهم قائد، كطليعة تتحمل العبء وتعزم على العمل المخلص وتواصل الليل بالنهار، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمعاوية بن خديج عندما جاء مبشراً بفتح الإسكندرية، "لئن نمت النهار لأضيعن الرعية، ولئن نمت الليل لأضيعن نفسي، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية".
إنه أمر فنى عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجمي، وهاجر عليه الأعرابي، حتى حسبوه ديناً لا يرون الحق غيره، وهو لا يقف عند القول للمخطئ إياك والخطأ، ولكن يتعدى ذلك إلى أن يهيئوا للمخطئ مجتمعاً، ويرسموا له طريقاً يعينه على الصلاح يقوم على التعاون على البر والتقوى ليرفع الكلام إلى الأفعال، والنظريات إلى التطبيق، فهل يتحقق ذلك بالفرد ولو كان مخلصاً في عباداته أم بجماعة مترابطة متراصة؟.
لذلك فإنه لا يتم ذلك البناء إلا بالتعارف، والتفاهم، والتكافل الذي يحقق التعاون المطلوب لتحقيق الأهداف السامية للجماعة بروح الأخوة، وعزم الرجال.
ولهذه الحكمة البالغة – جعل الله سبحانه وتعالى الأمة الإسلامية- كلها –أمة دعوة، فينما بعث الله النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى هذه الأمة، وإلى البشرية كافة، ابتعث هذه الأمة المسلمة إلى سائر الناس، والفرق بين البعث والابتعاث، أن الأول خاص بالنوبة، والثاني خاص بالأمة الإسلامية بجهادها ومجاهدتها ودعوتها.
لهذا قال الصحابي الجليل ربعي بن عامر لرستم قائد الفرس حين سأله: ماذا جاء بكم؟.
أجابه على الفور: "إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام"..
ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول للمسلمين: "بلغوا عني ولو آية" فهم مبلغون عن الرسول صلى الله عليه وسلم .
فالإخلاص الذي يتحلى به المسلم ليس لذاته وإن كان مثاباً عليه كفرد، لأن صلاح المسلم وإخلاصه في ذاته كالماء الطاهر، فهو طاهر في ذاته غير مطهر لغيره، والإسلام يطلب من المسلم أن يكون طهوراً وليس طاهراً فحسب، ليكون طاهراً في ذاته مطهراً لغيره، فلابد أن يكون لبنة صالحة يتحلى بأخلاق المسلمين لأنه لا يمكن أن يسود التآلف والترابط والمحبة، والتعاون والإيثار وغير ذلك من الأخلاق الفاضلة التي هي دليل على الإخلاص، ولا يتم التوافق الاجتماعي إلا إذا وجدت الوحدة الأخلاقية، ووجد اتفاق بين الأفراد في السلوك والاتجاه وفهم الأخلاق.
وكل ذلك لا يتحقق إلا في إطار جماعة تضعه موضع التنفيذ.
فالذين يفهمون الإسلام على أنه العبادة الظاهرة فإن أدوها أو رأوا من يؤديها اطمأنوا إلى ذلك ورضوا به وحسبوه لب الإسلام، وأخلصوا لهذا المعنى لا يتعدونه، أنّى لهم بالشعور بوجوب العمل الجماعي، وكذلك الذين لا يرون الإسلام إلا الخلق الفاضل والروحانية الفياضة، والغذاء الفلسفي الشهي للعقل والروح والبعد بهما عن أدران المادة الطاغية الظالمة، هم أيضاً لن يقتنعوا بأهمية العمل الجماعي، أما الذين يعتقدون أن الإسلام دين ودولة ومنهاج حياة هم الذين يؤمنون بوجوب العمل الجماعي.
وهكذا نفهم الإسلام كاملاً متكاملاً رسالة تربية ومنهج حياة بعيداً عن جمود الجامدين، وتحلل الإباحية وتعقيد المتفلسفين، لا غلو فيه ولا تفريط، مستمداً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسيرة السلف الصالحين استمداداً منطقياً منصفاً بقلب المؤمن الصادق عرفناه على وجهه:
عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، وخلق ومادة، وسماحة وقوة، وثقافة وقانون، واعتقدوه على حقيقته، دين ودولة، وحكومة وأمة، ومصحف وسيف، وخلافة من الله للمسلمين في أمم الأرض أجمعين “وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً” [البقرة: 143] .
لهذا الفهم يكون إخلاصاً، فالإسلام –كما نفهم- دين الجماعة، يربي الفرد ليكون مصلحاً لا صالحاً فحسب، لأن الصالح والفاسد لا يتعدى ذاته، ولكن المصلح والمفسد يتعدى الذات إلى الغير “ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلمٍ وأهلها غافلون” [الأنعام: 131].
ويقول سبحانه: “والله يعلم المفسد من المصلح” [البقرة: 220].
إن الصالح – في فهمنا للإسلام- يعتبر شريكاً بسكوته على المنكر، فما الذي يستفيد منه المجتمع بصلاحه الذي يتحلى به، وهو لا يتعاون مع إخوانه ليحققوا مجتمع الفضيلة، إن الساكت على الحق شيطان أخرس “واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب” [الأنفال: 25] ولذلك تسأل السيدة عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "إذا علا الخبث".
وفي الحديث – أيضاً-: "إذا أخفيت الخطيئة لا تضر إلا صاحبها، وإذا ظهرت فلم تغيّر ضرت العامة".
والعمل الجماعي المنظم يقوم على:
قيادة مخلصة مسؤولة (القيادة).
قاعدة (الأفراد) مترابط فيما بينها مخلصة لبعضها (الجماعة).
منهاج بمفاهيم واضحة (الدعوة).
وتقوم العلاقات المحددة فيما بينها على أساس من الشورى الواجبة الملزمة والطاعة المبصرة اللازمة، والإخلاص للفهم والحركة، فإن ارتفع الإخلاص فيما بينها أصبحت كأن تجمع قائم على المصالح والمنافع، وليست جماعة لها مقوماتها وخصائصها وأهدافها ووسائلها، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، لتحقق الخيرية في زمانها الذي تعيشه، وتقود البشرية إلى رشدها، وتحقق قوله تعالى: “وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً” [البقرة: 143] . بوضوح في الفكرة ووحدة في التصور والسلوك، ووحدة الهدف والمصير ووحدة الغاية التي ننشدها.
ولك أن تتصور جماعة حققت كل ذلك فشعرت بعظمة رسالتها، واعتبرت بالانتساب إليها، ووثقت في نصر الله لها، لاشك أن المولى سبحانه وتعالى يؤلف بين قلوب أفرادها “وألّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألّفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم” [الأنفال: 63] ... ويجري النصر على أيديهم ويحقق بهم وعده “وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً” [النور: 55].
لهذا كله فإننا نرى إجماع المسلمين من بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم على من يخلفه ليحفظ الدين، وتستمر الدعوة، ويحمي الأمن، وتبلغ رسالة الإسلام إلى سائر أنحاء الدنيا.
يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لابد للناس من إمارة برة أو فاجرة.
قيل: يا أمير المؤمنين هذه البرة قد عرفناها، فما بال الفاجرة؟
قال: تقام بها الحدود، وتؤمن بها السبل، ويجاهد بها العدو، ويقسم بها الفئ.
ويقول ابن خلدون: إن نصب الإمامة قد عرف وجوبه من الشرع بإجماع الصحابة والتابعين ولم يقل أحد بغير ذلك.
أما الإمام الجويني فيقول: الإمامة إنما تقوم على أصل الإجماع الثابت.
كما يقول الإمام الشهرستاني: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعد خطبته في سقيفة بني ساعدة: ولابد لهذا الدين من قائم يقوم عليه، فناداه الناس من كل جانب: صدقت يا أبا بكر.
ونفس المعنى يقوله الإمام الماوردي: الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين، وسياسة الدنيا.
ولقد صدق القائل: الدين أصل والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، ومن لا حارس له فضائع،
فلكي نحقق أهدافنا وما نصبو إليه كان لابد من تحديد الأهداف التي تسعى لتحقيقها الجماعة وهي:
الفرد المسلم، والبيت المسلم، والشعب المسلم، فالحكومة المسلمة فالدولة التي تقود الدولة الإسلامية وتضم شتات المسلمين، ولذا فإن الجماعة التي تدعو إلى هذا الفهم تعريفاً وتكويناً وتنفيذاً هي التي تعمل على تحقيق هذا الواجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
فلا إسلام – عند الإمام البنا- بدون جماعة، ولا جماعة بدون إمارة، ولا إمارة بدون طاعة، لأن الإسلام نظام وطاعة، وأكبر دليل على ذلك الخطاب القرآني ونداؤه الجماعي “يا أيها الذين آمنوا”
بل إن صدر سورة البقرة تبين أن تحقيق الهدى لا يكون إلا من المتقين وليس المتقى “ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين” ثم عدد ربنا صفاتهم “الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون” فهي صفات جماعية كما رأيت،
بل إن المولى يذكرنا بهذا المعنى حين نردد في كل صلاة “إياك نعبد” بصيغة الجمع.
لأن العبادة بمفهومها الشامل لا يتحقق إلا بإياك نعبد وإياك نستعين، بل إن الهداية نفسها لا تكتمل إلا بالجماعة، لذلك فإننا نقول: اهدنا ولا نقول اهدني. فالهداية الحقة الكاملة التي يهدى إليها القرآن والتي هي أقوم تتحقق بالجماعة ولذلك كانت البشارة للمؤمنين جميعاً مجتمعين وليس للمؤمن الذي يعمل بمفرده.
إننا حين نقول إن الإسلام دين الجماعة، فهذا الفهم دين والمفروض أن يكون من ثوابت أي جماعة من الجماعات التي تدعو إلى الإسلام ولكن حين أهمل هذا الفهم ونساه المسلمون وفصل العلمانيون الدين عن الدولة جدد هذا المعنى الإمام البنا ودعا إلى العودة إليه.
فهو من ثوابت الإسلام نفسه الذي يدعو إلى تحقيق النظام في أقل عدد يتصوره المسلم حتى ولو كان مسافراً، فإن كان بمفرده في سفره فالشيطان معه، وإن كانوا أكثر من ذلك ولو ثلاثة كان لابد من أن يؤمر عليهم أمير "إن كنتم ثلاثة فأمروا أحدكم" فما بالك بمن يريد أن يحي أمة ويقيم دولة ويصنع حضارة، ألا يحتاج هذا إلى تنظيم دقيق وأمير مطاع الجماعة يشعر كل فرد فيها أنه في كيان مطالب أن يقيم دين الله على الأرض عقيدة وشريعة كمنهج حياة يتناول جميع جوانبها؟.
ولا شك أنه إذا قوى إيمان الأفراد اشتد عود الجماعة، وسعت نحو أهدافها تحققها، وإلا تفكك الصف لضعف الإيمان بين الأفراد، أو عدم وضوح الرؤية أو ميل القلب إلى شيء من أمور الدنيا المعوقة عن السير مثل المال، والولد، والأهل، والخلود إلى الراحة، أو اليأس والخوف والفتور الذي يصيب الأفراد أثناء السير، أو الحماس الزائد الذي يتصف به المنبت الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، أو عدم الشعور بالولاء.
وإذا كان الذي نقول هو نهاية المآل وهو واجب المسلمين جميعاً لإقامته، فإن الوسيلة الموصلة إليه من الواجب أيضاً، فالدعوة إلى عدم أهمية العمل الجماعي دعوة لإضعاف المسلمين وتفكيك وحدتهم في زمان لا يعرف إلا التكتلات والتجمعات لتحقيق المصالح، فما بالك بالإسلام الذي يعتبر الجماعة إيماناً والتفرق كفراً.
ولا يتم معني الجماعة في نفس الفرد إلا إذا شعر:
أولاً: بالاعتزاز بانتمائه إليها.
ثانياً: الطمأنينة في وجوده فيها.
ثالثاً: أنها حققت أو تحقق أمانيه.
رابعاً: أنه عضو فيها ولبنة من لبناتها يمدها وتمده، ويشدها وتشده.
خامساً: أنه بها وليس بغيرها وهي إن لم تكن به فبغيره “ وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم” [محمد: 38] “ يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقومٍ يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم” [المائدة: 54].
وهذا هو الفرق بين التجمع الذي لا رابط له ولا رأس ولا منهج، وبين الجماعة التي هي وجدان ووشائج ومشاعر، وترابط وحب، ونظام وأهداف ووسائل، وجند وقيادة غايتها الله، ولذلك كان إصلاح النفس لتكون تقية، وتكوين الأسرة لتكون مسلمة، وإرشاد المجتمع لتسود القيم والمبادئ والأخلاق وشعائر الإسلام ومظاهره في كل أرجائه، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة لتطبيق شرع الله، بالوسائل السلمية والشرعية عن طريق جماعة حققت قوة الحب وقوة الإيمان هي السبيل الوحيد لإقامة شرع الله، وذلك وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا إلى الجماعة والسمع والطاعة في كثير من أحاديثه الشريفة، ولا يتحقق السمع والطاعة إلا بتربية متأنية داخل الجماعة.
ثالثاً: التربية سبيلنا ونبذ العنف مبدؤنا
هذه مدرستنا التربوية:
إن رسول الله لم يكن له منهج إلا القرآن، ولم يكن له من كلية ولا معهد ولا مدرسة تربوية إلا المسجد، وكان تلامذته أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وأضرابهم من أصحابه صلى الله عليه وسلم يتربون في هذه المدرسة، ومن هذه المدرسة المباركة انطلقت حضارتنا الإسلامية تغير الدنيا بمنهاجها، فهل رأيتم مدرسة أزكى وأنبل من هذه المدرسة؟
قوم يجلسون على الحصباء، وجامعتهم مسقوفة بجريد النخيل، يتساقط عليهم المطر، ينتظرون ما يأتيهم من السماء، وحدهم الإيمان، زادت من ترابطهم الوحدة، وهم الحفاة والعراة رعاة الشاه، ولكنهم أعزة بهذا الدين “ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون” [المنافقون: 8].
ومن هذه المدرسة خرج أنبل من عرفت الدنيا من أساتذة الدنيل في كل الفضائل الإنسانية والعلوم والمعارف ، إنها المدرسة التي تهبط فيها الرحمات ، وتتلي فيها الآيات ، وتشرق عليها أنوار رب العالمين ليصبح خريجوها أساتذة الدنيا كلها.
ويلح علينا سؤال : فيم كانت تحلم هذه العصبة التي رباها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيم كانت تفكر؟ وماذا تريد؟ وإلى أي مدى يمتد أمل هذه الكوكبة التي تجتمع في خفية وتتناجى سراً؟ ماذا يريد هؤلاء؟
إنهم يريدون أن يضعوا في رؤوس الناس عقلاً جديداً، وأن يقيموا على ظهر الأرض ديناً جديداً، وأن يبنوا كل البشرية بناء جديداً.
وأن يصلوا بين السماء والأرض وهم يقولون إياك نعبد وإياك نستعين، وهي القليلة في عددها، العزلاء من كل عدة، تريد أن تُهدي للناس بإذن ربها نظاماً جديداً، وإنسانية جديدة.
فجمعت قلوب العباد على رب العباد، ووضعت في القلوب شعوراً جديداً وصنعت بهذا كله خير أمة أخرجت للناس، كما أرادها رب الناس بتربية كان عمادها أموراً ثلاثة، حققوا بها العبودية لله رب العالمين.
أولاً: الإيمان الكامل: هذا الإيمان الذي جردهم من كل هدف إلا هدف دعوتهم، لقد سمعوا النداء، ففروا إلى الله أولاً، واتخذوا "لا إله إلا الله" شعاراً لهم، وهزءوا بكل ما عداها، وسخروا من كل ما سواها.
ما جذبتهم حضارة الفرس ولا الروم، ولا تقدمهم المادي في ذلك الزمان، وما شغلهم تقدم علمي حازه من سبقهم، ذلك لأنهم يؤلهون ما دون الله، والفرس مهما بلغ شأوهم وشأنهم وتقدمهم فهم على ضلال، لأنهم يعبدون شهواتهم وأهواءهم، وأهل الكتاب على ضلال لاتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، وما على الأرض يدور في مدار ضلال لأنه لم يهتد بهدى الله، ولم يستنر بنور الله، هكذا رأوا كل ما حولهم من حضارات، وهكذا علمتهم مدرسة رسولهم صلى الله عليه وسلم .
علمتهم وربتهم على أنهم الحق الصراح، لأنهم تجردوا من وثنيتهم وأهوائهم وشهواتهم، ووهبوا كل هذا لله، فهم لا يعبدون إلا الله، ولا يخضعون إلا الله، ولا يعتمدون إلا على الله، ولا يسألون إلا الله، ولا يتلذذون إلا بشعورهم بالأنس بالله، وحين يألمون لا يألمون إلا لذنب يبعدهم عن الله، هذا الذي جمع بين قلوبهم، بعد أن علموا أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، وأن العاقبة للمتقين، فانمحت الفوارق التي تمزق الجماعات، والتي تباعد بين القلوب لأنهم صبغوا بصبغة جديدة “ صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة” [البقرة: 138].
ثانياً: الحب الوثيق واجتماع القلوب، وائتلاف الأرواح،
فعلام يختلفون؟ على عرض زائل من عرض الدنيا؟ على تفاوت في الرتب والوظائف والألقاب وهم يعلمون “إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم” [الحجرات: 13] فلم توجد عوامل تدعوهم إلى الفرقة التي تمزق وحدتهم وهم صناع التاريخ والحضارة الربانية؟
لذلك اجتمعوا وتوحدوا، وصاروا إخواناً في الله، فلم يحقر أحد منهم أحداً، بل أحب كلٌ أخاه حباً دونه كل حب، حباً بلغ درجة الإيثار، لأنهم قرأوا قول الله تعالى “قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموالٌ اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين” [التوبة: 24] فكان حبهم الله، وبغضهم في الله، وعطاؤهم لله، ومنعهم لله، فاصطبغت حياتهم بهذا الحب الذي سيقاتلون الناس به. على هذا توبوا.
ثالثاً: كما تربوا على التضحية التي دفعتهم إلى تقديم كل ما يملكون من النفس والنفيس لله رب العالمين، حتى أن أحدهم كان يتحرج أن يأخذ شيئاً من الغنيمة التي أحلها الله لهم حتى أنزل المولى فيهم “فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً” [الأنفال: 69].
حتى هذا الحلال تحرصوا منه، وتورعوا عنه، وتركوه حسبة لله تبارك وتعالى، كي لا يكون في أعمالهم شائبة طمع ولا حب دنيا، لذلك خرجوا من الذلة إلى العزة، ومن الغربة إلى الوحدة، ومن الجهالة إلى العلم، فكانوا بناة الحضارة بحق، وهداة البشرية، وعرائس الجنة، كل اكتسبوه بتزكية رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم.
هذا الفهم والتجديد:
إن التطور العصري الجديد ليس قادراً على هضم هذه المعاني التربوية التي يقوم عليها البناء، وربما يقول بعض الناس ما لهذا كله والحضارة الإسلامية؟
ذلك لأن التعاليم الأوروبية وربما الحياة الأوروبية والفكر الأوروبي حال بينهم ويبن فهم مقومات الحضارة الإسلامية، وأن هذا الذي نقوم هو أساسها بل وسداها ولحمتها، فإذا خلت هذه المعاني من أمة فقد تودع منها.
إن التقدم في الأحوال السياسية والاقتصادية التي بهرت كثيراً من الناس، حين انفصلت العلوم والمعارف عن الأخلاق والعقائد والقيم، حتى أصبحت عند غيرنا ثقافة وحضارة، وهي بالنسبة لنا دين نتعبد به لتقوم حضارتنا على الإيمان والأخلاق السابقين، مع الترحيب بكل جديد في العلوم والمعارف والمخترعات، لأن الجديد عندنا ليس في ثوابتنا ولا في قيمنا ومعتقداتنا، إن التجديد عندنا له منطلقاته الإسلامية، وهي فكرة نرحب بها ولا نحاربها،
ولسنا الذين اخترعنا كلمة التجديد، فالذي شرع لنا التجديد هو رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي رواه أبو داود في سننه والحاكم وصححه عدد من العلماء "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"
فالتجديد الديني مشروع ولكن لابد أن يكون بعيداً عن الثوابت وله أصول وضوابط، فمن يجدد ويغير؟ وما الذي يتجدد ويتغير؟.
يجب تجديد دين الأمة، وتجديد فهمها، لتفهمه الفهم الصحيح وتجديد إيمانها به، بحيث لا يكون مجرد شعار يرفع أو دعوة تدعى، وتجديد علمها بهذا الدين، والتزامها به حتى يصبح الإسلام جزءاً من حياتها، تحيا به وتدعو إليه دعوة تعايش العصر، وتواكب التطور، وتستخدم أساليب الزمن، وتخاطب كل قوم بما يناسبهم، فهذا هو التجديد الذي يربى عليه الأفراد، أما ثوابتنا فلا جديد فيها ولا تجديد لها وهذا ما فعله الإمام البنا رحمه الله في زمانه.
لقد أقيمت الدولة في الإسلام بجهد بشري عبر عملية تربوية طويلة متدرجة، تم خلالها صياغة مجتمع متكامل – كيان أمة- انطلاقاً من عقيدة التوحيد الجامعة، التي رسمت الخطوط الأساسية، والأطر العامة التي يُهتدى بها في عملية تأسيس البناء داحضة مبادئ النظم وقواعدها ومحددة مجالات الممارسة والحركة، لتكون الدولة نتاجاً ومحصلة طبيعية لهذا المجتمع العقيدي.
إن جوهر وظائف الدولة الإسلامية، هي القيم الإسلامية الأساسية، فتحقيق وممارسة تلك الوظائف بمثابة إنجاز وتحقيق للمقاصد الشرعية، وبديهي أن المقاصد الشرعية مشتقة نم القيم الأساسية، والقيم لا تتحقق إلا برجال آمنوا بفكرتهم ودعوا لها وضحوا من أجلها.
من أجل ذلك كانت التربية ونبذ العنف هما سبيلنا إلى التغيير.
التربية ونبذ العنف:
وإسلامنا لا يقوم صراحة إلا على كواهل رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، عظمت الآخرة في نفوسهم فلا يعملون إلا الطاعات، وصغرت الدنيا في أعينهم فلا تفتنهم الشهوات، وتحقق اليقين في قلوبهم فلا يتأثرون بالشبهات، فصفت نفوسهم، وطهرت قلوبهم، وسلمت صدورهم، ورجحت عقولهم، وصحت أعمالهم وقالوا: “ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين” [آل عمران: 53].
فأقبلوا على الله بهمة عالية، وإرادة قوية، وعزيمة فتية، وتصميم لا يلين، تدفعهم عقيدتهم، وتوجههم تصوراتهم، فحققوا فكرتهم على أرض الواقع، لأن الفكرة لا تصبح حقيقة واقعة إلا إذا قوى الإيمان بها، وتوفر الإخلاص في سبيلها، وازدادت الحماسة لها، ووجد الاستعداد الذي يحمل صاحبه على التضحية والعمل لتحقيقها.
والفكرة الجيدة يتوقف نجاحها على أمور ثلاثة:
أن يتصورها معتنقوها تصوراً "واضحاً".
أن يؤمن بها أصحابها إيماناً "عميقاً".
أن تجتمع قلوب أهلها اجتماعاً "قوياً".
فيترجموها على أرض الواقع حتى تصبح حياة معيشة.
وتحتاج الفكرة الصحيحة إلى شخصية إسلامية متفردة تسير وفق منهاج رباني، لا يأتيه الباطل من بين يديها ولا من خلفها، تنزل من حكيم حميد، تضع هذه الشخصية نصب أعينها الأسوة الحسنة وخير قدوة محمداً صلى الله عليه وسلم الذي حدد لها تفاصيل طريق العمل، ودلها على الحلال فاتبعته، وعلى الحرام فاجتنبته، وعلمها أن الشر والخير فتنة فصبرت عليه، فهي شخصية فاعلة ولها دورها الأساسي في بقاء المجتمع إذ هي أداة التغيير ووسيلة الإصلاح.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم بين لنا أنه حين تشتد مصائب الأمة ويتواصى أهل الكفر عليها لا ينقذها إلا رجل، فرد مسلم هو صاحب هذه الشخصية الفذة الملهمة فيقول صلى الله عليه وسلم : "إن الله يبعث على رأس كل مائة عام من يصلح أمر هذا الدين".
إنه فرد مسلم رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، يلتزم بكل ما أمر الله به، فيعمل على تطبيقه فيخرج من حظ فسه وهواه ويصطبغ بصبغة الله حتى يقول بيقين: “إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (162) لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين” [الأنعام: 162،163].
إنه لكي يحقق ذلك يحتاج إلى قهر هذه النفس فيملكها، ويحسن قيادتها حتى يشعر بأن نفسه التي بين جنبيه ليست له، بل هي وديعة يصرفها صاحبها كيف يشاء ويأخذها أنّى شاء.
هذا الشعور يولد عنده انتماء لدينه يدفعه للالتزام بمنهاج الله في حياته، حتى يكون هواه تبعاً لما جاء به المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيتقن رسالته التي خلقه الله لها، بل يتعدى ذلك إلى حبها حباً جماً لأنه يرجو أن يلقى الله وهو عنه راض.
إنها شخصية فعالة تؤمن بما تقول وتعتقد، عملها مبني على الدراسة والتطبيق لمنهج النبوة الذي يجعل للعمل هدفاً وغاية، ليصبح للحياة معنى ورسالة.
فهم تعلمناه :
لقد تعلمنا من منهاج الإمام البنا أن كل إنسان قبل أن يصمم على البدء بالخطوة الأولى في مسيرته إلى الهدف الذي رسمه لنفسه، عليه أولا وقبل كل شئ أن يكون مؤمناٌ بهذا الهدف، مؤمناٌ بقدرته على تحقيقه بمشيئة الله وعونه.
ذلك أن من لا يؤمن بهدفه الذي يسعى إليه، ولا يؤمن كذلك بأنه قادر على بلوغ هذا الهدف – بتوفيق الله – حرى به ألا يصل إلى ما يبتغيه لنفسه مهما طال به الانتظار وتمادى عليه الزمن، ذلك لأن الإيمان بالهدف المنشود، والإيمان بالوصول إليه هما الشرطان الأساسيان لكل عمل جاد يأخذ الإنسان نفسه به ويتطلع إلى تنفيذه، ولنا في رسول الله الأسوة الحسنة الذي نشعر في جميع مراحل حياته الشريفة بأنه صاحب قضية حق، فكان صلى الله عليه وسلم دءوباً لا يكل ولا يمل من العمل بالرغم من أن الله وعده بأن هذه القضية مكتوب لها النصر والغلبة، مهما تراخى الزمن.
وبهذا الإيمان وهذا التصور السليم بدأ الإمام البنا، بعد أن وضع أهدافاً محددة ولم يأل جهداً في العمل على تحقيقها وهذه الأهداف التي تلتزم بمنهاج النبوة تعريفاً وتكويناً وتنفيذاً تحتاج لتحقيقها تربية متأنية هي:
إيجاد يقظة روحية إيمانية.
تربية الفرد المسلم تربية شاملة لجميع مناحي الحياة بدنياً وعقلياً وروحياً ونفسياً، تربية تشمل جوانب الحياة جميعها.
تكوين الأسرة المسلمة على أساس هذه التربية.
إيجاد المجتمع المسلم المربى أفراده، والذي يطبق منهج الإسلام في واقعه.د
إعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية لتصبح خير أمة أخرجت للناس.
إحياء الخلافة الإسلامية التي افتقدناها زمناً طويلاً.
إحياء الخلافة الإسلامية التي افتقدناها زمناً طويلاً.
وهذا كله يحتاج إلى عمل دءوب متصل، عمل شعبي منظم للعودة بالإسلام إلى قيادة المجتمع، وتوجيه الحياة – كل الحياة- بأوامره ونواهيه وتشريعاته وتوصياته ليس مجرد كلام يقال، أو خطب تلقى أو محاضرات تنظم، أو كتب تألف ومقالات تنشر، وإن كان هذا كله مطلوباً طلباً مؤكداً لا ريب فيه، ولكنه جزء من حركة وليس هو الحركة والله تعالى يقول: “وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون” [التوبة: 105] فهو عمل شعبي منظم يقوم أساساً على الانبعاث الذاتي والاقتناع الشخصي، إيماناً واحتساباً، وابتغاء ما عند الله لا ما عند الناس.
والأصل في هذا الانبعاث هو هذا التوتر الذي يحس به المسلم حين تدركه الصحوة، ويوقظه الوعي، وتمور به أعماقه، نتيجة التناقض بين إيمانه من جهة، وواقع أمته من جهة أخرى، فينطلق من حبه لدينه، ونصحه لله ولرسوله ولكتابه وأمته، وشعوره بتقصيره وتقصير الناس من حوله، وحرصه على أداء الواجب، واستكمال النقص والإسهام في إحياء الفرائض المعطلة من حكم بشريعة الله، وتوحيد الأمة الإسلامية على كلمة الله، وموالاة أولياء الله، ومعاداة أعدائه، وتحرير الأرض الإسلامية من كل عدوان أو سيطرة غير إسلامية، وإعادة الدولة الإسلامية، أو الخلافة الإسلامية الواجبة شرعاً إلى القيادة من جديد، وتجديد فريضة الدعوة إلى الإسلام، والمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله بكل أنواعه وأدواته باليد أو اللسان أو بالقلب، وذلك أضعف الإيمان بالقواعد الشرعية والمنظمة لذلك، حتى تكون كلمة الله هي العليا.
وكل ذلك يحتاج فهما وتربية، ولذلك كان مضمون الدعوة في مرحلة الإمام حسن البنا هو تحريك الأمة، وتحريك عقولها حتى تفهم، وتحريك قلوبها حتى تؤمن، وتحريك إرادتها حتى تصمم، وتحريك أيديها حتى تعمل.
فالدعوة عمل فكري تنويري يضيء العقول، وهي عمل دعوي تحريضي يحرك المشاعر، وهي عمل تكويني تربوي ينشئ الشخصية الإسلامية السوية، وهي عمل اجتماعي يساهم في حل مشكلات المجتمع وإشاعة الخيرية، وهي عمل اقتصادي يحرر اقتصاد الأوطان المسلمة من التبعية المطلقة للغرب ومن رجس الربا والمعاملات المحظورة، وهي عمل سياسي لإقامة حكم الإسلام وإعادة دولته وتطبيق شريعته، وهي عمل جهادي لتحرير أرض الإسلام من كل سلطان أجنبي بالمنهاج النبوي.
وهذا الذي نقول يحتاج إلى التأكيد على أن الإسلام رسالة تربية قبل أن يكون رسالة تنظيم وتشريع، ورسالة قيم قبل أن يكون رسالة جهاد وقتال، لذلك فهو يحتاج إلى فهم.
أولاً: أن الهدف من تطبيق المنهج النبوي هو إيجاد واقع عملي إسلامي تطبق فيه أحكام الشريعة نصاً وروحاً، لأنه لا يجب علينا أن نطالب الإسلام بإيجاد الحلول العملية لمشاكلنا قبل أن نجد له الواقع الذي نطبق فيه شريعته وأحكامه، وهذا لا يتحقق بالقهر والإجبار ولكن بالتربية والإقناع والإيمان.
ثانياً: أن العمل لتحقيق هذه الأهداف يجب أن يقوم على أساس التخطيط المرحلي، بحيث لا ينتقل العمل من مرحلة إلى أخرى، إلا بعد تحقيق أهداف المرحلة السابقة، وأن يتسم العمل في هذه المراحل بالمرونة، لأن طبيعة العمل في هذه المراحل متداخل مترابط، إذ أن تحقيق أهداف أي مرحلة سابقة سيساعد على تحقيق أهداف المرحلة اللاحقة، كما أن تحقيق جميع هذه الأهداف، سيؤدي حتماً إلى تحقيق الأهداف الكبرى للإسلام، فإيجاد الفرد المسلم سيساعد على تكوين الأسرة المسلمة، وتكوين الأسرة المسلمة سيساعد على تكون المجتمع المسلم وهكذا.
ثالثاً: أن العمل لتحقيق هذه الأهداف يجب أن يقوم على أساس العمل الجماعي، الذي يقوم على أساس وجود قيادة شعبية على رأس طليعة مؤمنة، تعمل لتحقيق قيادة الرأي العام الإسلامي، وتتكتل بعد ذلك الجهود لتحقيق أهداف الإسلام، لأن العمل الفردي أعجز من أن يحقق هذه الأهداف، ولأن دين الإسلام هو دين الجماعة التي تربى أفرادها على هذه المعاني.
المنهج التربوي الإسلامي:
ولقد رسم الإسلام للدنيا هذا المنهج التربوي فوحد العقيدة أولاً ثم وحد النظم والأعمال بعد ذلك لأن وحدة المشاعر سابقة على وحدة الشرائع والنظم، ولقد ظهر هذا المعنى العظيم النبيل في كل فروع الإسلام العملية.
ولقد تعود الناس أن ينظروا في الدعوات إلى مظاهرها العملية وألوانها الشكلية، ويهملون كثيراً النظر إلى الدوافع النفسية والإلهامات الروحية، التي هي في الحقيقة مدد الدعوات وغذاؤها وعليها يتوقف انتصارها ونماؤها، وتلك حقيقة لا يجادل فيها إلا البعيد عن دراسة الدعوات وتعرف أسرارها، وإن من وراء المظاهر جميعاً في كل دعوة لروحاً دافعة وقوة باطنة تسيرها وتهيمن عليها وتدفع إليها، ومحال أن تنهض أمة بغير هذه اليقظة الحقيقية في النفوس والأرواح والمشاعر، وصدق الله القائل: “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” [الرعد: 11].
ولهذا نستطيع أن نقول: إن أول ما نهتم له في دعوتنا وأهم ما نعول عليه في نمائها وظهورها وانتشارها هو الباعث الذي يحي العقول والقلوب والوجدان والمشاعر، فنحن نريد نفوساً يجعلها هذا الباعث حية قوية فتية كما يجعل القلوب متجددة خفاقة، والمشاعر غيورة ملتهبة مضطربة، والعقول واعية مستوعبة، والأرواح طموحة متطلعة متوثبة،
ولابد من أن نحدد هذه الأهداف والمثل، ولابد من أن تركز حتى تصبح عقيدة لا تقبل جدلاً، ولا تحتمل شكاً ولا ريباً، ذلك لأننا نتحرى بدعوتنا نهج الدعوة الأولى، ونحاول أن تكون دعوتنا صدى حقيقياً لتلك الدعوة السابقة التي هتف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بطحاء مكة قبل ألف ومئات السنين، فما أولانا بالرجوع بأذهاننا وتصوراتنا إلى ذلك العصر المشرق بنور النبوة، الزاهي بجلال الوحى والذي رأى العالم نوره بتزكية أفراده وتربيتهم حتى صاروا سادة الدنيا.
إن النبي صلى الله عليه وسلم قذف في قلوب أصحابه الإيمان بعظمة الرسالة، والاعتزاز باعتناقها، والأمل في تأييد الله إياها، فأحيا صلى الله عليه وسلم في قلوب المؤمنين هذه المشاعر، وحدد لهم أهدافهم في هذه الحياة، فاندفعوا يحملون رسالتهم محفوظة في صدورهم أو مصاحفهم، بادية في اخلاقهم وأعمالهم، معتدين بتكريم الله لهم، واثقين من نصره وتأييده، فكانت مدنية المبادئ الفاضلة وحضارة الأخلاق الرحيمة العادلة، بدلوا فيها سيئات المادية الجامدة إلى حسنات الربانية الخالدية، ويأبى الله إلا أن يتم نوره.
هذا الشعور القوي الذي يجب أن تفيض به النفوس، وهذه اليقظة الروحية التي ندعو الناس إليها لابد أن يكون هلا أثرها العملي في حياتهم، ولابد أن تسبقها – ولا شك- نهضة عملية تتناول الأفراد والأسر والمجتمعات.
وستعمل هذه اليقظة عملها في الفرد، فيصبح نموذجاً قائماً لما يريده الإسلام في الأفراد، وسيكون لهذا الاصطلاح الفرجي أثره في الأسرة فإنما الأسر مجموعة أفراد، فإذا صلح الرجل وصلحت المرأة وهما عماد الأسرة، استطاعا أن يكونا بيتاً نموذجياً على القواعد التي وضعها الإسلام، فإذا صلحت الأسرة فقد صلحت الأمة لأن الأمة هي مجموعة هذه الأسرة التي وضعت الإسلام موضع التنفيذ في منهاج حياتها.
إننا نريد الفرد المسلم، والبيت المسلم، والشعب المسلم، ولكننا نريد قبل ذلك أن تسود الفكرة الإسلامية حتى تؤثر في كل هذه الأوضاع، وتصبغها بصبغة الإسلام، وبدون ذلك لن نصل إلى شيء.
لقد ورثنا هذا الإسلام الحنيف واصطبغنا به صبغة ثابتة قوية، تغلغلت في الضمائر والمشاعر ولصقت بحنايا الضلوع وشغاف القلوب، واندمجنا بكليتنا في الإسلام بكليته وعقيدته وشريعته ولغته وحضارته، وهذا كله ميراث عزيز غال لا نفرط فيه ما حيينا، فنحن في حنين دائم إليه يجذبنا إليه روعته وجلاله بأصوله الثابتة وحجته البالغة.
وهذا الإسلام لا يقوم بناؤه إلا على أيدي رجال يجمعهم منهج تربوي عملي تطبيقي، وتوجههم قيادة حكيمة ملتزمة بشرع الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعمل السلف الصالح من هذه الأمة، وينتظمون في جماعة وذلك دين القيمة، يقبلون على الله بهمة عالية وإرادة قوية وعزيمة فتية وتصميم لا يلين، تدفعهم عقيدتهم، وتوجههم تصوراتهم ليحققوا فكرتهم على أرض الواقع.
ومثل هذه المعاني والمناهج لا يحققها إكراه ولا يقيمها إرهاب، ولا تصبح حياة ملموسة إلا بتربية متأنية تجمع بين العلم والعمل ولذلك كانت مهام الرسول صلى الله عليه وسلم كما أخبرنا ربنا “هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين” [الجمعة: 2] تلاوة الآيات، وتزكية الأنفس وتعليم الكتاب والحكمة.
صدى الدعوة الأولى:
وليست دعوة الإخوان بدعاً من الدعوات، فهي –كما رأيت- صدى الدعوة الأولى يدوي في قلوب المؤمنين، ويتردد على ألسنتهم ويحاولون أن يقذفوا به إيماناً في قلوب الأمة المسلمة، ليظهر عملاً في تصرفاتها ولتجمع قلوبها عليه، فإذا فعلوا ذلك أيدهم الله ونصرهم وهداهم سواء السبيل، ولذلك كان هذا الباعث ثابتاً كالطود الأشم، لا يتغير ولا يتبدل بتغير الزمان والمكان والأشخاص، ولا نستطيع أن نتخلى عنه ولا نتفاوض فيه لأنه من معالم النجاح الأساسية للدعوة والرسالة.
وهذه الرسالة تتمثل في هداية البشر إلى الحق، وإرشاد الناس جميعاً إلى الخير، وإنارة العالم كله بشمس الإسلام، فذلك قوله تبارك وتعالى “يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون (77) وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير” [الحج: 77، 78] .
للإمام البنا معارف:
لقد عرف الإمام البنا تاريخ الأمم والنهضات وتاريخ الدعوات والرسالات، وعرف من قراءة التاريخ أن نهضات الأمم ورسالات الأنبياء ودعوات المصلحين لا تنجح ولا تنتصر إلا بالرجال المؤمنين الأقوياء الذين يعتبرون بمثابة البناة والحراس.
وعرف الإمام البنا أن بناء هؤلاء الرجال أهم ما ينبغي أن يعنى به المصلحون، وأن له الأولوية على ما سواه، ويظهر ذلك جلياً في رسالة (إلى أي شيء ندعو الناس، تحت عنوان من أين نبدأ)
يقول: إن تكوين الأمم، وتربية الشعوب، وتحقيق الآمال ومناصرة المبادئ، تحتاج من الأمة التي تحاول هذا أو من الفئة التي تدعو إليه على الأقل إلى قوة نفسية تتمثل في عدة أمور:
إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له، يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه، والمساومة عليه والخديعة بغيره، على هذه الأركان الأولية التي هي من خصوص النفوس وحدها وعلى هذه القوة الروحية الهائلة، تبنى المبادئ وتتربى الأمم الناهضة، وتتكون الشعوب الفتية، وتتجدد الحياة فيمن حرموا الحياة زمناً طويلاً، وكل شعب فقد هذه الصفات الأربعة أو على الأقل فقدها قواده ودعاة الإصلاح فيه، فهو شعب عابث مسكين لا يصل إلى خير ولا يحقق أملاً، وحسبه أن يعيش في جو من الأحلام والظنون والأوهام “إن الظن لا يغني من الحق شيئاً” [يونس: 36] هذا هو قانون الله تبارك وتعالى ونسته في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
وبهذه التربية يكون الفرد المسلم ذلك الإنسان الذي لا يلهث وراء الشهوات والنزوات، أو العابث بالأموال والخيرات، بل يصبح له رسالة تملك عليه حياته حتى يقول: “إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (162) لا شريك له وبذلك أمرت” [الأنعام: 162، 163] .
إن موضوع التربية –ابتداء- من الموضوعات ذات الأهمية الكبرى في حياة الأمم، فالأمم لا ترقى إلا بالتربية على قاعدة صحيحة، والأمة إذا لم يرب أبناؤها تربية صحيحة، اختلت فيها الموازين في جميع مجالاتها الاجتماعية والسياسية والإدارية، والاقتصادية وغيرها.
والتربية هي استثمار الإنسان، فإذا نجح المجتمع في استثمار الإنسان وتوجيه طاقاته، نجح كل استثمار آخر في المجتمع نفسه وأثمر زرعه، والتربية لا تنفصل عن الروح التي سيرت الأمة التي انبثق منها منهج التربية، ومن ثم يجب أن يكون كل نموذج للتربية نابعاً من الروح المسيطرة على ثقافة المجتمع الذي ينتشر فيه، ليصيغ الفرد صياغة ربانية هي نتاج التربية.
فنتاج العملية التربوية الإسلامية هو فرد مسلم على الصورة التالية:
إيجابي يواجه الحياة ويأخذ نصيبه منها، فلا سلبية ولا انزواء ولا فرار من الواقع ولا تسول ولا تواكل، بل سعى في مناكب الأرض.
قوي الإرادة يتصدى ويختار لنفسه ويتحمل مسئوليته كاملة عن تصرفاته، بعد أن يكون قد علم مواضع الخير والحق.
صاحب ضمير يهديه إلى كافة واجباته نحو نفس ونحو المجتمع.
ذو ذكاء، بناء على خبرة وممارسة مواقف الحياة فهو يتأمل ويدرك العلاقات ويبحث عن الحقيقة، وذو حيل في الوصول غليها في أمور الدنيا والدين.
متعطش إلى العلم دائماً ولو في ميدان واحد، فلم يذم القرآن شيئاً كما ذم الجهل، ولم يعرض بأحد كما عرض بالجاهلين.
وهو واقعي لا يتوقع خطأ في الحياة إلا بمقدار ما يعمل، ولا جزاء غلا بمقدار ما يحسن ويتوكل على الله ولا يتواكل.
قوي كريم فلا يترخص في حقوقه ولا يتخاذل أمام ظلم أو عسف، ولا يترخص في واجباته أمام جسامة المسئوليات.
مجاهد بالمفهوم الإسلامي للجهاد وهو يبدأ بمجاهدة النفس في الجهاد في سبيل العلم وفي سبيل العيش وفي سبيل الله، ثم الوطن، وكل جهاد في الإسلام بهذا المعنى هو نوع من العبادة.
أخلاقي فهو يملك صفات منها: الصبر، والشجاعة، والعدل، والفقه، والحلم، والرحمة عند المقدرة، ومساعدة الغير، وإكرام الوالدين، وصلة الرحم، والوفاء بالعهد، والتسامح، والتواضح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والبغي، يقول كلمة الحق ويترفع عن السفاسف في الأمور، وكلها فضائل ذات قيمة اجتماعية وقد تبدو هذه الصفات صعبة أو مثالية، والحقيقة أنها ليست كذلك متى التزمت التربية بها.
وهكذا تتحدد مهمة التربية إزاء الفرد في وضوح وتظهر معالم التربية الإسلامية، كام يجب أن تكون عند المسلمين بلا نقل ولا اقتباس ولا تطفل على أفكار الغربيين والشرقيين، وبلا خروج من جلودنا لنلهث وراء الآخرين.
ضوابط العملية التربوية:
- الواقعية العملية والتدرج في الخطوات: فمع شمول التصور وثبات الغاية وعدم تجزئتها، هناك المرحلية العملية في مواجهة الواقع بما يناسب الظروف المحيطة والإمكانات المتاحة، بما يضمن الوصول إلى الهدف في النهاية.
- تنبثق وترتبط كل حركة وعمل تربوي بالغاية الكبرى، وبالهدف المطلوب فغايتنا الأساسية هي: الله سبحانه وتعالى.
- والهدف العملي هو إقامة دولة الإسلام بتربية وتكوين جيل جديد من المؤمنين بتعاليم الإسلام الصحيح، يعمل على صبغ الأمة بالصبغة الإسلامية في كل مظاهر حياتها.
وأن يعيش الفرد هذا الإحساس، ويستشعره في حركته الفردية والجماعية، وداخل هذا الإطار سيتحدد نوع الحركة المطلوبة ومداها وكيفيتها وبالتالي أسلوب تربيتها.
- معرفة مرحلة الدعوة ليتحدد أسلوب التربية، ففي مكة كانت التربية بالشدة ابتلاء، وقيام الليل بناء، وفي المدينة كان للمسجد دوره المعروف تعريفاً وتربية وتعليماً وتطبيقاً، والأخوة تعميقاً وتكويناً وسلوكاً.
- أن تراعى القواعد الأصولية، فدفع الضرر مقدم على جلب المصلحة، وتفويت أدنى المصلحتين، واحتمال أخف الضررين، وهكذا يضغط الفرد حماسته وحركته فلا يتقدم ولا يتأخر عن الصف، ويكون وقافاً لما يطلب منه، ويسمع ويطيع ويسعى لتحقيق رباط الوحدة الصادقة.
- وسيلة التغيير هي الفرد المسلم فهو يصلح نفسه، ويدعو غيره ويقيم دولة الإسلام في نفسه.
ووسيلتهم ترتكز على:
أ- تغيير العرف العام، ونشر الفكرة وكسب الأنصار.
ب- تربية أنصار هذه الدعوة على هذه التعاليم، وتكوين الركائز التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي.
ويظهر الأثر والنتيجة حين تعم تعاليم الرسالة المجتمع، ويكثر الأنصار ويتماسك البناء بقوة العقيدة، وقوة الوحدة.
ويجب أن نتنبه إلى أن خطواتنا محددة، فهي سلم يبدأه الأفراد بالإسلام وينتهي بالإحسان، مروراً بالإيمان والتقوى، وعلى المربين توجيه طاقاتهم، وشحذ همتهم، وتطهير روحهم، ودفعهم دفعاً إلى التجاوز والاختراق من أجل الوصول إلى القمة التي يطمح إليها كل منتمٍ لهذا الدين ليصل إلى الإحسان، والإبداع التام والتقابل الذي لا يحجبه شيء بين الله والإنسان "أن تعبد الله كأنك تراه".
والناس في الأعم الأغلب يمشون إلى أهدافهم أو يهرولون إليها، ولكننا في الإسلام نجد أناساً يقطعون المسافات الطوال والقرآن يصفهم “أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون” [المؤمنون: 61] إنها المسارعة، والسبق.
فالانتماء إلى الإسلام يعني الموافقة على العمل المبرمج المرسوم، الإيمان بالله يعني التحقق بالقناعات الكافية بجدوى هذا العمل، والشعور في كل عمل بأن الله يراقبه وتلك هي التقوى.
أما الإحسان فهو الإبداع الكامل في كل ما يقدمه الإنسان، وهو يسمع توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه"، وهذا كله يتطلب منهجاً تربوياً نلتزم به لنصل إلى الهدف المنشود بعد أن يضع الفرد المسلم بمجرد انتمائه لهذا الدين، نفسه وقدراته في سياق واحد، وتوجه واحد، ومجرى واحد مع خلائق الله كافة وسننه ونواميسه، فإذا به طاقة منتجة، محققة للآمال الكبار “يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه” [الانشقاق: 6].
إن الفرد المسلم هو اللبنة الأساسية في البناء، سواء في بناء البيت المسلم أو المجتمع المسلم أو الحكومة المسلمة، وبقدر ما ينال الفرد من قسط وافر من التربية بقدر ما يكون البناء متيناً، فأي تقصير في مجال التربية للأفراد يعتبر ضعفاً في الأساس يعرض البناء إلى الانهيار إن عاجلاً أو آجلاً.
فلابد من مرحلة يُركز فيها على التربية والبناء؛ لأن الجهود التربوية تضمن سلامة سير العمل بخطواته المحددة، والبعيد عن الانحراف، وتلافي الفتن والفتوة، والتهور والتسرع، لأنها ضوابط شرعية، وسنة عملية ربى عليها صلى الله عليه وسلم أصحابه الذين أسسوا دولة الإسلام.
الإيمان قبل النظم والهياكل:
إن الحياة الإسلامية لا تبنيها النصوص والنظم والهياكل فقطن إنما يرفع قواعدها، ويثبت أركانها المؤمنون بها، المضحون من أجلها العاملون لتحقيق أهدافها
فليس لقانون إسلامي فرصة تغيير بدون أفئدة ملدوغة تتعبد بتطبيقه، إنها الاستقامة “واستقم كما أمرت” [الشورى: 15] لذلك كان عمر بن الخطاب –رضوان الله عليه- يوصي جنده بالتقوى قبل النزال ويقول: "أخوف ما أخاف عليكم الذنوب، فإن ذنوب الجيش أخوف عليه من عدوه".
وكان أبو الدرداء – رضي الله عنه- يقول: "أيها الناس، عمل صالح قبل الغزو، فإنما تقاتلون بأعمالكم".
وكان الفضيل بن عياض يقول للمجاهدين إذا أرادوا أن يخرجوا: "عليكم بالتوبة، فإنها ترد عنكم ما لا ترده السيوف".
ولذلك حين أطل الإمام أحمد بن حنبل ببصيرته، فرأى إهمال الثقات، وصعود النكرات، وتمكين أهل البدع، وتوسيد الأمور إلى غير أهلها قال: "إذا رأيتم اليوم شيئاً مستوياً فتعجبوا".
ذلك لأنه إذا غلبت الأهواء أعراف الإيمان في تزكية الرجال، وصار "يقال للرجل ما أعقله، وما أظرفه، وما أجلده، وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان" حتى تصبح مراكز الحكم يعتليها الظلمة، ويتصدرها الفسقة، ويصبح الجهال صدور مجالس العلم، يومها قل على الدنيا العفاء، لأن الفجار سيعلون على الأبرار.
إن السير بالدعوة، وممارسة الحركة تحتاج إلى مراحل، كل مرحلة توصل لأختها، لذلك وجدنا الإمام البنا رضوان الله عليه حدد المراحل من تعريف وتكوين وتنفيذ، كما حدد الخطوات والأهداف المرحلية بإيجاد الفرد المسلم النموذجي، البيت المسلم المؤسس على التقوى، والمجتمع المسلم المتجاوب مع دعوة الله، والحكومة الإسلامية، ويتم ذلك على مستوى الشعوب والأقطار الإسلامية ثم تكون الدولة الإسلامية ثم أستاذية العالم بإذن الله.
وللتعريف وسائله من دروس ومحاضرات وندوات ومؤتمرات، ونشرات ورسائل وصحف ومجلات، ومدارس ومستشفيات وأندية رياضية ومؤسسات اقتصادية، وكذا مجال البر والخدمات الاجتماعية إلى آخر ذلك.
وللإعداد والتكوين وسائله، من قيام ليل، إلى صيام نهار، إلى أذكار وأوراد، إلى مخيمات، ورحلات ورياضة وجوالة، وغير ذلك من التكاليف والواجبات، كل ذلك من الوسائل التي تعمق صفات المسلم العامل من فهم، وإخلاص وعمل، وجهاد، وتضحية، وأخوة، وطاعة، وثقة وتجرد، وثبات، وغير ذلك من الصفات التي تبني الرجال.
ولم يكتف الإمام البنا بالاهتمام بقوة العقيدة والتربية الفردية، ولكن ركز على قوة الوحدة والرابطة بين الأخوة كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين آخى بين المهاجرين والأنصار، وهذه الأخوة لها أهميتها على طريق الدعوة وفي مجالات الحركة والجهاد بما لا يدع للأعداء ثغرات ينفذون منها إلى الصف “إنّ الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص” [الصف: 4].
لذلك جعلها الإمام ركناً من أركان البيعة، إنها تربية ومعاناة لها آثارها وثمارها.
فإن كنت ممن يأخذ الأمر بقوة وثبتك الله على طريقه، وحبب إليك الإيمان وزينه في قلبك، وكره إليك الكفر والفسوق، والعصيان، وأصبحت من الراشدين فضلاً من الله ونعمة، تآلفت مع هذه القلوب التي اجتمعت على محبته، والتقت على طاعته، وتوحدت على دعوته، وتعاهدت على نصرة شريعته، فكنت أنت وإخوانك من الذين آمنوا بسمو دعوتهم، وقدسية فكرتهم، وعزموا صادقين، على أن يعيشوا بها أو يموتوا في سبيلها، وتحققت فيك صفات المجاهدين خلقاً وسلوكاً، ولك أن تتصور مجتمعاً هذا فهمه وهذه لبناته وهذا هو ترابطه ووحدته يردد “إياك نعبد وإياك نستعين (5) اهدنا الصراط المستقيم (6) صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين”.
ولذلك كان لابد للمربين من صفات يتصفون بها، وأخلاق يتحلون بها، وسمات يعرفون بها، يحققون القدوة في أنفسهم ليتربى على أيديهم رجال يحققون الأهداف الغالية السامية فيحققون نصرا لله الذي وعد به عباده الصالحين، ولن يأتي هذا النصر إلا إذا بدءوا المسير من المحراب كرجال عقيدة يكتسبون منها الصفات الأخلاقية الربانية.
رابعاً: الأسرة محضن التربية
الأسرة ومكانتها:
منهج التغيير عندنا يبدأ بالنفس وبالقلب إخباتاً ووجلاً وبالجوارح خشوعاً وعملاً. وهذا المنهج من الثوابت التي لا نحيد عنها، ليس تكتيكاً – كما يزعم المرجفون- بل هو مبدأ أخلاقي ديني ثابت دائم لا يتغير إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها، مبدأ ينبذ العنف بل ويعمل على استئصاله، ويعتمد على سبيل التربية سبيلاً لا خيرة لنا فيه كمنهاج حاكم ضابط ثابت يبدأ:
أولاً: دعوة تضبطها الحكمة والموعظة الحسنة، لا إكراه فيها ولا عنف ولا تعسف، تقوم على قوة الحجة لا حجة القوة شعارها قول ربنا “وقولوا للنّاس حسناً” [البقرة: 83] ورائدها مقالة علي بن أبي طالب رضي الله عنه "من لانت كلمته وجبت محبته".
ثانياً: تربية إسلامية أساسها القرآن والسنة وإن تعددت وسائلها حتى ننتقل من رجل القول إلي رجل العمل، شعار هذه التربية: "اعرف ربك، وأصلح نفسك، وادع غيرك، وأقم دولة الإسلام في قلبك تقم على أرضك" ولذلك فإن لهذه التربية خصائصها التي من أهمها:
أنها ربانية.
ثابتة الأسس.
موافقة للفطرة.
شاملة لكل جوانب الحياة باعتدال.
موحدة للطاقات البشرية.
متفائلة إيجابية فعالة تقوم على الأساس العقائدي والتعبدي والتشريعي.
كل ذلك لتحقق ثمرتها وهي: تحقيق الكرامة الإنسانية لتقيم الحضارة الإسلامية.
ثالثاً: من هذه اللبنات التي تربى تكون الأسرة الصالحة فالجماعة فالحكومة، لذلك كان من الثوابت عند الإخوان التربية المتأنية -كما بينا- لنحصل على الفرد المسلم الذي يبدأ التغيير بإصلاح نفسه ليكون منهج التغيير على منهاج النبوة.
ووسيلة تحقيق ذلك عند الإمام البنا نظام الأسرة، فهي من الثوابت عنده، فيها يتم التعارف والتفاهم والتكافل، وفيها يصحح الفهم ويعمق، ويصوب الخطأ ويتلافى، وتحقق الأخوة، وتظهر القدرات والقيادات، ويربى فيها على الثوابت والمتغيرات، وتحقيق الانتماء، ولقد سميت أسرة لما فيها من السكن والمودة والرحمة، وسمى رئيسها نقيباً تيمناً بما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الثانية بعد عودة مصعب بن عمير من المدينة ومعه ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان، فلما تمت البيعة طلب منهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يختاروا من بينهم اثني عشر نقيباً ليوليهم عليهم، وما أحسن وأعظم توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم، ولقد ثبت في العلم التربوي الحديث أنه كلما قل عدد الأفراد زاد أثر المربى وتحققت التربية بالقدوة والمعايشة.
فإذا كانت اللبنة الأولى في الجماعة هي الأسرة، فإن أفرادها وهم في جماعة، يعلمون أن من يقود له التوجيه والتربية والطاعة، لأن هذه القيادة هي التي تحدد الأهداف، وتعتمد الوسائل لتحقيقها، وتحدد مراحلها، وهي التي تقدم أو تؤخر في أولوياتها، وعلى الأسرة أن تضع ذلك موضع التنفيذ.
إن العمل التربوي المثمر هو منهج ثابت، فإن كان للأفراد سمات وصفات ومقومات، وللعائلة ترابط ومودة وأخلاق، فمن يتعهد هؤلاء وهؤلاء؟ ومن يقوم على رعايتهم ومتابعتهم؟ ومن يتعرف على تقدمهم أو تأخرهم ومدى تحقيق أهدافهم؟
إنها التربية عن طريق الأسرة، ولما كانت التربية تحتاج إلى علم وفقه وفهم، ولا يتحقق ذلك إلا عن طريق مربٍّ في محضن، والمحضن هو الأسرة، والمربى هو النقيب ليقوم بدوره خير قيام لتحقيق المهام الجسام والأهداف المرجوة، ولذلك كان المربى وهو النقيب داخل الأسرة كإمام الصلاة له السمع والطاعة والتوجه والتعليم والتربية.
لقد تأكد للإمام البنا أن المشكلة ليست سهلة كما يظن البعض، فإن ما أصاب العقل المسلم من صدوع ورضوخ، بل كسور وتقطيع وتشويه وغزو فكري صده عن المضي إلى غايته، وحال بينه وبين رسالته، لا يمكن أن يعالج في يوم وليلة بمحاضرة عابرة من فرد أو درس هنا ودروس هناك من مفكر إسلامي، أو موعظة وفتيا من عالم من العلماء الأجلاء ثم يمضي لحال سبيله يبحث عن أخرى، أو مقال منشور سرعان ما ينتهي أثره بانتهاء قراءته، أو مؤلف مكتوب يحفظ متنه،
إنما هي معاناة وتربية إسلامية طويلة تحتاج إلى محضن تربوي، فكانت هي الأسرة، والمربي الكريم الذي له صفات تربوية هو النقيب، لأن التربية هي من ثوابت الدعوة تحتاج إلى جهد مضن كي نترك رجالاً لا نترك كتاباً وكفى، وذلك بالمنهج السديد، والعمل الدؤوب، والخلق القويم، والنفس الطويل، والصبر الجميل والموعظة الحسنة، والمجادلة الحكيمة والوعي المستنير، والمتابعة المتأنية،
ولابد لقائم يقوم على هذا الأمر وهو المربي داخل المحتوى وهي الأسرة وأي منهج إسلامي للحياة متكامل، وأي دعوة صادقة ليتأصل الفهم عن طريقها لابد لها من التربية الممنهجة المستمدة من الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح والمستمدة من الأصول الفقهية والقواعد الشرعية.
ولا يتحقق ذلك كله إلا براعٍ مسئول عن رعيته يوضح الطريق بمعالمه ويبينه تبياناً لا غموض فيه ولا اضطراب من حيث:
وضوح الفكرة، ووحدة التصور والسلوك، ووحدة الهدف والمصير، ووحدة الغاية وسائل تحقيق ذلك كله حتى لا يترك سبباً لتساؤلات أو لتشكيكات أو لشبهات، ليكون أفراد الجماعة نسيجاً واحداً، ووضع لذلك نظم وإداريات ووسائل وغايات، لذلك كان الالتزام بهذه النظم من الثوابت.
يقوم الإمام البنا مبيناً أهمية هذا المحضن التربوي: يحرص الإسلام على تكوين أسر من أهله يوجههم إلى المثل العليا، ويقوي رابطتهم، ويرفع أخوتهم من مستوى الكلام والنظريات إلى مستوى الأفعال والعمليات، وأركان هذا الرباط ثلاثة فاحفظها واهتم بتحقيقها حتى لا يكون هذا تكليفاً لا روح فيه.
التعارف:
هو أول هذه الأركان فتعارفوا وتحابوا بروح الله، واستشعروا معنى الأخوة الصحيحة الكاملة فيما بينكم، واجتهدوا ألا يعكر صفو علاقتكم شيء “إنما المؤمنون إخوة” [الحجرات: 10].
ولقد ظلت هذه الأوامر الربانية والتوجيهات المحمدية بعد الصدر الأول كلاماً على ألسنة المسلمين لا في نفوسهم، حتى جئتم معشر الإخوان المتعارفين تحاولون تطبيقها في مجتمعكم، وتريدون تأليف الأمة المتآخية بروح الله.
التفاهم:
هو الركن الثاني من أركان هذا النظام التربوي وفيه تتم محاسبة النفس، ثم ينصح الأخ أخاه متى رأى فيه عيباً، وليقبل الأخ نصح أخيه بسرور وفرح، ولا يخبر أحداً بالعيب إلا أخاه مسئول الأسرة، إذا عجز عن الإصلاح، ثم لا يزال بعد ذلك على حبه لأخيه، وتقديره له ومودته له، وليحذر المنصوح من العناد والتصلب، وتغيير القلب على أخيه الناصح.
التكافل:
هو الركن الثالث، فتكافلوا وليحمل بعضكم بعضاً، وذلك صريح الإيمان، ولب الأخوة، وليتعهد بعضكم بعضاً بالسؤال والبر، وليبادر إلى مساعدته ما وجد إلى ذلك سبيلاً، وتصوروا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "لئن يمشي أحدكم في حاجة أخيه خير له من أن يعتكف في مسجدي هذا شهراً" والله يؤلف بين قلوبكم بروحه، إنه نعم المولى ونعم النصير.
ألا ترى أن هذا النظام التربوي يحقق الواجبات الفردية والاجتماعية والمالية؟ ويحقق المعايشة والمؤانسة والأخوة، إن مثالاً واحداً مما تشغل به الأسرة اجتماعها ليوضح الآثار التربوية العظيمة في حياة أفرادها، فهي تشتمل على:
- عرض كل أخ لمشاكله ويشاركه إخوانه في دراسة حلولها في جو من صدق الأخوة، وإخلاص التوجه إلى الله، وفي ذلك توطيد للثقة، وتوثيق الرباطة "المؤمن مرآة أخيه" حتى يتحقق فينا شيء من مأثور قوله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
- مدارسة ومذاكرة حول شؤون المسلمين والتوجهات الواردة من القيادة، ولا محل للأسرة للجدل أو الحدة ورفع الصوت فذلك حرام في فقه الأسرة، ولكنه بيان واستيضاح في حدود الأدب الكامل والتقدير المتبادل بين الجميع.
- مدارسة نافعة من كتاب من الكتب القيمة وغير ذلك مما يعود بالنفع على أفراد الأسرة ليتحقق بها الشخصية الإسلامية الأخلاقية بعقد إيمانها وعقد أخوتها لتصبح أداة للتغيير.
خامساً: رسالة التعاليم والأًول العشرون
ورسالة العقائد .. أساس لتعلمنا
لابد للجماعة من فهم تجتمع عليه، وأصول تقوم عليها، وفقه يوجهها، ولتأصيل الفهم السليم ولتوحيده بين أفراد الجماعة كانت رسالة التعاليم خاصة الأصول العشرين مع أختها رسالة العقائد، وإن كانت الرسائل الأخرى تعمق الفهم وتوضح الرؤى، وتبين اختيارات الجماعة الفقهية للقضايا المختلفة.
فرسالة التعاليم وخاصة الأصول العشرين تعتبر من الثوابت التي يجب على الأتباع الالتزام بها، بما تحمل من فهم محدد تميزت به الجماعة ثم العمل بمقتضاها والدعوة إليها، وعدم التفريط فيها أو الانحراف عنها، ولذلك ترى مخاطبة الإمام البنا لمن آمن بفكرته وعمل بمنهاجه يخاطبه في الوقت الذي نشأت فيه الجماعة قائلاً:
"إلى الإخوان المجاهدين من الإخوان المسلين الذين آمنوا بسمو دعوتهم وقدسية فكرتهم وعزموا صادقين على أن يعيشوا بها أو يموتوا في سبيلها، وهي ليست دروساً تحفظ، ولكنها تعليمات تنفذ، لأنهم يعلمون أن لا إسلام بدون جماعة والجماعة جند وقادة وتكاليف، وللجندي الملتزم بهذه التعاليم صفات سميت بأركان البيعة فيها السمع والطاعة، ولا يمكن أن تتحقق بالإكراه ولكن بالإيمان والقناعة والتربية السليمة، ليتربى الأفراد الذين يحملون للفكرة ويصطبغون بالصبغة الأخلاقية لتحقيق الشخصية الأخلاقية المؤثرة،
ولتحقيق ذلك حدد الإمام البنا ضمن ما حدد للوصول بهذه التربية الإسلامية إلى الشخصية الإسلامية المجاهدة المرتبطة بتلك الجماعة معالم وصفات أخلاقية سماها الإمام بأركان البيعة – وهي أيضاً الثوابت في جماعته- وهي صفات أخلاقية فردية وجماعية كالفهم والإخلاص، والعمل، والجهاد، والتضحية، والطاعة، والثبات، والتجرد، والإخوة، والثقة، فهي عشر لا على سبيل الحصر فليست كالحدود على سبيل القطع لا تزيد ولا تنقص، ولا هي من الأمور القطعية، فهي أخلاقيات وسلوكيات إسلامية حميدة يزداد بها البنيان وضوحاً، وتتعمق بها التربية الأخلاقية، ولا يمكن التخلي عنها لأن التمسك بها دين.
وهي من الاجتهادات الشخصية التي تقبل الزيادة وإن كانت لا تقبل النقصان، لأنها أخلاق يدعو إليها الإسلام، فمن رأى في زمانه وبعده زيادة فلا بأس، فزيادة الأخلاق الحميدة كما فعل أستاذنا الدكتور القرضاوي حين أضاف إلى ما كتبه الإمام البنا في رسالة التعاليم، فقال وهو يشرح: وأنا أضيف – وأضاف صفات أخرى ليزيد الأمر وضوحاً في زمن يحتاج إلى زيادة بيان لكنه ما انتقص منها ركناً من الأركان فالزيادة بناء والنقص هدم “ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة” [الأنفال: 42].
ولقد حض الإمام البنا الفهم بأصول عشرين هي من ثوابت الدعوة – كما قلنا- وهي تعين المسلم على الفهم الصحيح حتى لا يبنى على الظن والهوى، هذه الأصول هي أصول للفهم وضوابط له وليست أصولاً للدين أو الإسلام – كما تصور البعض-
فلقد قال واحد ممن يسيئون الفهم: إن أصول الإسلام أصلان لا ثالث لهما هما القرآن والسنة وليسو عشرين أصلاً" كما ذكر الإمام البنا
ونسى أنها الأصول التي تعينه على فهم الأصلين، وليست أصول الدين –كما ظن- فهي تعينك على تحديد إطار للفهم الكامل الدقيق وللتصور السليم السديد كي ينضبط السلوك والوجهة، فتنضبط بذلك الحركة في إطار الثوابت التي تحفظ على الجماعة ذاتيتها فتتميز عن الجماعات الأخرى فهما وحركة،
ولا يظنن أحد أننا ندعو إلى الاكتفاء بهذه الرسائل اطلاعاً وقراءة وتعليماً فهذا لا يقول به مسلم عاقل فضلاً عن طالب علم يريد أن يستزيد، ولكنها الأصول التي تحدد إطار الفهم الذي عليه الجماعة، فإذا ما حدد أصول فهمه، له أن ينطلق بعد ذلك يتطلع فيما يشاء من كتب تحمل علماً وفكراً، أين كان هذا العلم لأنه أصبح لديه الميزان الذي يزن به الغث من السمين، والجيد من الردئ، والأصيل من الدخيل،
أما قبل أن يحدد إطار فهمه فقد تتداخل الأمور عليه، ومن أجل هذا المعنى غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كان ينزل الوحي ولم يكتمل الأمر بعد، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر يقرأ في صفحة من صحائف التوراة فغضب صلى الله عليه وسلم منه وقال لعمر: أمتهوكون أنتم، والله لو أن موسى بن عمران بين ظهرانينا ما وسعه إلا أن يتبعني.
أما بعد تحديد الفهم حتى يصير كالعقائد التي لا تقبل جدلاً ولا مراء، فلا بأس أن ينطلق كل منا يطلع على ما يكتبه أعداء الدعوة فيدافع بما تعلمه وعلمه، بل يصحح أفكار الآخرين كما فعل الإمام الهضيبي في كتابه "دعاة لا قضاة" وكما كتب كثير من علماء الإخوان يدافعون عن الدعوة ويصححون المفاهيم،
فلابد أن يكون للدعوة علماء يرفع الله بهم شأن الدعوة، ويحفظ بهم المسسير كلما أراد صاحب هوى أن ينأى بها عن مسارها الصحيح، وهذا ما حدث في تاريخ الدعوة قديماً وحديثاً.
سادساً: الشمول نظرتنا الكلية فهما وحركة
الفهم عند المسلمين في زمان الإمام البنا:
لقد تأمل الإمام البنا حال المسلمين في زمانه بوجه عام وحال قومه ووطنه بوجه خاص، ودرس ما يحمله المسلمون من مفاهيم، فوجد من الناس من يرى الإسلام شيئاً غير حدود العبادة الظاهرية، فإن أداها أو رأى من يؤديها اطمأن إلى ذلك ورضى به، وحسبه قد وصل إلى لب الإسلام، وذلك هو الشائع عند عامة المسلمين،
كما رأى صنفاً آخر من الناس لا يرى الإسلام إلا الخلق الفاضل والروحانية الفياضة، وهذا الغذاء الفلسفي للعقل والروح والبعد بها عن أدران المادة الطاغية الظالمة،
ومنهم من يقف إسلامه عند حد الإعجاب بهذه المعاني الحيوية العملية في الإسلام، فلا يتطلب النظر إلى غيرها، ولا يعجبه التفكير في سواها
ومنهم من يرى الإسلام نوعاً من العقائد الموروثة والأعمال التقليدية إلى لا غناء فيها ولا تقدم معها، فهو متبرم بالإسلام وبكل ما يتصل بالإسلام، وتجد هذا المعنى واضحاً في نفوس كثير من الذين ثقفوا ثقافة أجنبية، ولم تتح لهم فرص حسن الاتصال بالحقائق الإسلامية، فهم لم يعرفوا عن الإسلام شيئاً أصلاً، أو عرفوه صورة مشوهة ممن لم يحسنوا تمثيله من المسلمين، فكثير من دعاة الحركة الوطنية والحركة القومية يعادون التيار الإسلام ودعاة الإصلاح الإسلاميين، ويعتمدون الغرب وفلسفته وحضارته مرجعاً فكرياً لهم، فهو مصدر الإلهام والإلزام كما ذكر أستاذنا الدكتور القرضاوي.
وتحت هذه الأقسام جميعاً تندرج أقسام أخرى يختلف نظر كل منها إلى الإسلام عن نظر الآخر قليلاً أو كثيراً وقليل من الناس أدرك الإسلام صورة كاملة واضحة تنظم هذه المعاني جميعاً، وحتى ساد في عصره معان ومفاهيم كاد الناس يحسبونها من الثوابت التي لا تقبل التغيير ولا التبديل ولا إعمال العقل، حتى صارت كالعقائد عندهم وإن كانت باطلة أصلاً ومنها مثلاً:
- أن التمسك بالدين نوع من التعصب بل وزاد البعض بأنه تجاهل لغير المسلمين.
- أن هذا الدين ناسب عصره وليس عاماً للناس كافة؛ أبيضهم وأسودهم عربيهم وعجميهم.
- أن التدين من الأعمال الشخصية الفردية أي لا صلة له بالحياة بنواحيها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وغيرها من مناحي الحياة.
ولذا تميزت جماعة الإخوان المسلمون في زمانها عن غيرها من الجماعات الإسلامية حين دعا الإمام البنا إلى الرجوع إلى شمول الإسلام وعمومه، وفي هذا المعنى يقول في معنى الشمول:
أولاً: نحن نعتقد أن أحكام الإسلام وتعاليمه شاملة تنظم شؤون الناس في الدنيا والآخرة وإن الذين يظنون أن هذه التعاليم إنما تتناول الناحية العبادية أو الروحية دون غيرها من النواحي مخطئون في هذا الظن، فالإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف والقرآن الكريم ينطق بذلك كله ويعتبره من لب الإسلام ومن صحيحه ويوصي بالإحسان في جميعه وإلى هذا تشير الآية الكريمة “وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك” [القصص: 77].
وإنك لتقرأ قول الله تبارك وتعالى في العقيدة والعبادة “وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدّين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيّمة” [البينة: 5] كما تقرأ قوله تعالى: “فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكمون فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً” [النساء: 65].
ثانياً: يعتقد الإخوان أن أساس التعاليم الإسلامية ومعانيها هو كتاب الله تبارك وتعالى وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم اللذان إن تمسكت بهما الأمة فلن تضل أبداً، ولهذا يجب أن تستقي النظم الإسلامية التي تحمل عليها الأمة من هذا المعين الصافي، وأن نفهم الإسلام كما كان يفهمه الصحابة والتابعون من السلف الصالح رضوان الله عليهم، وأن نقف عند هذه الحدود الربانية النبوية حتى لا نقيد أنفسنا بغير ما قيدنا الله به، ولا نلزم عصرنا لون عصر لا يتفق معه فالإسلام دين البشرية جميعاً.
ثالثاً: يعتقد الإخوان المسلمون أن الإسلام كدين عام انتظم كل شؤون الحياة في كل الشعوب والأمم، لكل الأعصار والأزمان، جاء أكمل وأسمى من أن يعرض لجزئيات هذه الحياة وخصوصاً في الأمور الدنيوية البحتة، فهو إما يضع القواعد الكلية في كل شأن من هذه الشؤون، ويرشد الناس إلى الطريقة العملية للتطبيق عليها والسير في حدودها،
ولضمان الحق والصواب في هذا التطبيق أو تحريهما على الأقل عنى الإسلام عناية تامة بعلاج النفس الإنسانية وهي مصدر النظم ومادة التفكير والتصوير والتشكيل، فوصف لها من الأدوية الناجعة ما يطهرها من الهوى ويغسلها من أدران المرض ويلهمها بتوفيق الله تقواها ويهدي بها إلى الكمال والفضيلة باعتبارها أداة التغيير “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” [الرعد: 11]
وبهذا الفهم الدقيق الذي تميزت به جماعة الإخوان عن غيرها في عصرها تحققت أمور صح بها منهاج التفكير لكل من آمن بهذا الفهم منها:
- تحرير العقيدة من الجمود والأوهام، والتركيز بعد الفهم السليم لهذه العقيدة على أثرها في تكوين شخصية المسلم، بل وأثرها في الكون والإنسان والحياة.
- تخليص العقل من النظرة الجزئية للإسلام، فلا تضخيم للجزيئات والفرعيات على حساب الكليات ولكن نظرة كلية شاملة بفهم واع وعقل مستنير.
- كسر الجمود الذي أصاب العقل من إغلاق باب الاجتهاد وإعادة ترتيبه وصياغته صياغة إسلامية.
وهكذا كان من ثوابت الجماعة النظرة الشمولية للإسلام ولعمومه، وكمال وسموه ودوامه، وعالميته وربانيته، ليتحقق بذلك معنى العبادة الشامل ونحن نقول: “إياك نعبد وإياك نستعين” [الفاتحة: 5]
تلك هي الرسالة التي يريد الإخوان المسلمون أن يبلغوها للناس، وأن تفهمها الأمة الإسلامية حق الفهم، وتهب لإنقاذها في عزم وفي مضاء، لم يبتدعها الإخوان المسلمون ابتداعاً، ولم يختلقوها من أنفسهم، وإنما هي الرسالة التي تتجلى في كل آية من آيات القرآن الكريم وتبدو في غاية الجلاء والوضوح في كل حديث من أحاديث الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، وتظهر في كل عمل من أعمال الصدر الأول، الذين هم المثل الأعلى لفهم الإسلام وإنقاذ تعاليم الإسلام.
مهمتنا في الحياة:
فعبادة ربنا، والجهاد في سبيل التمكين لديننا، وإعزاز شريعتنا، هي مهمتنا في الحياة، لهذا المعنى جاء في أوصاف صحابة محمد صلى الله عليه وسلم وهم صفوة الله من خلقه بعد أنبيائه ورسله، والسلف الصالح من عباده: "رهبان بالليل، فرسان بالنهار" كان المسلمون يفهمون هذا قديماً، ويعملون له، ويحملهم إيمانهم على التضحية في سبيله، وبهذا دعا إلينا مجدداً هذا الفهم.
ونحن حين نبين ذلك يجب أن نشير إلى ما يميز هذه الدعوة عن غيرها من الدعوات فهي:
1- ربانية في مصدرها لأنها وحي من عند الله.
2- وسطية في اختيار الله لها.
3- إيجابية في نظرتها للكون والإنسان والحياة.
4- واقعية حين تتعامل مع الفرد والمجتمع.
5- أخلاقية في غايتها ووسائلها.
6- شمولية في منهاجها.
7- عالمية في الدعوة إليها.
8- شورية في الحكم بها.
9- جهادية في تربيتها لتحمى طريقها حين يعتدى عليها.
10- سلفية الفكر والتصور والاعتقاد.
هذه دعوتنا بدينها ودنياها، بمشاعرها وشعائرها وشرائعها، بنظامها وأخلاقها نحملها بيقين صادق، وإيمان عميق، وحب وثيق، لا لبس فيها ولا غموض أوضح ما تكون، ليراها الناس على حقيقتها،
فالله هو الغاية، والرسول هو القدوة، والقرآن هو الدستور، والجهاد هو السبيل، والموت في سبيل الله هو أسمى الأماني،
وهذا كله من ثوابت دعوتنا،
فالإخوان المسلمون يعتقدون أن منهج الإسلام ينظم الحياة جميعاً، ويفتى في كل شأن من شؤونها، ويضع لها نظاماً محكماً دقيقاً، ولا يقف مكتوف الأيدي أمام المشكلات الحيوية والنظم التي لابد منها لإصلاح الناس، فهو ليس مقصوراً على ضروب العبادات، أو أوضاع من الروحانيات كما فهمه بعض الناس لكننا – كما يقول الإمام البنا- نفهمه على أنه ينظم شؤون الدنيا والآخرة وهو يصلح الزمان والمكان، ويسعد الناس أجمعين حين يصبح منهج حياة في واقع حياتهم.
لقد نهج رضوان الله عليهم نهج السلف الصالح، ودعا بدعوته فأحيا قديماً كاد الناس أن ينسوه، وأعاد للعقول منهاجاً في التفكير الإسلامي السليم، ومن يومها مضت هذه اليقظة الإسلامية – التي أرشدها الإمام البنا إلى ثوابت الإسلام ومتغيراته كمنهج أصيل للمسلمين ليس لنا الخيرة فيه، وانطلق بأتباعه إلى ميادين الحياة المختلفة بشتى أنواعها ليحقق الشمول، وليعيد صياغة العقول من جديد صياغة إسلامية؛ ليصونها من الغزو الفكري، والنهج الغربي والنظرة الجزئية، ليستعيد المسلم تصوره السليم وتفكيره المنضبط الذي سبه به من قبل رجال نهلوا من نبع المصطفى صلى الله عليه وسلم ونهجه، فبنوا به حضارة وأقاموا نظاماً، وأرسو قيماً بفهم دقيق استطاعوا أن يستعيدوا به قدرته على المقاومة والدفاع عن دينهم وعقيدتهم بتضافر الجهود، وتوحيد الصفوف، والاجتماع على الأهداف السامية.
هذا هو الذي دعا للعودة إليه الإمام البنا للإسلام –بوجه عام- وهذا ما آمن به كل من دعا بدعوته وضحى من أجله. ولكي يحافظ الأتباع على هذا الفهم حتى لا ينحرف به أحد أو يشوهه مغرض أو ينأى به متحمس، وحتى لا يعرف الأصيل من الدخيل والمتبع من المبتدع وحامل الفكرة من مشوهها، كان لابد من أن يكون هذا الفهم من ثوابت الدعوة الأصيلة ومعلماً من معالمها التي تعرف بها بل تنتفى سلامها وعافيتها ويضطرب مسيرها وتزل قدمها بعد ثبوتها، ويخشى من ذوبانها وعدم دوامها واستمراريتها إذا حادت عن الفهم.
بهذه الثوابت ننطلق ونقوِّم عملنا على أساسها، ونفئ إليها عند الاختلاف ونفاصل على أساسها من أرادها بسوء، ونتغافر فيما سواها ونتعاون مع يرنا ومن يخالفنا مادام يحترم ثوابتنا ولا يعمل على استئصالها. ولذلك فهي التي تميزنا عن غيرنا من الدعوات الإصلاحية الجزئية.
إنه المنهج الذي يسوس الدنيا ليسعد الخلق فيها، قبل أن يلتقوا بالخالق، فهو دين ودولة، وصدق أبو حيان التوحيدي حين قال: إن الشريعة متى خلت من السياسة كانت ناقصة والسياسة متى عريت من الشريعة كانت ناقصة.
سابعاً: الشورى الملزمة لحسم الخلاف بيننا
الشورى في الإسلام:
الشورى قيمة إسلامية عليا ، وفريضة شرعية ، وأمر معلوم من الدين بالضرورة، فهي واجبة الأداء سواء أكانت معلمة أم ملزمة، لأن الله أمر بها كما أمر بالصلاة والزكاة في آية واحدة، فهي بمنزلة الفرائض لذلك أمر الله رسولنا بهذه الفروض الثلاثة مجتمعة مبلغاً عن ربه منذ فجر الدعوة إذ قال الله تعالى: “ والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون” [الشورى: 38]
وهذه الآية من الآيات المكية، وقد جاء الأمر فيها بالشورى مجملاً، كما جاء الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مجملاً، جاءت سنة رسول الله لتبين الممارسة العملية للشورى، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم غنياً عنها لأنه موحى إليه من ربه وذلك في غير ما نزل به نص قطعي الدلالة، امتثالاً لأمر الله تعالى، وتعليما للمسلمين وإرشاداً لهم.
وقال فيما رواه الترمذي: "إذا كان امراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم، وأمركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان امراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم، وأمركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها".
والشورى هي الطريقة التي شرعها الله تعالى لصنع واتخاذ قرارات في كل المستويات، فأي قرار يتخذ لتنعكس آثاره على غير متخذ القرار على مستوى الأمة أو دون ذلك، أو على مستوى الأسرة أو أعلى من ذلك، أو حتى على مستوى المشروع الخاص فينبغي أن يكون نتاج المشاورة، لعموم قول الله تعالى: “وأمرهم شورى بينهم” [الشورى: 38].
فالشورى تعني مناقشة وتقليب النظر في أمر من الأمور العامة، أو شأن من شؤون الأمة، أو البحث في إحدى القضايا ذات الصلة والمساس بمصالح الشعب أو الوطن، وتمحيصها من المفكرين والعلماء وأصحاب المشورة للوصول إلى الأفضل والأصوب والأقرب إلى تحقيق مصالح البلاد والعباد.
لهذا كله فقد أنزلتها الرسالة الإسلامية منزلة عظيمة، وبوأتها الشريعة السمحاء مكانة كبيرة في أصول التشريع، وخص الكتاب المبين الشورى بإحدى سوره الخالدات، واعتبر الالتزام بأحكامها والتخلق بآدابها من مكونات الشخصية الإسلامية، ومن صفات المؤمنين الصادقين،
وتأكيداً على أهمية الشورى وردت في القرآن مقرونة بفرائض عينية لا يتم الإسلام ولا يكتمل الإيمان بدونها، كالصلاة والإنفاق واجتناب الفواحش، فقال جل شأنه: “والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون (37) والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون” [الشورى: 37، 38].
وهكذا دخلت أحكام الشورى وآدابها في حياة الفرد والأسرة، وفي العبادات والمعاملات، فالآية من سورة البقرة تشير إلى شأن من شئون الأسرة الخاصة بالزوجين فتقول: (فإن أراد فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما ) [البقرة: 233].
وقد أكثر المفسرون والفقهاء والحكماء من التحدث عن الشورى ومكانتها وتأثيرها في كتب التفاسير والأحكام السلطانية والسياسية الشرعية، حق اعتبرها كبار المصلحين ظاهرة صحيحة ودليلاُ ساطعاٌ على رقي المجتمع وازدهاره، كما اعتبروا غيابها دليلاُ على فشو الظلم والاستبداد .
فالخليفة العادل عمر بن الخطاب يقول: ( لا خير في أمر أبرم من غير شورى ) .
استشارة الرسول صلى الله عليه وسلم :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الناس استشارة لأصحابه، يستشيرهم في الأمور الكبيرة والصغيرة، وفي أيام السلم وإبان الحروب، ويسأل الرجال والنساء، ويصغي لآرائهم فرادى وجماعات.
ويستشير المسلمين في معركة بدر فيشير الصحابي الحباب بن المنذر بتغيير الخطة في القتال، فيأخذ برأيه ويقوله له: لقد أشرت بالرأي.
كما ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأي أصحابه في معركة أحد، وبالرغم من أن المسلمين خسروا المعركة فإن القرآن الكريم أكد على مبدأ الشورى، فنزل قوله تعالى بعد معركة أحد “فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر” [آل عمران: 159]
فإذا خسر المسلمون جولة أو معركة وتأصل مبدأ الشورى في مجتمعهم خير لهم ألف مرة من أن يؤول أمرهم إلى تسلط حاكم ظالم، وينتهي حالهم إلى الاستبداد والاستعباد.
الصحابة يستشيرون:
لقد سار الخلفاء والأصحاب على نهج نبيهم وقائدهم في الحياة القاسية، وطبقوا نظام الشورى في عصر الراشدين،
فالصديق يستشير الفاروق ويجمع الصحابة للتداول معهم في أي موضوع لا يجد فيه نصاً من كتاب وسنة،
وكذا كان يفعل عمر بن الخطاب وعثمان وعلي وقادة الفتح،
ففي أثناء الصراع مع الفرس طلب قائد الجيش الكسروي لقاء مع قائد المسلمين للتفاوض معه، وبعد أن عرض الفارسي ما لديه أجابه قائد الجيش: أمهلني حتى أستشير القوم، فقال له الفارسي: إننا لا نؤمر علينا من يشاور، قال له قائد المسلمين: ولهذا نحن نهزمكم دائماً، فنحن لا نؤمر علينا من لا يشاور.
فالصديق رضي الله عنه يتخذ قراره في حرب المرتدين بعد استشارة واسعة للصحابة، أقنعهم بما أورد من نصوص وما ساق من حجج، وهذا ما فعله الفروق في أرض السواد، وما اشترطه عليٌّ من وجوب العودة إلى أهل الشورى ليقولوا رأيهم في تسلمه إمارة المؤمنين.
من ثمرات الشورى:
وقد أطنب من تحدث عن فوائد الشورى ومنافعها وما تجلبه من خير، وعن مآسي الاستبداد وما يجره على الأمة من الويل، وقد ساق الدكتور محمد عبد القادر أبو فارس في كتابه النظام السياسي في الإسلام نقولا عظيمة من كتب السالفين مثل المقولة العظيمة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهو يتحدث عن فوائد الشورى فيقول: في المشورة سبع خصال، استنباط الصواب، واكتساب الرأي، والتحصن من السقطة، وحرز من الملامة، ونجاة من الندامة، وألفة القلوب، واتباع الأثر. وكالذي أورده على لسان الأحنف بين قيس عندما سئل: بأي شيء يكثر صوابك ويقل خطؤك فيما تأتيه من الأمور وتباشره من الوقائع؟ قال: بالمشاورة لذي التجارب.
فالشورى إذن هي منهاج الإدارة في صنع واتخاذ القرار وهي عكس الاستبداد بالرأي، لما تسمح به من تنوع في الآراء التي تعرض قبل "العزم" أي قبل حسم الأمر،
وقد أنزل الله تعالى قرآناً في حالتين من الحالات التي مورست فيها الشورى قبل بعثه محمد صلى الله عليه وسلم .
الحالة الأولى: كانت استشارة فرعون في أمر موسى عليه السلام:
وقد مهد فرعون لهذه الشورى بجهد كبير للتضليل والتعممية، وأورد بعض المفتريات التي اعتبرها من المسلمات، فحسم بذلك أمر الشورى قبل أن تبدأ: “وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد” [غافر: 39] “ ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي افلا تبصرون (51) أم أنا خيرٌ من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين (52) فلولا ألقي عليه أسورةٌ من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين” [الزخرف: 51-53] “قال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحاً لعلي أطّلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين” [القصص: 38].
وبذا وجه فرعون حملته النفسية ضد شعبه "قومه" وضد النخبة منهم "الملأ"، وكانت نتيجة هذا التمهيد بالباطل، ولأن قوم فرعون لا يعرفون للشورى معنى ولا ضرورة فقد تأهل الجميع لقبول قرار الطاغية فشاركوه في جرمه وكانوا قوماً فاسقين: “فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوماً فاسقين” [الزخرف: 54].
ونتيجة لوجود هذا الرأي العام الفاسد جاءت الشورى، مجرد تسليم لرأي الطاغية المستبد ومحاولة لإرضائه، فقالت النخبة المحيطة به (الملأ): “قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم (34) يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون (35) قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين (36) يأتوك بكل سحّار عليم” [الشعراء: 34-37].
ولذا كان قراره بقتل موسى عليه السلام ومن معه مقبولاً لديهم وأعانوه عليه.
- “وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يُظهر في الأرض الفساد” [غافر: 26].
- “فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من أليم ما غشيهم (78) وأضل فرعون قومه وما هدى” [طه: 78، 79].
ولم يحل بينهم وبين إتمام تنفيذ القرار الخاطئ إلا أن نصر الله تعالى نبيه والذين آمنوا معه.
الحالة الثانية: هي استشارة ملكة سبأ لقومها في خصوص أزمة ثارت بسبب كفرهم وسجودهم للشمس من دون الله، وبلوغ هذا الأمر سليمان عليه السلام فبعث خطابه يدعوهم إلى العدول عن هذا، ملوّحا باستخدام القوة إذا لم يمتثلوا، وظلوا يستكبرون، قال تعالى:
“ قالت يا أيها الملأ إني ألقي إليَّ كتابٌ كريم (29) إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم (30) ألا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين (31) قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعةً أمراً حتى تشهدون (32) قالوا نحن أولوا قوةٍ وأولو باس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين” [النمل: 29-32].
وبذا تنازلت "النخبة" (الملأ) عن أداء الشورى، ولم يضعوا أمام متخذ القرار خيارات وبدائل، فسلموا مقدما بحق ملكتهم في الاستبداد بالرأي مذعنين مسبقاً لقرارها.
وليس هذا بالأمر المفيد لمتخذ القرار، إذ يحرمه من تمحيص الأمر والنظر إليه من عدة زوايا، بل على العكس من هذا يفرض عليه حصاراً، ويضيق أمامه الأفق الرحب، فلا يرى إلا رأى نفسه.
ونم ثم فقد اعتمدت ملكة سبأ على خبراتها الشخصية فقط، وعلى توجهها العقدي:
“وصدّها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قومٍ كافرين” [النمل: 43].
كان قرارها قرار امرأة، تميل إلى التحفظ والكيد، أكثر من ميلها إلى العقل والإقدام، والمخاطرة المحسوبة، وجاء قرارها مسبوقاً بمبرر كما يلي:
“ قالت إن الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون (34) وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرةٌ بم يرجع المرسلون” [النمل: 34، 35].
وتقص علينا الآيات الكريمات خطأ قرارها وسوء تقديرها إذ كانت الشورى معيبة:
“ فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون (36) ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون” [النمل: 36، 37] .
الشورى واجبة الاتباع:
ذلك وقد بين لنا القرآن الكريم، وفصلت لنا السنة النبوية المشرفة القولية، والعملية الشورى الإسلامية كقيمة عليا، وفريضة واجبة وكأمر من أمور الدين المعلومة بالضرورة، يقول الله تعالى:
“ فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين” [آل عمران: 159]. وهذه آية كريمة نزلت بعد غزوة أحد لتقر الأسلوب الذي اتبعه رسول صلى الله عليه وسلم في مشاورة أصحابه قبيل لقاء الكفار في غزوة أحد لتقر الأسلوب الذي اتبعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشاورة أصحابه قيل لقاء الكفار في غزوة أحد.
ففي قول ربنا: “فبما رحمةٍ من الله لنت لهم” وهذا أمر صريح بلين الجانب وإشاعة الطمأنينة في قلوب المستشارين (صناع القرار)، ونزع الرهبة والخوف من قلوبهم والترخيص لهم بمناقشة ولي الأمر، والأصل هو الطاعة فيما أحب الإنسان أو كره.
“ ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك” فلو أن المستشارين شعروا بالرهبة في مجلس القائد أو الرئيس لالتزموا بالطاعة طلباً للسلام، ولأراحوا أنفسهم في كل ما يقول، فلا يشحذون قرائحهم ولا يطرحون أفكارهم، ولا يجشمون أنفسهم عناء بذل الجهد دفاعاً عن حججهم... فالجو الذي يجب أن يسود على حد تعبير ابن كثير في (تفسير القرآن العظيم) هو جو تأليف القلوب وتطييبها ليكون أنشط لهم فيما يفعلونه.
“ فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر” فإذا ما ساد جو الطمأنينة بين المستشارين، كان حقاً على كل منهم أن يبذل غاية جهده في عرض تصوره وفي عرض الحلول والبدائل، وإبداء المبررات والخيارات والأولويات.
وعطف (المشورة في الأمر) على العفو والاستغفار لا يفيد الترتيب بالضرورة، فهما يأتيان متلازمين ويستمر العفو والاستغفار إلى ما بعد انتهاء مجلس الشورى، وهو عفو واستغفار عما يكون أي من المستشارين قد وقع فيه من لغو في القول، أو غلظة في الحديث دون قصد لما يستشعره في نفسه من أمانة وإخلاص وغيرة على المصلحة.
حكم الشورى:
تحدث كثيرون في القديم والحديث عن الشورى وحكمها في الإسلام. فرجع الفخر الرازي في تفسيره الكبير أنها واجبة لأنها جاءت – كما يرى- على صيغة الأمر مما يقتضي الوجوب، كما رجح ذلك القرطبي في تفسيره. وقد روى أبو هريرة فيما أخرجه البخاري فقال: ما رأيت أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولكن الآراء تختلف حول الشورى التي هي دعامة من دعائم الحياة السياسية، وقاعدة من قواعد الحكم في الإسلام. فثمة رأي يقول بأنها ملزمة، وثمة رأي آخر يقول بأنها معلمة،
فالشورى الملزمة هي التي تجعل الحاكم أو المسؤول مقيداً بالقرار الذي يصدر عن الجماعة ممثلة في مجلس نيابي، أو بالمشورة التي تصدر عن أهل الحل والعقد، كما هو التعبير الشائع في الفقه الإسلامي،
والذين يقولون بالشورى المعلمة ذكروا بأن السلطان أو الحاكم، أو الأمير أو الملك، أو أمير المؤمنين يستشير العلماء والفقهاء والمفكرين وأصحاب الخبرة، لكنه في النهاية ليس ملزماً بآرائهم، بل يفعل ما يراه حسناً ويدخل ضمن قناعاته، ما دام لم يخالف النص أو يخرج عليه.
الشورى واجبة وملزمة:
إذا تتبعنا رأي الفقهاء والمفكرين والمجتهدين المحدثين والمعاصرين نجد أنهم قد انتهوا إلى إلزامية الشورى للمسؤول، بعد صدورها عن المجالس المختصة، والهيئات المعنية مستأنسين بالنصوص الواردة في المصدرين الأساسيين، القرآن الكريم والسنة المطهرة.
ففي القرآن الكريم وردت آيتان كريمتان حول الشورى.
الأولى (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله) [آل عمران: 159].
والبعض يفهم من هذا أن الإمام يستشير ثم بعد ذلك يعزم، على ماذا يعزم؟ على تنفيذ رأي لا يراه؟ أم على رأي يخالف فيه أهل الشورى والاختصاص والدراية بمجموعهم أو بجمهورهم؟ إن الشورى لا تتناقض مع العزم بعد أن يتضح الأصوب والأصلح.
والآية الثانية تصف أمر المؤمنين في حياتهم وفي صلاتهم وعلاقاتهم، وفي صميم شئونهم بأنه يقوم التفاهم والتشاور وصولاً إلى الأمثل والأفضل.
وأما في السنة وهي الأصل الثاني أو الأساس الثاني في الإسلام فنجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذهب في الشورى مذهباً بعيداً، إذ كان كثير الاستشارة لأصحابه ولآل بيته، وللرجال والنساء وللكبار والصغار ولعامة الناس بأشكال مختلفة وطرق متنوعة، أي أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم سواد الناس على المشاركة والتفكير وتحمل المسؤولية.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأبي بكر وعمر: لو اجتمعتما على أمر ما خالفتكما، وفي هذا إشارة واضحة إلى مبدأ الأكثرية، فإذا وجد ثلاثة والتقى اثنان منهما على رأي، فما على الثالث إلا أن ينزل على رأي صاحبيه، هذا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نبي مرسل يوحى إليه، وذلك تأصيلاً للشورى والمشاركة، وإشارة إلى مفهوم الأكثرية، فكيف يكون موقف المسؤولين في الحكومات والأحزاب والشركات وهم ليسوا أنبياء ولا يتنزل الوحي عليهم؟!.
وفي العادة تتقلص دائرة الشورى، ويضيق هامشها في إبان الحروب جراء الظروف التي لا تسمح باتساع دائرة الحوار، ومع ذلك وحرصاً من الرسول الكريم على تثبيت هذه الدعامة في حياة المجتمع الإسلامي، فإنه صلى الله عليه وسلم في أثناء الحروب التي خاضها المسلمون في بدر وأحد والخندق استشار أصحابه، ونزل على آرائهم دون أن نرى في كتب السيرة أنه صلى الله عليه وسلم عاتب أصحابه على آرائهم التي لم تؤد إلى النتيجة التي كانوا يتوخونها، فلم يقل لهم: أرأيتم عندما تحمستم للخروج من المدينة إلى أحد، وخالفتم رأيي ماذا حل بكم؟ كيلا يتقلص تفكيرهم، وحتى لا تضيق دائرة مشاركتهم، لأنهم كانوا يصدرون فيما ارتأوه عن إخلاص واقتناع.
موقف الفقهاء المعاصرين:
عندما نقف على فقه العلماء والمجتهدين المعاصرين، ونقرأ ما كتبوه وما صدر عنهم، نرى أن عدداً كبيراً من المتضلعين منهم، الموثوقين في علومهم وأماناتهم قد قالوا بالشورى الملزمة أو انتهوا إليها.
فالشهيد حسن البنا رحمه الله قال في أول حياته بالشورى المعلمة، وكان متحمساً لها، ويحمل إخوانه بالحوار على الأخذ بها، ولكنه في أيامه الأخيرة انتهى إلى الأخذ بالشورى الملزمة، وترك لنا قانون الجماعة التي صاغته لجنة مؤلفة من: الأٍساتذة (عبد الحكيم عابدين وطاهر الخشاب وصالح عشماوي رحمهم الله)، وكان الأستاذ حسن البنا على رأس هذه اللجنة التي قدمت مشروع النظام، وتم إقراره في عام 1948 أي قبل استشهاده بعام واحد، ينص هذا القانون على الأخذ والالتزام برأي الأكثرية، وإذا ما تعادلت الأصوات فإن رئيس الجماعة أو الإدارة يكون مرجحاً، وهذا هو المعمول به في كل المؤسسات المعاصرة في معظم أنحاء العالم.
وكأننا بالأستاذ البنا رحمه الله قد أخذ بالشورى المعلمة، عندما كان تلامذته ناشئين، وبعد أن بلغوا مرحلة متقدمة في الوعي، والفهم انتهى إلى الأخذ بالشورى الملزمة، لتكون أصلاً ثابتاً في القانون الأساسي للتنظيم الذي أنشأه وقاده.
وللمودودي رحمه الله موقف يشبه موقف الشهيد حسن البنا، إذ قال بالشورى المعلمة ونص في كتابه – نظام الحياة في الإسلام- أنه يجوز لرئيس الدولة أن يستأثر بحق الرفض والرد، ثم انتهى به المطاف وبلغت به التجربة الطويلة عبر قيادته للتنظيم، الذي أسسه وقاده، أن يعدل عن هذا الرأي، ويأخذ بمبدأ الشورى الملزمة، ويثبت ذلك في كتابه – الحكومة الإسلامية- وينص على التسليم بما يجمع عليه أهل الشورى أو أكثريتهم، وإلا فإن الشورى في هذه الحالة تفقد معناها وقيمتها كما يقول المودودي رحمه الله.
وفي حوار مع الدكتور معروف الدواليبي الذي قام على تدريس أصول الفقه في جامعة دمشق لفترة طويلة، أكد رأيه في الشورى الملزمة، ونوه بأن هذا الأمر قد بلغ-كما يرى- مستوى الإجماع،
وممن قالوا بإلزامية الشورى الشيخ سعيد حوى، وقال: هذا الأمر من الموضوعات التي يُفاضل عليها ولا يستطيع أن يتساهل بها أو يسكت عليها، لأنه بالغ الأهمية في حياة الأمة ومستقبلها.
كما قال بذلك الدكتور عبد الكريم زيدان في كتابه –الفرد والدولة- ونص على الأخذ برأي الأكثرية أيضاً،
أما الأستاذ محمد الغزالي فقد نشر في مجلة الأمة القطرية العدد 43 حواراً تحدث فيه عن البيعة والشورى كلاماً صريحاً، ووصف من يزعم بأن الشورى غير ملزمة بعبارات حادة، فقال: أرفض من يقول: الحاكم في الإسلام يتصرف دون مجالس شورى تشير عليه، وله أن ينفرد برأيه متخطياً كل رأي يعرض، هذا كلام لا يمكن أن يقال: وصاحب الرسالة المعصوم عليه الصلاة والسلام ما زعم لنفسه فكيف يزعم للآخرين؟! .. القول بأن الشورى لا تلزم أحداً كلام باطل ولا أدري من أين جاء،
لعل فكرة عدم إلزامية الشورى وفكرة المستبد العادل كلها كانت فلسفة لواقع معين لتبرير وتسويغ الاستبداد السياسي من فقهاء السلطة،
ويتابع الأستاذ الغزالي حواره مع مجلة الأمة فيقول: فالذي رأيناه في سيرة النبي صلى الله عليه وسلمأنه التزم بالشورى.
إن الشورى من مبادئ الإسلام، وقبل أن تقوم للمسلمين دولة قيل لهم: مجتمعكم هذا الذي لما يتحول بعد إلى دولة، يجب أن يقوم أمره على الشورى (وأمرهم شورى بينهم) [الشورى: 38].
كان ذلك في العهد المكي، وعندما قام المجتمع على دولة بعد أن انتقل إلى المدينة، فإنه قيل للرسول صلى الله عليه وسلم بعد هزيمة أحد (وشاورهم في الأمر) [آل عمران: 159] ، وكان أول اختبار للشورى في غزوة الأحزاب عندما كاد النبي صلى الله عليه وسلم يمضي معاهدة بينه وبين القبائل الوثنية المحدقة بالمدينة، والتي توشك على اقتحامها، فلما عرض على زعيمي الأوس والخزرج رفضا ذلك فقبل الرسول منهما رأيهما وأخذ به.
هذا كلام الشيخ الغزالي.
ومن مشاهير الشيوخ وجهابذة العلماء الذين قالوا بإلزامية الشورى الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله، فقد التزم به وارتضاه لنفسه طيلة الفترة التي كان فيها مسؤولاً عن تنظيم الإخوان في سورية.
وكذلك الشيخ محمد شلتوت في كتابه: من توجيهات الإسلام، والدكتور يوسف القرضاوي والشهيد سيد قطب والشهيد عبد القادر عودة والدكتور محمد عبد القادر أبو فارس وغيرهم، فهؤلاء جميعاً قالوا بإلزامية الشورى، مؤكدين ذلك في كتبهم ومحاضراتهم وما خلفوه لنا من تراث فكري وآثاره علمية ثمينة.
لا يجوز الانفراد بالقرار:
ولا يجوز الاحتجاج بأن الرئيس أو القائد متخذ القرار يملك رؤية أوسع، إذا كانت لديه الفرصة لوضع كل الحقائق والمعلومات أمام مجلس الشورى.
لعل هذا هو الذي يوافق السنة العملية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد:
لما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرة قريش لقتاله، حتى بلغوا مسافة خمسة أميال من المدينة، بعث من يتحسس الأخبار، كي لا يتخذ القرار إلا على معلومات مؤكدة، ثم استشار أهل الرأي فانقسموا إلى قسمين:
البعض الآخر أشار بالخروج لملاقاة العدو ردعاً له، وإظهار لشوكة المسلمين.
وقد تغلب هذا الرأي في النهاية، فكان أن اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قراره على مقتضى ما أشارت به الأغلبية رغم مخالفتها لما كان يراه.
ولم يأت القرار إلا بعد المراجعات والمناظرات التي تسبق القرار.
وكان "العزم" (أي القرار) أن يتهيأ الجميع للمعركة وملاقاة العدوة عند جبل أحد، بنظام دقيق فصله رسول الله صلى الله عليه وسلم، يضمن حسن استخدام الجبل كموقع استراتيجي هام، لا يجوز التخلي عنه حتى تحسم المعركة، وأوصى المجاهدين بالتزام ما أمرهم به والصبر، فإن فعلوا فالنصر لهم بإذن الله.
وقد سار الخلفاء الراشدون من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الشورى على نفس النهج:
فلما استشار أبو بكر رضي الله عنه في قتال من منعوا الزكاة، وعارضه من عارض، وكان منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لم يترك الأمر، ولم يستبد برأيه، فحاجهم أبو بكر حتى حجهم، وكان قراره بقتال من فرقوا بين الصلاة والزكاة باعتبارهم مرتدين عن الإسلام.
ويروي القاضي أبو يوسف في كتابه "الخراج" أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاور صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن أرض العراق والشام، التي أفاء الله بها على المسلمين، وكان يرى إبقاءها مالاً عاماً للمسلمين تسد بها الثغور (أي ينفق منها على الجهاد في سبيل الله) ويرزق منها القضاة والعمال (أي يعطي منها أجور القضاة والولاة وكبار موظفي الدولة والجند) وينفق منها على الأرامل واليتامى والمحتاجين وينتفع بها أو المسلمين وآخرهم،
وكان هناك من تكلم بغير رأي عمر رضي الله عنه
فجمع مجلساً للشورى من عشرة نفر من أهل المدينة وظلوا في حوار وجدل ثلاثة أيام حتى ساق عمر من الحجج ما أقنعهم بصواب رأيه وكان على ذلك قراره.
ولا يظنن أحد أن عمر رضي الله عنه قد مارس ضغطاً أدبياً على مجالس الشورى، بل على العكس، فإنه قال لهم حين اجتمع: "إني لم أزعجكم إلا لأشرككم في أمانتي، وفيما حملت من أموركم، فإني واحد كأحدكم، وأنتم اليوم تقرون الحق خالفني من خالفني، ووافقني من وافقني، ولست أريد أن تتبعوا رأيي، معكم من الله كتاب ينطق بالحق، فوالله لئن كنت نطقت أمراً أريده ما أريده به إلا الحق"..
قالوا: نسمع يا أمير المؤمنين .. الخ.
على أنه إذا فرض وتساوى الرأيان، فعلى صاحب القرار أن يرجح كفه أحدهما ولعل هذا ما يوافق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه أبي بكر وعمر: "لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما".
فإذا ما تعددت الآراء ولم تظهر أغلبية، فإن الشورى لا تكون قد اكتملت بعد، وعلى صاحب القرار أن يبذل وصحبه من الجهد ما يظهر هذه الأغلبية، فيتخذ القرار والجميع في حالة اطمئنان بأن كلا منهم قد أدى الفريضة كما ينبغي، ويكون ذلك من خلال المزيد من بسط الموضوع والاستماع إلى آخرين من ذوي الخبرة والرأي للاسترشاد برأيهم، وبذل الجهد في فهم كتاب الله وسنة رسوله.
لقد أمر الإسلام بالشورى كنظام يتبع داخل الجماعة المسلمة، كل يدلي برأيه على مرأى ومسمع من الجميع، دون حجر على رأي أو استهزاء به أو سخرية من قائله، أو إهمال لمبديه، ولذلك كان من الخطر على بنيان الجماعة أن يتناجى اثنان أو أكثر بعيداً عن أعين الآخرين ودون علم القيادة، من أجل ذلك نهى المولى عن التناجي حتى لا توغر الصدور ولا تنقطع الأرحام، ولا تفسد المودة التي تربط الجميع.
الشورى والنجوى:
يبدو أن بعض المسلمين ممن لم تتطبع نفوسهم بعد بحاسية التنظيم الإسلامي، كانوا يتجمعون عندما تحزب الأمور ليتناجوا فيما بينهم، ويتشاوروا بعيداً عن قيادتهم، الأمر الذي لا تقره طبيعة الجماعة الإسلامية، وروح التنظيم الإسلامي التي تقتضي عرض كل رأي وكل فكرة، وكل اقتراح على القيادة ابتداء، وعدم التجمعات الجانبية في الجماعة،
كما يبدو أن بعض هذه التجمعات كان يدور فيها ما قد يؤدي إلى البلبلة وما يؤذي الجماعة المسلمة، ولو لم يكن قصد الإيذاء قائماً في نفوس المتناجين ولكن مجرد إثارتهم للمسائل الجارية وإبداء الرأي فيها على غير علم قد يؤدي إلى الإيذاء وإلى عدم الطاعة
ولذلك ناداهم الله بصفتهم التي تربطه به، وتحمل النداء وقعه وتأثيره (يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون (9) إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئاً إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون) [المجادلة: 9، 10].
فهو سبحانه ينهاهم عن التناجي –إذا تناجوا- بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، ويبين لهم ما يليق بهم من الموضوعات التي تناجى بها المؤمنون (وتناجوا بالبر والتقوى) [المجادلة: 9] لتدبير وسائلها وتحقيق مدلولها،
والبر: الخير عامة، والتقوى اليقظة، والرقابة لله سبحانه وهي لا توحي إلا بالخير، ويذكرهم بمخافة الله الذي يحشرون إليه، فيحاسبهم بما كسبوا وهو شاهده ومحصيه، مهما ستروه وأخفوه.
قال الإمام أحمد: حدثنا بهز وعفان، قالا: أخبرنا همام، عن قتادة، عن صفوان بن محرز، قال: كنت آخذاً بيد ابن عمر، إذ عرض له رجل فقال: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة؟
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يدني المؤمن، فيضع عليه كنفه، ويستره من الناس ويقرره بذنوبه، ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك .. قال: فإنى قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطي كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين".
والمولى سبحانه وتعالى ينفر المؤمنين من التناحي والمسارة والتدسيس بالقول في خفية عن الجماعة المسلمة، التي هم منها، ومصلحتهم مصلحتها، وينبغي ألا يشعروا بالانفصال عنها شأن في الشؤون، فيقول لهم: إن رؤية المسلمين للوسوسة والهمس والانعزال بالحديث تبث في قلوبهم الحزن والتوجس، وتخلق جواً من عدم الثقة، وأن الشيطان يغري المتناجين ليحزنوا نفوس إخوانهم ويدخلوا إليها الوساوس والهموم، ويطمئن المؤمنون بأن الشيطان لن يبلغ فيهم ما يريد.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه".
وهو أدب رفيع، كما أنه تحفظ حكيم لإبعاد كل الريب والشكوك، فأما حيث تكون هناك مصلحة في كتمان سر، أو ستر عورة، في شأن عام أو خاص، فلا مانع من التشاور في سر وتكتم، وهذا يكون عادة بين القادة المسؤولين عن الجماعة، ولا يجوز أن يكون تجمعاً جانبياً بعيداً عن علم الجماعة، فهذا هو الذي نهى عنه القرآن، وهذا هو الذي يفتت الجماعة أو يوقع في صفوفها الشك وفقدان الثقة، وهو الذي يدبره الشيطان ليحزن الذين آمنوا
ووعد الله قاطع في أن الشيطان لن يبلغ بهذه الوسيلة ما يريد في الجماعة المؤمنة، لأن الله حاميها وكالئها، وهو شاهد حاضر في كل مناجاة، وعالم بما يدور فيها من كيد ودس وتآمر، وقد وعد الله بحراسة المؤمنين، فأي طمأنينة بعد هذا وأي يقين؟.
الشورى تحسم الخلاف:
إن سيادة مبدأ الشورى لم يكن وقفاً على فئة دون غيرها، وإنما امتد لينعم في ظله جميع المسلمين، ذلك لأن القيادة المخلصة تحذر من التنازع والاختلاف المؤدي إلى الشتات والتمزق الذي يجر إلى الضعف، وذهاب القوة، وإعطاء العدو الفرصة للانقضاض عليهم، ومحاولة الحفاظ على جمع الكلمة والتئام الصف وتلاحم بنية الجماعة، وهذا لا يتم إلا عند صفاء النفوس والابتعاد عن ركوب الأهواء، والطاعة الكاملة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولولي الأمر في غير معصية وتسيير الأمور تحت إطار النص من الكتاب أو السنة، أو الشورى فيما لا نص فيه.
ولذلك كان من الأمور التي تضمن سلامة الجماعة من التصدع والشقاق الرجوع للشورى بشرط أن تكون في أهلها من ذوي العلم والرأي، فهم أهل المعرفة بمواطن المصلحة والمفسدة.
والتنازل لرأي الجماعة بعد تداول الرأي وتمحيصه لا يترك سبيلاً للخلاف، وقد أرشد إلى التشاور رب العزة تبارك في قوله: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) [آل عمران: 159] وقال: (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) [الشورى: 38].
ولذلك فإن القيادة المخلصة تضع مبدأ الشورى موضع التنفيذ لأن ربنا يقول: (وشاورهم في الأمر)
ويعني هذا أن تكون المشاورة فيما يحكم فيه بطريق الاجتهاد، لا فيما يحكم فيه بطريق الوحي، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم: "أنا أقضي بينكم فيما لم ينزل فيه وحي"
وروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله، الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن، ولم يمض فيه منك سنة، قال: "أجمعوا له العالمين" أو قال: "العابدين من المؤمنين فاجعلوه شورى بينكم ولا تقضوا فيه برأي واحد".
وعلى القيادة وهي وسط الأمواج والأنواء والأعاصير، تحرى الصواب فيما لا نص فيه، بما يحقق مصلحة الجماعة بالضوابط الشرعية، بل تبذل الجهد للوصول إلى أصوب الرأيين، وأهون الضررين، وأرجح المصلحتين، وقد قيل: إن العاقل هو الذي يعرف الخير من الشر، أما الحكيم فهو الذي يعرف خير الشرين إن كان في الشر خيار.
ولذلك فإن في البيئة النقية تتوفر جهود العلماء وصلحائها على إرساء قواعد الحرية الفكرية التي تتغذى بالحوار، وتنمو بالمراجعة، وتصح بالنقاش، فتتنوع أساليب العمل وتتعدد وجهات النظر، فيثمر ذلك قوة في البنية الفكرية، ووعياً في التناول والمعالجة، واحتفاءً بالرأي، وتلمساً للحق، وانقياداً له، وتغذوا الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها.
وهذا المسلك هو الذي حرص على تأصيله رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعامله مع صحبه الكرام، ذلك لأن عصمته من الخطأ، وتسديده بالوحي، لم تجعله يستنكف عن مشورة أصحابه، إقراراً لمبدأ الشورى في حياة المسلمين من بعده، ودفعاً لغوائل الاستئثار بالرأي، ومصادرة حق الآخرين في الإفصاح عما يخامر أذهانهم، ويتفاعل في نفوسهم، فكانت المواقف تجاه الأحداث المختلفة تجسيداً لروح الجماعة ومرئياتها المنسجمة والملتزمة بهدي النبوة.
ولا نكاد نحصي تلك المواقف التي بإمكاننا أن ندلل بها على صدق ما ذهبنا إليه، ولكننا نكتفي بموقف واحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل المثال لا الحصر:
ما حدث بعد معركة بدر عندما توجه الرسول صلى الله عليه وسلم تلقاء أصحابه قائلاً: "ما تقولون في الأسارى؟".
ولو قالوا: الأمر إليك فافعل ما ترى، لما كان في ذلك انتقاص من أقدارهم أو تقليل من مكانتهم، إذ أنهم بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام الذي جاء بالقرآن ومثله معه، ولكنهم آثروا أن يفيضوا على الموقف ما يعين في تقرير مصير أولئك الأسرى، فاتخذوا في ذلك مذاهب شتى، تنبئ عن تباين شديد في وجهات النظر، ولكن في إطار من الحوار الراقي الذي لم يكن للهوى فيه نصيب.
فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله، قوم وأهلك، استبقهم واستتبهم لعل الله أن يتوب عليهم.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله، كذبوك وأخرجوك، فقدمهم واضرب أعناقهم.
وقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: يا رسول الله، أنت في واد كثير الحطب، فاضرم الوادي عليهم حطباً، ثم ألقهم فيه. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليهم بشيء، ثم قام فدخل،
فقال ناس: يأخذ برأي أبي بكر،
وقال ناس: يأخذ بقول عمر،
وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة،
ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام قال: (فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) [إبراهيم: 36] ومثل عيسى عليه السلام قال: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) [المائدة: 118] ،
وإن مثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام قال: (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) [يونس: 89] ومثل نوح عليه السلام قال: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً) [نوح: 26].
ويبدو جلياً كم كان الرسول عليه السلام حفياً بهذه الآراء وهو يلتمس لكل واحد منها وجهاً من وجوه الحرص والغيرة.. وغير هذا الموقف الكثير الذي لا يعد ولا يحصى.
وبذلك أقام النبي صلى الله عليه وسلم نموذجاً أمثل لحياة راشدة، تحققت من خلالها كرامة الإنسان وحريته في إبداء رأيه في مجتمع ساد فيه مبدأ الشورى حين آمن الجميع ولم يلبسوا إيمانهم بظلم.
الشورى عندنا ملزمة:
والشورى هي التي تفرق بين مجتمعين:
مجتمع ظالم أهله، ومجتمع الأمن والإيمان،
فالمجتمع الأول ترى فيه من يقول: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبل الرشاد، فإن كانت هذه مقولة حاكمهم، فإن مقولة الأتباع نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين.
ولذلك ينبغي على قيادة العمل الإسلامي ألا تسلك هذا المسلك الذي يحطم إرادة الرجال ويمنع تفكيرهم، فلا يجوز أن تفرض رأياً وتهدر الشورى، وتنفرد بالنظر بل لابد لها من أن تقتدي بالمصطفى صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، ومن تبعهم بإحسان وتلتزم بالشورى، وتتخلص من مظاهر السلوك الفردي المتمثل في إصرار كل ذي رأي على رأيه وكل ما يصادف في النفس هوى وقبولا، وسوء الظن بمقدرة الآخرين وأهليتهم في التفكير والرؤية، والاعتصام بمبدأ ما أريكم إلا ما أرى.
والموقف الصائب في ذلك ما ذهب إليه الإمام مالك رضي الله عنه وهو يقول: إنما أنا بشراً اخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه.
وعلى هذا ففي وسع أي إنسان –بتوفيق الله- أن يرشد إلى ما فيه الصلاح والسداد، ما دام سلك الطريق المستقيم، ويبتغي الهدى السامي ملتزماً بتوجيهات الإسلام وضوابطه.
وقد أصبح هذا الأسلوب أمراً مستقراً لدى المسلمين، ففي ما رواه سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "قلت يا رسول الله، الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن، ولم تمض فيه منك سنة،
قال: اجمعوا له العالمين من المؤمنين فاجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد".
الشورى والنصيحة:
وتتكامل الشورى مع النصيحة ولا يختلطان، فالنصيحة تجوز من فرد واحد ذي خبرة، أو أكثر من فرد، وتعطى النصيحة، أو تطلب أثناء الشورى، أو في أعقابها، عند تنفيذ القرار، مثل النصيحة التي أدلى بها الحباب بن المنذر، عندما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظم الجيش استعداداً للمعركة فقال: "يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟
فقال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة.
فقال: "يا رسول الله، فإن هذا ليس منزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور (أي ندفن ونطمس) ما وراءه من القلب (أي الآبار). ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون.. فقبل رسول الله نصيحته وعمل بها.
ومن المواقف التي أعطيت فيها النصيحة أيضاً، حفر الخندق في الأحزاب بناء على نصيحة سلمان الفارسي، ومبادرة رسول الله بنحر الهدى والحلف في أعقاب صلح الحديبية بناء على نصيحة أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها،
أما عن موضوع الشورى، فهو فيما لا نص فيه، فإذا كانت الشورى ضرباً من ضروب الاجتهاد، له خصوصيته، فهي عمل عقلي بشري لا يجوز الأخذ بها مع وجود النص الموحى به، ما دام نصاً قطعي الدلالة..
وهذا ما يخصص عموم قول الله تعالى: (وشاورهم في الأمر) [آل عمران: 159]
فلا مكان للشورى حال وجود نص، كما قال علماء أصول الفقه: "لا اجتهاد مع نص"، وأوضح مثال على هذا هو عدم قبول رسول الله الشورى في صلح الحديبية، لأنه كان مأموراً بما فعل، فما كان له ولا للمؤمنين إلا الإذعان: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون) [النور: 51] ، (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً) [الأحزاب: 36].
وأخيراً مرجعيتها: فإن أي قرار يستند إلى مرجعية من منظومة القيم، ومبادئ عامة، ولا شك أن مرجعية الشورى الإسلامية تختلف بالضرورة عن غيرها، فالإسلام منظومة قيمة، ومبادئه العامة المستمدة من مصدريه: القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، وهذه أمور تميز الشورى الإسلامية عن غيرها من صور الشورى قديمها وحديثها.
إن استئناف الحياة الإسلامية المثلى يقتضي الانطلاق من أرضية التفاهم والتنسيق، وهو أمر لا يتحقق إلا بتعزيز الدور الإيجابي للشورى والتي يجب أن تمتد عبر مختلف الساحات، وتتقدم على كل الاهتمامات من خلال تبادل الآراء واستقاء التجارب، والاستفادة من الخبرات.
وهذا كفيل بأن يجنبنا مزالق التشتت والشقاق والتشرذم القاتل، الذي كثيراً ما يأتي على ما نبنيه من القواعد، ويجهض كل محاولة في سبيل الاعتصام بحبل الله المتين.
والشورى تلزم المشارك فيها بوجه عام، والقيادة بوجه خاص أن تجتهد وتتحرى للوصول إلى الصواب، ولكي تدخل القيادة في زمرة المجتهدين، لابد أن يكون لديها الحد الأدنى من شروط الاجتهاد، ولا أعني بها هنا شروط الاجتهاد الفقهي المذكور في كتب أصول الفقه، بل لكل موضوع يجتهد في الشؤون العسكرية، أو الاقتصادية أو التربوية، إلى جوار ما لابد منه من الشروط العلمية والفكرية العامة.
فأما مَنْ هجم على أمر لا يحسنه، وحكم فيه بغير بينة، ولا سلطان، فقد أساء إلى نفسه، وإلى موضوعه وإلى الناس، ولم ينل من الأجر نقيراً ولا قطميراً، بل اكتسب إثماً مبيناً لقوله بلا علم، وخوضه فيما لا اختصاص له به، بل يدل ذلك على ضعف الإخلاص لديه.
ولهذا جاء في الحديث: "القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد الجنة، رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس عن جهل، فهو في النار، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار".
فجعل الذي يقضي على جهل في النار، كالذي يقضي بالباطل على علم، لأنه أدخل نفسه فيما لا يحسن، وكان الواجب عليه أن ينسحب من موقعه ويدعه أو يستعين بمن هو أهله.
بل مثل هذا، إن أصاب، فصوابه غير محسوب له، لأنه رمية من غير رام، واجتهاد من غير أهل، فلا قيمة له لافتقاده سلامة المنهج.
وعلى هذا فإن على القيادة أن تبذل الجهد وتستفرغ الوسع في تحري الحقيقة، وطلب الصواب بكل الإمكانات المتاحة وكل الوسائل المعينة، وكل المعلومات المتوافرة للوصول إلى الصواب، وعليها بعد ذلك أن تستشير أولى النهى وتستعين برأيهم وتشاورهم في المر طلباً للرأي الأسد، والعمل الأرشد.
فإذا تم التشاور فعلى الجميع أن ينزل على الرأي الذي اتفق عليه ويلتزم به ويخلص له، وليس له أن يخرج عنه، لأن الشورى ملزمة عندنا، أما إذا كان ممن لا يلتزمون بمنهجها ولا يسيرون في طريق دعوتنا، فنقول لهم مقولة الإمام البنا رضي الله عنه: "نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه"
لهذا كله كانت الشورى عند الإمام البنا ملزمة، وكان على الأتباع أن يلتزموا بهذه الاختيار الفقهي لأنه من ثوابت الجماعة.
ثامناً: احترام نظم ولوائح الجماعة خلقنا
إن العمل التربوي المنظم المثمر الجماعي هو منهج أصيل في الإسلام فلا جماعة بلا نظام، ولا نظام بلا جماعة، فهما كوجهين لعملة واحدة لا يصلح أحدهما أو كلاهما إلا بالآخر،
فإذا اتفقنا على أن الجماعة ضرورة شرعية، وهي من ثوابت الإسلام، فإن هذه الجماعة تبقى جسداً لا ينبعث فيه الروح إلا بالتكاليف المنظمة والواجبات المفروضة، وهي جسد ميت إذا لم تقم على النظام والتنظيم، وتصير معنى بلا تطبيق ولا واقع إذا انفك النظام عنها، تنظيم يشمل العقيدة والعبادة والحركة، فالنظام لا ينفك عنها ولا تنفك هي عن التنظيم، لذلك وضع الإمام البنا للجماعة منهجاً للعقيدة، ومنهجاً للعبادة ومنهجاً للحركة، ليتوحد الفهم وينضبط المسير ويصبح احترام النظام من ثوابت الجماعة.
فمن أراد أن يلج الباب ويدخل ليكون من الأتباع أخاً ومشاركاً في الحركة، كان عليه أن يحترم النظام ولا يخرج عنه، وهذه بدهيّة، لأنه في حياتنا العملية بمجرد انضمام إنسان إلى ناد من النوادي لابد أن يخضع للائحته ونظامه الأساسي، وإلا تعرض للعقاب الذي قد يصل إلى الفصل، كذلك المدرسة أو الكلية أو العمل في مؤسسة أو شركة يخضع العامل فيها لمواعيد العمل ونظامه وطاعته لمديره في كل ما يكلفه به،
بل إن الحزب السياسي إذا تحدث عضو فيه مجرد حديث، وقال مجرد كلمة تتعارض وأفكار وتصورات وتوجهات الحزب، سرعان ما يعرض نفسه للجنة النظام والقيم أو لجنة العضوية التي تفصل في أمره،
فما بالك بجماعة تريد أن تقيم ديناً، وتستعيد خلافة سقطت،
أقول: هل تستطيع أن تحقق ما ترجو إليه من أهداف كبار دون نظام ولا تنظيم،
هل يستطيع عاقل أن يقول: أستطيع أن أحقق هذه الأهداف الكبار التي تنشدها الجماعة دون الخضوع لنظامها الذي يحدد حركتها ويضبط مسيرتها؟
أو يقول: إنني أؤمن بالفكرة والتصورات والأهداف غير أني لا ألتزم بنظام الجماعة؟! وليس لأحد على من سمع أو طاعة؟ فما بالك بمن يقول: مالنا وهذه النظم واللوائح والمناهج التي وضعت قيداً على الرقاب وشلا للحركة.
دعونا ننطلق فلسنا صغاراً !!
أو يقول: هلا تركتم الأفراد بعد تربيتهم ينطلقون في المجتمع يدعون بدعوة الإسلام دون أن تقيدوهم بقيود النظام ومخاطره.
إن الشركة أو الهيئة أو المدرسة لا تستطيع أن تحقق أهدافها إلا بمدير ومدرسين وعمال وإدارة ونظام، فهل يستطيع عاقل أن يقول: إنني ضمن أسرة الحزب آمنت به وبأفكاره التي يدعو إليها، لكنني لا أقيد نفسي بنظامه وهياكله وإدارياته وتكاليفه وأوامره، إنه إن تلفظ بذلك سرعان ما يُقدم للمسؤولين عن الحزب ليحاسبوه ليس على ما فعل ولكن على ما قاله من كلام مرسل أو مصرح به في بيان،
فما بالك بجماعة تنظم نفسها لاستعادة أمة ضاعت هويتها وفقدت أركانها، وتريد العودة إلى مجدها، فهل يستطيع عاقل أن يقول: أستطيع أن أحقق هذه الأهداف الكبار دون إداريات أو نظام؟.
مواقف خارجة عن النظام:
إن المواقف الخارجة عن النظام تحتاج من القيادة الحسم فيها، وإلا كانت الفوضى التي لا تأتي بخير، وهذه بعض المواقف على سبيل المثال لا الحصر التي مرت بها الجماعة القديمة نختار منها:
الباقورى والوزارة:
قبل الشيخ أحمد حسن الباقوري رحمه الله الوزارة في عهد عبد الناصر دون إذن من فضيلة المرشد حسن الهضيبي.
فقال له المرشد: ما الموقف؟
قال الباقوري: استقيل من مكتب الإرشاد.
قال المرشد: ثم ماذا؟
قال: استقيل من الهيئة التأسيسية.
قال المرشد: ثم ماذا؟
قال: استقيل من جماعة الإخوان المسلمين.
فقال له المرشد: هذا هو الحل.
ثم ذهب فضيلة المرشد إليه في وزارة الأوقاف وهنأه.
وحتى الذين خرجوا عن فكر الجماعة وبالتالي خرجوا على نظامها حين هبت ريح فتنة التكفير إثر محنة 1965م استبشر البعض بهذا الفكر لأنهم وجدوا فيه ضالتهم المنشودة.
وقالت شياطينهم: هذا الفكر سيمزق صفوف الإخوان من الداخل، وسينفر منهم الناس في الخارج.
فكان القرار هو عزل أصحاب هذا الفكر ليتعمق في نفوسهم احترام نظم الجماعة وفكرها، ولذلك صدر كتاب "دعاة لا قضاة" ليميز المتبع من المبتدع، والملتزم من الخارج، حتى أن بعض الإخوان كانوا يرون إرجاء مناقشة هذا الفكر في هذه الظروف الصعبة.
لكن الأستاذ المرشد –رحمه الله- قال: إن هذا الفكر أشد خطورة على الدعوة من السياط والتعذيب الذي يقوم به زبانية عبد الناصر، وحسم الأمر (ليهلك من هلك عن بينةٍ ويحيي من حيَّ عن بينةً) [الأنفال: 42].
فرجع الكثير عن هذا الفكر (المنحرف) وحفظت الجماعة بهذا الحسم، ولم يبق إلا قلة خرجت عن الجماعة فكراً وتنظيماً، حتى أن بعضهم قال: نبايع على كل شيء في الجماعة إلا مسألة التكفير،
فقال الأستاذ المرشد: بل كل شيء حتى هذه المسألة، ومن لم يبايع فليبحث لنفسه عن لافتة غير "الإخوان المسلمون" ، ولك أن تقيس على هذه المواقف لترى أهمية احترام نظم ولوائح الجماعة فهي التي تبين للجماعة المتبع ممن نكص على عقبيه.
لقد علمنا المولى سبحانه وتعالى أن للكون سنناً محكمة ونظاماً دقيقاً لا ينبغي الخروج عن مداره ونظامه الثابت (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكلٌ في فلك يسبحون) [يس: 40]
فالنجم في السماء له مداره ونظامه، فإذا خرج عن هذا النظام تحطم وخبا نوره وسقط من عليائه وأصبح حجراً أصم لا يهتدي به أحد، بل إن الإنسان الذي خلقه ربه وضع له نظاماً ومنهج حياة به يسعد، وله يعيش، أرشده إليه (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) [فصلت: 42] .
وعلمنا رسولنا الكريم أن من اتبع هذا الكتاب وفعل المأمور وترك المحذور وصبر على المقدور، فقد اهتدى ومن خرج عليه وعصى أوامره ونواهيه واتبع هواه فقد هلك (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى (123) ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكاً) [طه: 123، 124] وقال: (من يطع الرسل فقد أطاع الله) [النساء: 80].
فهناك ثابتة لبقاء الكون، ومنهج ثابت لسعادة الإنسان.
ومن هذه الدروس جميعاً نرى أنه لابد من نظام محكم سديد رشيد يجتمع عليه جميع أفراد الجماعة طاعة لله ولرسوله، ما دمنا نؤمن بصحة اعتقادها، وصدق اتباعها وإخلاص قادتها، فيصبح السمع والطاعة عبادة لله رب العالمين، ولذلك فإن هذا من طبيعة الحركة الإسلامية لكي تحقق أهدافها بنظام محكم،
كما تعتبر إحياء المشاعر الإيمانية وإلهاب العواطف الإسلامية جزءاً من رسالتها التي هي رسالة الإسلام، وذلك لتوفير قدر من الحماسة يدفع إلى البذل والتضحية والسمع والطاعة في المنشط والمكره،
وكذلك ربط القلوب برباط المحبة والأخوة التي ترتقي فتصل إلى درجة الإيثار وفي نفس الوقت لا تغفل وحدة المفاهيم ووحدة التنظيم كتربية إدارية مرتبطة بالمشاعر الإيمانية، وإن كانت تقوم على العقل والفكر، لأن غلبة الجانب الفكري والنظري على الجانب التطبيقي والعملي، دون ربطه بالتربية من معوقات التربية،
لذلك لابد من إيمان بالله يعني: التحقق بالقناعات الكافية بجدوى العمل، تصاحبه تقوى الله، وهي تلك الطاقة الفذة التي تشعل مصباح الضمير فيظل متألقاً متوهجاً إلى أن تلقى الله وما عليك خطيئة من قصور أو تقصير أو إفراط أو تفريط، وهذا لا يتحقق إلا إذا شعر المسلم من داخله شعوراً يملك عليه حياته بأن الله يراقبه وهو يمارس هذا العمل أو ذاك، فيستحسن ما حسنه الله ويستقبح ما قبحه الله، حتى يصبح ذا قلب سليم ونفس مطمئنة الله حيث أمره ويختفي حيث نهاه حتى يصل إلى درجة الإحسان هو الإتقان في أداء ما عليه من تكاليف، لكي يوضع المسلم المؤمن التقى في المصاف الأعلى حيث هذا الإحسان الذي يدفع المسلم إلى الإبداع الكامل في كل ما يقوم به من واجبات في ضوء نظام الجماعة ولوائحها، إنه هنا يقف أمام الله سبحانه ويسمع نداء من نبيه صلى الله عليه وسلم ينفخ فيه اللحظة تلو اللحظة "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه"
ومن هذا الأخذ والعطاء على الدرب الواحد صوب الهدف الواحد بنظام واحد وتوجيه واحد وقيادة واحدة، يتحول المسلم المؤمن إلى طاقة فذة في ميدان الإنجاز، قوة هائلة في مجال العطاء والإبداع، شعلة متوهجة يمتد شعاعها إلى أعماق الذات فيضيئها ويدفعها إلى آفاق العالم بقوة مدهشة إلى الأهداف المرتجاة، كل ذلك لتحقيق العبودية لله بكل ما يوصل إليها من شعائر أو نظم، فهي سواء كانت شعائر أو شرائع أو أخلاقاً أو نظماً أو إداريات، ذلك لأن منطلقنا تعبدي لله رب العالمين، فما بعثنا الله إلا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. ولا يتحقق ذلك إلا بنظام محكم نبتغي به الأجر من الله سبحانه وتعالى.
تاسعاً: اختيارات الجماعة الفقهية لا خيرة للأفراد فيها
إن ما يحكم الجماعة سواء نظامها الداخلي، ولائحتها التنفيذية وأمورها التنظيمية منذ نشأتها ونظرتها للأمور المختلف فيها فقهياً، بيّن الإمام البنا إن هذه الأمور تخص الجماعة دون غيرها، لأنها مصالحها المعتبرة وليست من القطعيات يلتزم بها غيرنا شرعاً، ولا يستطيع أن يخالفها أو يجتهد فيها،
ولكن لها وجوه،
فمن خالف الجماعة بوجه فقهي معتبر أو أخذ به لا إثم عليه.
أما من هم جنود فيها وبايعوا قادتها فواجب عليهم الالتزام والسمع والطاعة في المنشط والمكره بكل ما تأمر به الجماعة أو تضع من نظم وإداريات، فإذا اختارت الجماعة نظماً وقواعد ولوائح تضبط حركتها لتحقيق أهدافها ارتضتها الجماعة وأقرتها، وجب احترامها والعمل بها كنظام الأسر والاختيارات الفقهية التي تراها الجماعة لأنها أصبحت من ثوابتها
أما المسائل الفقهية التعبدية المختلف فيها والتي قال فيها الإمام النووي: "المختلف فيه لا إنكاره فيه".
فإن كانت هذه المسائل فيما يتصل بالعبادات والشعائر الشخصية، فليس للجماعة أن تتدخل فيها، فهذه أمور تعبدية فردية لكل فرد أن يختار ما ترتاح إليه نفسه ويطمئن إليه قلبه ويقتنع به عقله من آراء وأحكام في المذاهب المعتبرة، وله أن يتبع إماماً من الأئمة أصحاب المذاهب الإسلامية، فهذا حنبلي وذلك شافعي وثالث مالكي ورابع حنفي، ما دام هذا الحكم لا يتصل بحركة الجماعة ولكن بعباداته الفردية،
وعلى هذا فإن الجماعة إذا اختارت وجهاً من الوجوه الفقهية في مسألة من المسائل فليس للفرد أن يخرج عليه إلى رأي فقهي آخر مادام يتصل بحركتها،
فمثلاً إذا اختارت الجماعة الرأي الفقهي الذي يقول: إن الشورى ملزمة فليس لأي فرد أن يقول: سآخذ بالرأي الآخر الذي يقول إن الشورى معلمة، فتضطرب الأمور، ولن يحسم الخلاف أبداً داخل الجماعة فيتنازع أفرادها ويفشلون وتذهب ريحهم، وهيهات أن يجتمعوا على رأي واحد.
فاختيار الجماعة الفقهي بأن الشورى ملزمة من الثوابت التي لا مناص منها ولا رجوع عنها لأن الشورى الملزمة هنا صارت جزءاً من النظام الملزم الذي يحسم الخلاف.
يقول الإمام البنا: "ورأى الإمام ونائبه فيما لا نص فيه وفيما يحتمل وجوهاً عدة، وفي المصالح المرسلة معمول به مالم يصطدم بقاعدة شرعية، وقد يتغير بحسب الظروف والعرف والعادات. والأصل في العبادات التعبد دون الالتفات إلى المعاني وفي العاديات الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد"
أما في الأمور التعبدية الشخصية فيقول ابن تيمية: "إن ما فيه خلاف –وهو المتغير المجتهد فيه- إن كان الحكم المختلف يخالف سنة أو إجماعاً وجب الإنكار لعيه، وكذلك يجب الإنكار على العامل به، إن كانت المسألة ليست فيها سنة ولا إجماع فالاجتهاد فيه مذاهب فإنه لا ينكر على المخالف سواء كان مجتهداً أو مقلداً.
وكل مسلم لا يستطيع أن يخالف ذلك فهي من الأمور الثابتة شرعاً سواء للفرد أو للجماعة.
ويحكمنا في كل الأحوال آداب الاختلاف التي منها:
- عدم التعصب للرأي لكسب الأنصار، والتعصب غير التمسك والالتزام.
- لا نرضى لجماعة أو فرد أن يدعى العصمة فيما يقول من أمور الاجتهاد.
- نبحث عن الحق سواء ظهر على لساني أو لسان غيري.
يقول الإمام الشافعي: ما ناظرت أحداً إلا رجوت الله أن يظهر الحق على لسانه.
- لا نبحث عن سقطات الآخرين لننفر الناس منهم، فليس هذا بخلق المسلم.
- وضوح أن الاتفاق على أصول المنهج لا يعني الاتفاق على فروعه.
تفسير ما يقوله المخالف لصالحه وأن نجمع كل ما قاله في المسألة الواحدة.
يقول ابن تيمية عن الذي قال في زمانه: من أحبه الله لم يضره الذنب –هذا قول المرجئة- ولكن ابن تيمية فسرها لصالح قائلها، وقال: يقصد أنه من أحبه الله وفقه للتوبة.
- نحن نقدر العلماء ولا نقدسهم، وهفواتهم تنغمر في حسناتهم وصدق القائل: من لم يعرف اختلاف الفقهاء لم يشم رائحة الفقه.
ومن المواقف المبدئية وليست التكتيكية الحركية كما يدعى أعداء الإسلام وأعداء الدعوة والمرجفون بيننا، موقفنا الثابت المبدئي والذي أعلنته الجماعة مثل:
- موقفنا من العنف والإرهاب.
- موقفنا من الأقباط.
- موقفنا من الشورى.
- موقفنا من المرأة.
- موقفنا من المشاركة في الحكم.
كل تلك المواقف من الثوابت التي لا تتغير ولا تتبدل، ذلك أن صاحب الفكرة يتحمل من أجل ثوابته الكثير، لا يبغي مصلحة أو منفعة بل يقوم وهو يتمسك بها: لا أسألكم عليه أجراً، ولا نريد منكم جزاء ولا شكوراً، وفي نفس الوقت لا يساوم عليها ولا يتنازل عنها، ويقول: والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه.
عاشراً: الله الغاية في كل ما نقول ونعمل
إن وظيفة الإنسان ورسالته بل الغاية من حلقه في الحياة هي عبادة الله وحده سبحانه وتعالى (وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات: 56] ، العبادة بمفهومها الإسلامي الواسع الشامل، فهو لا يحقق وجوده ولا إنسانيته ولا سعادته وحريته وكرامته، بل وحضارته إلا بإخلاص العبودية لله وحده، فنفسه عزها الحقيقي في ذلها الكامل لربها،
لهذا فإن المسلم هو العبد الحر حين يقول (إياك نعبد وإياك نستعين) وعبادته تستغرق عليه كل لحظات ودقائق وساعات نهاره وليله، إنه عبد الله آناء الليل وأطراف النهار، سواء كان راهباً بالليل أو فارساً بالنهار، فهو عابد في كل حركة وسكنة، فهو عابد لله في المسجد والبيت والمؤسسة والعمل والوظيفة والشارع، فأينما توجه أو سار أو قام ثمّ وجه الله (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (162) لا شريك له) [الأنعام: 162، 163].
فهو عابد في حياته التعبدية وفي شرائعه وقوانينه الحياتية عابد لله في حياته التعليمية والعلمية، والسياسية والاجتماعية والسلوكية والعائلية، في حياته العامة والخاصة، عابد في إدارياته وتخطيطه وتنظيمه، عابد في توجهاته، فأبرز ما يميز حياته ما يصبغها بالعبادة، وأسعد أيامه ما يطعمها بطعم العبادة (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء) [البينة: 5]
لأنه بالعبادة نصل إلى الصدارة والقيادة وصدق الإمام حين قال: "كونوا عباداً قبل أن تكونوا قواداً تصل بكم العبادة إلى أحسن قيادة".
لذلك فهو لا يتخلى عن عبوديته لله أبداً، ولو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في يساره، لا يتخلى عن حريته، لأن من عبد الله حق عبادته خافه كل شيء واعتز بعزة الله، فلا يفرط في كرامته ولا يستذل مخلوق وهو يقول: (إياك نعبد وإياك نستعين) فكمال الحب وكمال الذل لله رب العالمين لا شريك له، فلا يجبن أمام طاغية، ولا يضعف أمام جبار، فيستعلى بإيمانه، ويثبت على ثوابته ولو كان ضعيفاً مجرداً من كل أسباب ومظاهر القوة المادية (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون) [الأنفال: 26].
ومع هذا فالذي نريد أن نؤكد عليه أن الإنسان لا يتقدم على رجليه بل على محاور ثلاثة: عقله – جسمه- فؤاده، حيث يعقد لواء التفوق أساساً على مدى ما أصاب الإنسان في ثبات فؤاده وسلامة قلبه، وتعتبر محصلة هذه المحاور الثلاثة عاكسة لصفات النفس البشرية خيراً وشراً، ضراً ونفعاً ولن يتحقق الخير إلا إذا كانت الغاية الله.
النبع الصافي:
إن المسلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن هو النبع الذي يستقى منه، بالرغم من وجود حضارة الرومان واليونان، والفرس والهند، والصين بل اليهود والنصارى في قلب الجزيرة، وكانوا يقرأون القرآن لا بقصد المتعة والثقافة، ولكن ليوضع موضع التنفيذ، حتى أن المسلم حين يدخل الإسلام يخلع على عتبته كل ماضية في الجاهلية، ويقف أمام الإسلام عارياً كيوم ولدته أمه ليكتسي بكسائه (ولباس التقوى ذلك خير) [الأعراف: 26] لا يبتغي إلا رضا الله.
كان يستمد قوته من إيمانه وعقيدته، ويهتدي بهما في الحياة، محدداً وجهته على ضوئهما، متحلياً بأخلاق هذه العقيدة التي تصلح الأفراد، وبصلاح الأفراد يتماسك المجتمع المسلم، ويترابط بوحدة المشاعر التي سادت بينهم، والقيم التي تحكمهم، والحب الذي يغشاهم، لأنه لا يمكن أن يسود التآلف والترابط والمحبة، ولا يتم التوافق الاجتماعي في المجتمع إلا إذا وجدت الوحدة الأخلاقية، ووجد بين الأفراد اتفاق في السلوك والاتجاه، وكانت الغاية الله.
لذلك، فإن قانون الأخلاق في الإسلام لم يدع للنشاط الإنساني في ناحيته الفردية، والاجتماعية مجالاً حيوياً، أو فكرياً أو أدبياً، أو روحياً إلا رسم له منهجاً للسلوك وفق قاعدة معينة، وأنه بذلك تخطى علاقة الإنسان بنفسه وعلاقته ببني جنسه، فشمل علاقته بالكون في جملته وتفصيله، ووضع لذلك ما شاء الله من التعاليم والآداب السامية، فألف بذلك صفحة منسقة من حياة المسلم اليومية، وأصبحت الحقوق والواجبات واضحة، كما يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "إن لربك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه" فإذا أدينا ما علينا من واجبات وحقوق، كان لزماً علينا أن ننهض لنحقق الغاية.
صحيح أننا نريد أن ننهض، ولكن غايتنا من النهوض أن نحقق تمام العبودية لله رب العالمين، فنكون من أصحاب الأيدي المتوضئة، والجباة الساجدة، والأقدام المتورمة، والأكف المتذللة، والجفون المتقيحة، والعيون الدامعة، والألسن الذاكرة، والجوارح الخاشعة، والقلوب الوجلة، رهبان بالليل، وفرسان بالنهار (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون (2) الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (3) أولئك هم المفلحون) [الأنفال: 2-4].
هم مؤمنون حقاً لأن الله غايتهم، وسيظل هذا هدفاً حتى بعد استقرارنا في الجنة بفضل الله عز وجل إن شاء، لذلك فهو هدف فوق الأهداف، إنه غاية، وهذه الغاية من ثوابت الفكر والتصور في دعوتنا، إن مقتضى ثبات غايتنا وأنها تحصيل رضا الله عز وجل أن يزن كل منتمٍ للدعوة أمور دعوته بها، فكل مقصود يرضى الله سبحانه وتعالى عنه هو مقبول من حيث المبدأ في دعوتنا، وكل مقصود أو مطلوب يغضب المولى هو مرفوض من حيث المبدأ حتى نصبح أصحاب قلوب كما وصفت الآية.
الحكومات مجرد وسائل:
فالنظم والإداريات بل الحكومات والجمعيات والجماعات التي يسعى بل الحكومات والجمعيات والجماعات التي يسعى إليها الناس، إنما هي وسائل لتحقيق الأهداف، وليست غايات بحد ذاتها، وإنما تشرف هذه الوسائل بشرف غاياتها، وتقصد للحصول على قدر أكبر من تحقيق تلك الغايات التي يقصر عنها الجهد الفردي، فتكون الجماعة ويكون التجمع وتكون القيادة.
وبالتالي فلا يجوز بحال من الأحوال أن تنقلب هذه الوسائل إلى غايات بحد ذاتها، وإنما يجب أن تبقى وسائل محكوماً عليها بمقدار ما تحقق من الغايات التي سبقت الإلماحة إليها، وهي تحقيق العبودية لله تعالى والفوز برضاه. فليست غاية الدعوة إلى الله والعمل الإسلامي بصوره المختلفة، الوصول إلى الحكم والسلطة بأشخاصه وبمختلف الطرق الشرعية وغير الشرعية، وإنما الحكم بحد ذاته لا يعدو في نظر المسلم أن يكون من وسائل تحقيق معنى العبودية، ونشر الدعوة وحمايتها في مدى أوسع ومساحة أشمل، ذلك أن المهم في نظر المسلم أن تتحقق المعاني التي يريدها الإسلام، ثم يتابع العمل الإسلامي سيره وتلقى على عاتقه مسؤوليات جديدة، ويتسع معنى تحقيق العبودية ويعظم التكليف وتصبح غاية ذلك كله الله (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور) [الحج: 41]. إن المسلم إذا لم يف بهذه العبودية ويعطها حقها يصبح من شر الدواب كما بين القرآن (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون (22) ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون) [الأنفال: 22، 23]. وبتحقيق هذه العبودية يتولد عند المسلم:
1- الخشية من الله سبحانه وتعالى.
2- الالتزام الأخلاقي والأدبي قبل ما يعتقد ويرتبط.
3- الشعور بالمسؤولية الفردية ثم التضامنية.
4- الحب في تأدية الواجب مهما كانت النتائج.
5- تقدير الوقت والخوف من الفوت، لأنه محاسب عليه فلا يضيعه في جدل ومراء بل عمل وتضحية.
6- الإيجابية في تنفيذ المطلوب بالمبادأة والمسارعة في تنفيذ المطلوب وتحقيق المنشود.
7- زرع الطمأنينة في النفس والرجاء في القلب والثقة في الرب.
8- تمنحه الجرأة والإقدام والشجاعة في نفسه، فيستبين معوقات طريقه فيواجه الشدائد، ويغلب على الصعاب، ويقارع الباطل، وينشر الحق ويفتديه، ويستيقن النصر وينتظره أو يحظى بالشهادة.
9- أن يستعين بسلاح الصدق والإخلاص وسلاح التميز والالتزام، وسلاح الأخوة والثقة في الله.
10- حرص على تحقيق عقد الإيمان، وعقد الأخوة مستعيناً بالثقة في الله ثم الثقة في إخوانه.
ولن يتحقق ذلك كله إلا بإخلاص العمل، وإسلام الوجه لله رب العالمين، فتتحقق الرابطة القوية التي جعلها المولى سبحانه وتعالى من الإيمان كما جعل فقدانها كفراً من الكفران (إنما المؤمنون أخوة) [الحجرات: 10] وقوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين) [آل عمران: 100]
قال العلماء: تقصد الآية الكريمة يردوكم بعد وحدتكم متفرقين، ولن يصبحوا متفرقين إلا إذا اختلفت القلوب وتفرقت وتعددت الغايات، ففي هذا الشأن نزلت، ولهذا الشان عرضت،
وقد ألمح إلى هذا المعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل أصحابه رضوان الله عليهم، ألمح إلى السبب الذي نزلت من أجله الآيات الكريمة فقال صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم وجوه بعض"
لهذه المعاني أعلى القرآن الكريم وأرشد إلى قيمة الوحدة والأخوة في الدين، ولهذا كان ورد الرابطة يذكرنا بوحدة الوجهة والغاية، وأنت تدعو لإخوانك اللهم إنك تعلم أن هذه القلوب قد اجتمعت على محبتك، والتقت على طاعتك، وتوحدت على دعوتك، وتعاهدت على نصرة شريعتك، فوثق اللهم رابطتها وأدم ودها سبلها، واملأها بنورك الذي لا يخبو، واشرح صدورها بفيض الإيمان بك وجميل التوكل عليك، وأحيها بمعرفتك وأمتها على الشهادة في سبيلك، إنك نعم المولى ونعم النصير،
فالاجتماع هنا ليس اجتماع أجساد بل اجتماع قلوب على محبة الله وطاعته، ولن يكون ذلك كذلك إلا إذا كان الله غايتنا والرسول قدوتنا، والقرآن دستورنا والجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا.
إن التأكيد على أن الغاية الله من ثوابت دعوتنا، يقتضي حراستها، وإدراك أن كل مناقض لهذه الغاية مرفوض يقتضي اليقظة في مواجهة كل ناقض، والحفاظ على شعار الله غايتنا تعبيراً عن هدفنا الأسمى، يقتضي وضع الأهداف الأخرى في مكانها الصحيح في سلم العمل، ويعني ذلك أننا لا نملك أن نتخلى عن سلم الأهداف الذي يوصل إلى الغاية العليا،
كما أننا لا نستطيع التنازل عن درجة من درجاته، فإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة –مثلاً- هي درجة من درجات سلم الأهداف لا نصل للغاية بدونها، ومن ثم لا يجوز التنازل عن التمسك بها، ولا يعني عدم قدرتنا على إقامة الخلافة الآن لسيطرة أعدائنا وهيمنة نظامهم العالمي على مقدراتنا، وتفوقهم علينا أن نحذفها من مراتب العمل، أو أن نطلب السلامة من بطش عدونا بإلغائها من أهدافنا، ففي هذا تعمية على الأجيال القادمة، وصرف لها عن واجب من واجباتها، وخفض لسلم أهدافها، يقف بها دون مرتبة قد تستحقها، أو يحرمها من تحقيق غاية فيها السعادة الأبدية (رضا الله عز وجل) فالله الغاية.
الانحراف عن الغاية:
الانحراف عن الغاية هو أخطر الانحرافات وأشدها معوقاً للتربية ولذلك لابد أن يعرف كل مربٍ أن الغاية على طريق الدعوة هو الله سبحانه، والبعد عن هذه الغاية أو الانحراف عنها، يعني أن يقصد غير الله، ومعلوم أن الانحراف عن هذه الغاية، ولو كان بسيطاً، يعرض المنهج التربوي لخلل خطير.
فالرياء والغرور والكبر والتعالي، وحب الزعامة، وحب الظهور، والتطلع للصدارة، إلى غير ذلك من الاهتمامات الدنيوية الهابطة، هي من أمراض القلوب التي تنحرف بصاحبها عن الغاية، فتفسد الأعمال وتحبطها لفساد النية والإخلاص.
وليس بالضرورة أن يكون الانحراف عن الغاية يعني التوجه إلى الأغراض الدنيوية، ولكن مجرد وجود أي قدر من الانحراف، سواء كان في التصور أو العمل، يعوق منهج التربية الصحيح.
فالذين يجعلون غايتهم دقة الهياكل التنظيمية، والاستراتيجيات التخطيطية، أو يجعلون غايتهم الحضارة المادية، والعلوم التكنولوجية –هذا كله أمر مطلوب مرغوب، ولكنها ليست الغاية، إنما هي وسائل ونتائج وبقدر الأخذ بالأسباب، وإخلاص النيات يؤجر المسلم على عمله ونيته فقد يحظى بمنازل الشهداء وهو في بيته (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون) [التوبة: 92] .
بمثل هذه الروح انتصر المسلمون وبمثل هذه الروح عزت كلمتهم، فننظر أين نحن من هؤلاء (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله) [التوبة: 112]
فأين أرواحنا من تلك العصبة التي كانت غايتها الله، فالله غايتنا فيما نقول وفيما نفعل، وهي مأجورة حققت الثمرة المرجوة فقطفتها، أو وضعت البذرة وجناها غيرها ممن يواصلون الطريق، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول في الحديث الذي رواه عبد الله بن جابر بن عبد الله الأنصاري –رضي الله عنهما- قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فقال: إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم المرض- وفي رواية- إلا شركوكم في الأجر".
ولقد تكلم صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر العظيم يطمئن نفوس الصحابة على إخوانهم المتخلفين لعذر، ينسج المودة في القلوب، ويربط ما بين النفوس، فالكل في ميدان نصرة الإسلام جسد واحد، فهؤلاء الماضون إلى تبوك غزاة مجاهدين لهم أجرهم في تحمل الطريق، وفراق الأهل والوطن، والمضي لبيع الأنفس رخيصة في سبيل الله.
أولئك الذين أقعدهم عذر المرض أجساداً، وحركهم صدق الإيمان قلوباً، تتحرك للجهاد وتتوثب للقاء الأعداء، جعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم شركاء في الأجر والمثوبة بصدق نياتهم، وضمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جيش المجاهدين بأرواحهم وقال: "إلا وهم معنا" فإن الله ينظر إلى القلوب التي تقفز بحبها، وتطير نحو الخير أنّى كانت، وتتحرك في مواطن الصدق في كل مجال، والمعول دائماً على ما في القلوب .. لأن غاية هؤلاء وهؤلاء "الله".
إذا انحرفت الغاية، وأصبحت حضارة تقام، وخطة لابد لها من نجاح وأصبح التقييم بنتائج الأعمال بصرف النظر عن الأحوال والأخلاق، وأصبح النظر إلى الأجر من الله بنتائج الأعمال، فذلك بعد عن الغاية، أما حين تكون الغاية الله فإن الله يقول: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره (7) ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) [الزلزلة: 7، 8] فالأجر على الذرة لأن الغاية الله.
لذلك حين نقدر قيمة الرجال بأعمالهم، بصرف النظر عن قربهم أو بعدهم عن الغاية، فإننا لن نقدر الرجال قدرهم، ونبخس الناس أعمالهم ونطفف الكيل، فتصاب المسيرة بالمعوقات التي تعوقها بمثل هذه المفاهيم، فإذا صوبنا الغاية (بنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) [البقرة: 286] اعترفنا لغيرنا بخطئه، فأعناه على تصويبه بتوفيق الله ورددنا جميعاً بعد أن يوفقنا ربنا (ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين) [آل عمران: 53] .
فقد ينجح المسلم في تنفيذ خطة، ويسقط في امتحان شدة، أو هوى في نفسه، ومن أمراض القلب مرض الغرور الذي يحبط الأعمال، وإن كانت دقيقة، ويفسد الخطط ولو كانت محيطة، وذلك حين يظن المسلم أنه متميز على غيره بخبرة وذكاء وحسن تقدير للأمور، ومعرفة بفنون السياسة، وأساليبها والاستراتيجيات وتخطيطها، وكيفية المناورة مع الأعداء وأساليبها.
ويتعالى على إخوانه، ويبخسهم أشياءهم ولو كانوا أهل سبق في الدعوة، فيقسمهم إلى قسمين، قسم صاحب رأي وعقل راجح، وهؤلاء في المقدمة، وقسم بادي الرأي أراذل، لا دخل لهم بتخطيط وليس لهم في الشورى نصيب، ورضوان الله على الصحابي المجاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال لصاحبه: "والله لا أعرف بعد الألف عدّاً .. " وهو في نفس الوقت أخ للذي قال "إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله" وأخ لكل عابد محنك، وكل مخطط دقيق.
إن أمثال هؤلاء لو تحقق خير للدعوة على أيديهم يرجعونه إلى مقدرتهم وعبقريتهم، وينسون فضل الله وعونه وتوفيقه (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحدٍ أبداً ولكن الله يزكي من يشاء) [النور: 21]
إن منطق هؤلاء منطق من قال حين نظر إلى الحضارة الغربية: (يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظٍ عظيم) [القصص: 79] ثم قارن بينه وبين إخوانه فشعر بسعة أفقه، وحسن تقدير فقال: (إنما أوتيته على علم عندي) [القصص: 78].
إن هؤلاء في حاجة إلى مراجعة الإخلاص في قلوبهم، وتحديد الغاية من وجودهم، وصدق الشهيد سيد قطب حين قال: "المرة بعد المرة يصاب بعض أفراد الجماعة بنزوات، وفي كل مرة يسقط أصحاب هذه النزوات كما تسقط الورقة الجافة من الشجرة الضخمة، وقد يمسك العدو بفرع من الشجرة ويظن أنه بجذب هذا الفرع سيقتلع معه الشجرة كلها، حتى إذا آن الأوان، وجذب الفرع خرج في يده كالحطبة الجافة لا ماء ولا حياة وبقيت الشجرة".
فلو كانت الغاية الله لاستوى السلوك، ولصح العمل، ولتحقق بإذن الله بهذه القلوب التي اطلع عليها مولاها فأنزل السكينة عليها، وأثابها فتحاً قريباً، فخرت ساجدة لله، مستغفرة من ذنبها حين النصر (إذا جاء نصر الله والفتح (1) ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً (2) فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا) [النصر: 1-3] فإذا تحقق النصر فالغاية الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
والله اكبر ولله الحمد
وسوم: العدد 681