منطق المؤمنين
قراءة في فكر الإمام البنا
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
هذه حلقة أخرى من المقالات التربوية التي خطّها الإمام الشهيد رحمه الله، وحققها الأستاذ عصام تلّيمة وعلّق عليها، وجمعها في كتاب "نظرات في التربية والسلوك".
منطق المؤمنين
أول ما ينبغي أن يكون حاضراً في منطق المؤمنين، الاستسلام لقضاء الله وقدره، بل الرضا بذلك والاطمئنانُ إليه، فإن أمر المؤمن كلَّه إلى خير، لا سيما وهو يصارع الكفر والظلم والفجور. نعم هكذا يعلمنا الله تعالى أن نخاطب أهل الضلال: (قل هل تربّصون بنا إلا إحدى الحسنيين؟ ونحن نتربّص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا. فتربّصوا إنا معكم متربّصون).
ونبدأ بحقيقة الإيمان. إنها أن نبحث عن الحق، وأن نتمسك به، ونؤمن به، ونثبت عليه، ونجاهد في سبيله: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله. أولئك هم الصادقون). اللهم اجعلنا من المؤمنين المطمئنين بإيمانهم، المجاهدين في سبيل الحق، الصادقين في ذلك.
فإذا صدق المؤمن في إيمانه، فالعزة مكفولة له. إنها حق من حقوق الإيمان، ولازمة من لوازمه، ووصفٌ لا ينفكُّ عن المؤمنين: (ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين، ولكنّ المنافقين لا يعلمون).
ومع العزّة نصر الله ومؤازرته متى صحّ الإيمان وسلِم اليقين: (وكان حقاً علينا نصرُ المؤمنين).
وهذا لا يعفي المؤمن من التضحية بالجهد والمال والنفس، ولا يتنافى مع نزول المصائب في المؤمن، في بدنه وفي أهله وأحبائه، وفي ماله... لكنّ ذلك كلّه مضمون الأجر عند خالقه سبحانه: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) {التوبة: 120،121}.
وكل شيء في عقيدة المؤمن يجري بقضاء وقدر وفقَ نظام مرسوم، وتقدير معلوم، وقضاء محتوم، فالأجل محدود، والرزق محدود، لا ينقصهما الإقدام، ولا يزيدهما الإحجام: (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ؟ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ. يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا. قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ. وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) {آل عمران: 154}.
هذه المقدمات الصحيحة السليمة أنتجت أمام المؤمنين نتيجة سليمة صحيحة. كذلك فإن السبيل الوحيدة لاستخلاص الحقوق وصيانة العزة هي الكفاح والجهاد والعاقبة خير على كل حال شهادة أو سعادة.
والأخذ بهذه النتيجة عند أسلافنا وصل بهم إلى الخيرين فعلاً، فظفروا في الدنيا بالسعادة، وكُتب لهم في الآخرة ثواب الشهادة: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ، وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) {آل عمران: 146-148}.
وغَفَلْنا نحن عن هذا المنطق السليم، والنهج القويم، والصراط المستقيم، وحاولنا أن نستخلص حقوقنا بالأساليب السياسية والوسائل الدبلوماسية، والتلطف مع خصومنا وأعدائنا، واستجداء غاصبينا والمعتدين على حقوقنا، والحرصِ على مجاملتهم، واجتلاب مودتهم ومرضاتهم، وهم لن يريدوا بنا إلا السوء، ولن يضمروا لنا إلا الشر: (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) {آل عمران: 118}.
بل بلغ من استهتارنا بأنفسنا، واستهانتنا بحقوقنا وقدرتنا، وهضمنا لكفايتنا وموهبتنا، وغفلتنا عن نعمة الله علينا، بميزاتنا وخصائصنا التي صرنا بها خير أمة أخرجت للناس، أن أصبحنا نستلهمهم الرأي، ونستهديهم الطريق، ونأخذ بمشورتهم في أخص أمورنا، والله تبارك وتعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ، بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) {آل عمران: 149،150}.
ولقد بلونا نتائج هذه السبيل فلم نجنِ إلا الصابَ والعلقم، ولم يبق أمامنا إلا أن نعود من جديد إلى منطق المؤمنين، فنوقن بحقنا كما يوقنون، ونجاهد في سبيله كما يجاهدون، ونترقب نصر الله وتأييده كما يترقبون، والعاقبة للمتقين.. (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ، إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) {آل عمران: 173-175}.
والله أكبر ولله الحمد.
وسوم: العدد 697