تدبرات قرآنية
ومن يتدبر قوله جل وعلا :" اني لأجد ريح يوسف"
يلاحظ تجسد الرائحة في التعبير القرآني البديع فلم يقل ( أشم) إنما جعل الرائحة جسدا يشمه بأنفه ويراه بقلبه ويتحسسه بيديه حين عبر عنها بالفعل (أجد) وذلك يوحي بالاتصال الوجداني ويقينه بلقاء ابنه الحبيب علي بساط الشوق واستعمل (ريح ) وهي توحي بالارتياح وهي كلمة ذات مقطع صغير جدا متناسقة مع الكلمات الأخري في هذا الجزء من الآية علي لسان سيدنا يعقوب فهم أربع كلمات ذات مقاطع صغيرة سريعة الإيقاع هادئة الانبعاث الشعوري يقينيَة الإدراك اختزنتْ كمّ هائل من مشاعر الشوق واللهفة والحب بين الأب وابنه .
من يتدبر قوله- جل وعلا- :{ وأصبح فؤاد أم موسي فارغا ان كادت لتبدي به لولا أن ربطنا علي قلبها لتكون من المؤمنين }
يبصر صراع القلب والعقل في خيال أم موسي وهي تلقي ابنها في اليم وهو وليد في المهد لم تقر عينها بحمله الا عدة ساعات وهي تسلمه الي كفي الماء ولا تعلم ما مصيره وهل ستلتقيه مرة اخري ام انها لحظة الفراق الابدية وهنا علا مرجل الخوف والفزع في قلب ام موسي فشقت صدرها وفتحت ابواب ضلوعها وحملت قلبها علي كفيها كما حملت ابنها موسي في فزع تكاد تسلمه للريح كما اسلمته للماء نورسا يشق الرياح ليبصره عن علوٍّ لولا ان ايدها الله بجند من الملائكة ربطوا علي قلبها فأعملت عقلها وتولدت الفكرة في عقلها الذكي ان طلبت من اخته ان تقصه عن جنب حتي استقر الصندوق الذي حمله عند بيت فرعون واهله الذين حاروا في امر الصبي الذي ابي ان يتلقي غير لبن أمه وهنا وجدت ام موسي ريح ابنها كما وجد يعقوب ريح يوسف وردت اخته علي وجهها قميص البشير كما رده اخوة يوسف علي وجه ابيهم وان اختلفوا في مصائرهم فقد كانوا اصحاب المكيدة وكانت اخت موسي قلبه الحاني وبشير أمه المؤمنة فقالت هل ادلكم علي اهل بيت يكفلونه لكم ونكّرت اهل بيت بذكاء المرأة المؤمنة حتي لا يشكوا في أمرها وأمر الصبي وأمر المرضعة التي ستحضرها وهي أمه التي أرضعته قبل ان تلقيه في الماء فرفض الصبي ان يستقبل الا حنان أمه ودفء قلبها الذي ظل يهدهده الماء كما ظل يهدهد الصندوق الذي حمل الفتي واستقر بكليهما علي الضفة الاخري من النهر .
{ فرددناه الي امه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم ان وعد الله حق }.
من يتدبرْ قولَهُ -جلّ وعلاَ- :"أولم يكفهم أنا انزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم"
يلاحظْ تموّج الإيقاعاتِ الشعورية في الآية الكريمة وما تلقيه في نفس القارئ العربي الذي يتقن لغة العرب بين الزجر والقوة والعزة والذل بدءا بسرعة الإيقاع في قوله تعالي :" أولم يكفِهِمْ" فجاءت علي وزن (فعِلُنْ فاعِلُنْ) ثم اتبعها بإيقاعات بطيئة هادئة في قوله جل وعلَا :" أناَّ أنزلناَ عليهم الكتابَ يُتْلَي عليْ هِمْ " فجاءت علي وزن ( فعْلُنْ فا / مستفعلن/فاعلاتُ/مستفِعِلُنْ) ثم ختمت الآية الكريمة بزحاف وهو فا وهنا نلاحظ انفصال الوزن بين حرف الجر (علي) ليتصل ب(يتلي) فتصير وزن ( يتلي عليهم ) مستفعلن فا وهي وزن (هم) في نهاية الاية الكريمة لتوحي بعلوّ القرآن عليهم (يتلي عليْهِم) فإنه يعلو ولا يعلي عليه فتسريع الإيقاع جاء في الأحاديث التي تناولت ذكر هؤلاء المعرضين عن ذكر الله فأغفل الله قلوبهم عن ذكره لأنه ثقيل الأثر جليل القدر لا تتحمله غير نفوس المؤمنين الذين :"اذا تتلي آيات الرحمن خروا سُجّدا وبكيّا " ويتدفق نور اليقين في قلوب المؤمنين شافيا مُطمْئنًا بطيئاً يوزعُ ضوءَهُ ككفَيْ طفلٍ في نهرِ من أنهار الجنة ثم يشربُ حثيثا بطيئا من هذا النهر المصفي كالعسل الفردوسيّ ثم يتساقطُ قطيرات الماء من علي جانبيْ كفيْهِ لينتظر اولئك القابعين في النفق المظلم الدائري الذي يؤدي الي اللاشئ ان تصل الي افواههم التي اعرضت عن ذكر الله فرط غفلتها نقطة عسل من كف ذلك الطفل السائر علي صباح مستقيم يؤدي الي الفردوس وليس هناك بين الصراطين غير ثقب في سقف هذا النفق المظلم الدائري الذي يؤدي أوله إلي آخرهُ
"انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءَكُمْ فالتمسوا نورا"
فالله يجلدهم بسياطٍ سريعٍ مؤلمِ الوقعِ مجيد الردعِ عميقَ الصدعِ " فضربَ بينهم بسورٍ لها بابٌ باطنهُ فيه الرحمة وظاهرُهُ من قبلهِ العذابُ ".
وسوم: العدد 707