العطاء الإبداعي لعلم أصول الفقه في علوم اللسانيات

محمد أمير ناشر النعم

سألني صديق عن منشور سابق لي تحدثت فيه عن العطاء الإبداعي لعلم أصول الفقه في علوم اللسانيات والنحو والبلاغة والمنطق والفلسفة، فقال: ما علاقة أصول الفقه بالفلسفة؟ أليس في هذا مبالغة؟

وواقع الأمر أن كلامي ليس فيه مبالغة على الإطلاق، وسأضرب مثالاً واحداً يبيّن كيف يقود البحث الأصولي للبحث الفلسفي، ويساهم في الدرس الفلسفي نفسه.

في علم أصول الفقه يتم دراسة موضوع الأخباروكونها ظنية الثبوت (آحاد)، أو قطعية الثبوت (متواترة)، ويدرس الأصوليون: متى يغدو (الحديث) أو (الخبر) متواتراً؟ وكم هو عدد الرواة الذين يفترض بهم أن ينقلوا الخبر بحيث يتسحيل تواطؤهم على الكذب مما يورثنا الاعتقاد الجازم بصحة ما نقلوه؟ وفي كتب الأصول يذكرون أقوالاً كثيرة في تحديد هذا الرقم وفي مسوغاته، وهنا بالضبط تتبدى لنا مشكلة فلسفية من أهم مسائل الفلسفة، وقد تم دراستها في علم أصول الفقه، ومناقشتها في رحابه على الرغم من كونها تنتمي لمجال آخر، ونسق مختلف.

والسؤال الفلسفي هنا هو التالي:

يروي شخص ما (خبراً) ما، وينقله إلينا فنقبله ونصدّقه، ونقول: إن هذا الخبر صحيح، لأننا نعرف راويه وهو ثقة وضابط، ولكن لأنه يرويه بمفرده فإننا نقول: هو حديث آحاد، لا يفيد سوى الظن، لاحتمال تعرض راويه للعوارض البشرية من سهو ونسيان إلخ... ثم يأتينا شخص آخر بنفس الخبر فنتلقاه منه أيضاً، ونقول إن هذا الخبر ما زال ظنياً، ثم يأتي شخص ثالث كذلك ويورد نفس الخبر فنقبله منه، ونقول بأن هذا الخبر ما زال ظنياً، ولكن فجأة مع تواتر ورود هذا الخبر من عدة أشخاص تتحول القناعة لدينا من كون هذا الخبر ظنياً إلى كونه قطعياً!!

كيف يتم هذا الانتقال من الظني للقطعي؟ وما مسوغاته؟

قبل قليل كنا نقول: هذا الخبر ظني... وفجأة انتقلنا به إلى مرتبة القطعي!!

ما هي العتبة التي يتم الانتقال عندها من القطعي للظني؟

هذه الأسئلة جميعاً هي نفسها أسئلة (مشكلة الاستقراء) التي يبحثها الفلاسفة، تلك المشكلة المتلخصة في محاولة فهم مسوغات الانتقال من حكم جزئي إلى حكم كلي، وفي تحديد العتبة التي يتم فيها هذا الانتقال فجأة. فنحن نقول: هذه القطعة من الحديد تتمد بالحرارة، ثم نقول: وهذه القطعة منه تتمدد أيضاً بالحرارة... وتلك كذلك تتمدد بالحرارة، ثم في لحظة معينة ينبثق لدينا حكم كلي نقول فيه: كل حديد يتمدد بالحرارة!!! كيف تم هذا الانتقال في الحكم من كونه حكماً جزئياً إلى حكم كلي؟ وما هي العتبة التي يتم الانتقال عندها ؟ هذه الأسئلة هنا عند الفيلسوف هي نفسها هناك عند الأصولي.

وحقيقة كان العلامة محمد باقر الصدر يدرس طلابه علم أصول الفقه فلما وصل معهم إلى مباحث الظني والقطعي والآحاد والمتواتر في الأخبار تدرجت المناقشات به وبطلابه حول هذه المشكلة الفلسفية، وكانت النتيجة أنه من خلال خضم هذه المناقشات ظهر كتابه (الأسس المنطقية للاستقراء)، هذا الكتاب الذي عرفني على براتراند رسل، وأنا في السنة الجامعية الأولى، وكان مفتاحاً لي لتتبع كتبه والاستمتاع بها أيضاً.

وسوم: العدد 712