هل الوصيَّة سنَّةٌ مؤكَّدةٌ أم مُستحبَّةٌ؟
السؤال :
هل الوصيَّة سنَّةٌ مؤكَّدةٌ أم مُستحبَّةٌ؟
الاجابة :
الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد:
فقد ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى أنَّ الوصيَّةَ بجزءٍ من المال ليست بواجبة على المسلم, لأنَّ أكثر الصحابة رضوان الله عليهم لم يُنقل عنهم وصيَّةٌ, ولم يُنقل لذلك نكيرٌ, ولو كانت واجبةً لنُقِلَ عنهم نقلاً ظاهراً.
ولأنَّ الوصيَّةَ عطيَّةٌ, والعطيَّةُ لا تجب في حال الحياة, فكيف تجب بعد الوفاة؟
ولكن قال جمهور الفقهاء بأنَّ الوصيَّة مُستحبَّة, وتكون بجزءٍ من المال بحيث لا تتجاوز ثلث التَّركة, لمن ترك خيراً, قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ}. فنُسِخَ الوجوب, وبَقِيَ الاستحباب في حقِّ من لا يرث, لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: (لا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ). رواه الترمذي عن أبي أمامة رضي الله عنه.
ويقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في الحديث القدسي: (يَا بْنَ آدَمَ, اثْنَتَانِ لَمْ تَكُنْ لَكَ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا, جَعَلْتُ لَكَ نَصِيبًا مِنْ مَالِكَ حِينَ أَخَذْتُ بِكَظَمِكَ لأُطَهِّرَكَ بِهِ وَأُزَكِّيَكَ, وَصَلاةُ عِبَادِي عَلَيْكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ أَجَلِكَ) رواه ابن ماجه والطبراني والدارقطني. ومعنى قوله: بِكَظَمِكَ: أي عند خروج نَفَسِهِ وانقطاعِهِ, فَالكَظَمُ: هو مخرج النَّفَسِ من الحلقِ.
ويقول النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ) رواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
وبناء على ذلك:
فالوصيَّةُ بعد الموت ليست سُنَّةً مؤكَّدةً, بل هي مُستحبَّةٌ عند جمهور الفقهاء, ويُستحبُّ أن لا يستوعب الموصي الثُّلُثَ من ماله بالوصيَّة, وإن كان غنيَّاً, لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: (الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ) رواه الإمام البخاري عن سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
بل صرَّحَ الفقهاء بأنَّه تُستحبُّ الوصيَّةُ إذا كان الورثةُ أغنياءَ, أمَّا إذا كان المال قليلاً, والورثةُ محتاجون فالمُستحبُّ أن لا يوصي, لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّكَ إِنْ تَرَكْتَ وَلَدَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَتْرُكَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ) رواه الإمام البخاري عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
ولقول سيدنا عليٍّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ لرجلٍ أراد أن يوصي: (إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ طَائِلاً, إِنَّما تَرَكْتَ شَيْئَاً يَسيرَاً، فَدَعْهُ لِوَرَثَتِكَ). فالوصية الشرعية قد تكون واجبة, وقد تكون مندوبة مستحبة, أما الوصية الواجبة فهي أن يكتب الإنسان ما عليه من حقوق العباد من حقوق الله عز وجل, من زكاة ونذر وكفارة يمين وحج وما شاكل ذلك, ومن ديون للعباد ومهر الزوجة حتى لا يضيِّع لأحد من الخلق حقه, لأن حقوق العباد مبنيَّة على المشاحَّة.
والأفضل كذلك أن يكتب ما له من حقوق على العباد, خاصة إذا كان سيترك ورثة فقراء, فهم أحقُّ بماله من الأباعد.
أما بالنسبة للوصيَّة المستحبَّة المندوبة هي أن يجعل شيئاً من ماله في سبيل الله عز وجل, وذلك بأن تُعطَى للفقراء, أو أن تُجعَل وقفاً في سبيل الله تعالى, وأن لا تكون الوصية لوارث, ويستحبُّ أن تكون لأولاد ابنه المتوفى إن وجد, وأن لا تزيد الوصية عن ثلث تركته.
والأفضل أن تكون الوصية مكتوبة بخطِّ الموصي, وأن يحدِّد الموصى له, ويستحب أن يبدأ بالبسملة والثناء على الله تعالى, ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم, ثم الشهادتين, ثم الإشهاد على الوصية من أجل صحتها ونفاذها, ومنعاً من جحودها وإنكارها, يقول صلى الله عليه وسلم: (مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ) رواه البخاري ومسلم. هذا, والله تعالى أعلم.
وسوم: العدد 719