مكانة الوالدين في دين الإسلام وتخصيص الأم بامتياز
لقد خص الله عز وجل في كتابه الكريم الوالدين بتشريف عظيم حيث قرن عبادته بالإحسان إليهما حين قضى أن يعبد وحده لا شريك له ، وقضى بالإحسان إلى الوالدين في قوله عز من قائل : (( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا )) وقد ناب المصدر " إحسانا " عن فعل الأمر " أحسنوا" ،وذلك من صيغ الأمر في اللسان العربي المبين وقيل هو مفعول مطلق تقديره أحسنوا إحسانا . ولقد جاء قضاء الله عز وجل في شكل نهي عن عبادة غيره وأمر بالإحسان إلى الوالدين . ويفهم من قضائه جل وعلا أن عدم الانتهاء عن عبادة غيره معصية وذنب في منزلة معصية وذنب عدم الائتمار بالإحسان إلى الوالدين . ولا يلتزم الإنسان بما قضى الله عز وجل إلا انتهاء عن عبادة غيره وائتمارا بالإحسان إلى الوالدين .ولقد بين الله عز وجل في محكم التنزيل كيفية الإحسان إلى الوالدين بأسلوب جمع بين تفاصيل الإحسان وهو قوله تعالى : (( إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا )) فقوله تعالى : ((إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما )) دليل على وجوب رعاية الأبناء آباءهم وأمهاتهم عند كبرهما كوجوب رعاية الأبناء في صغرهما ، فهذه بتلك كما يقال . وبلوغ الوالدين الكبر عند الولد يدخل تحت أمره سبحانه وتعالى : (( وبالوالدين إحسانا )) لأنه من الإحسان أن يبلغ الوالدان الكبر عند ولدهما لأنهما إن بلغا ذلك و هما وحدهما كانا في أمس الحاجة إلى إحسانه المعنوي وإن أغناهما الله عنه ماديا، أما إن افتقرا ماديا كان الإحسان إليهما ماديا ومعنويا أوجب وآكد. وقوله تعالى : (( فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما )) فيه تفصيل لواجب الإحسان إليهما ذلك أن لفظة " أف " وهي اسم فعل مضارع يعني أتضجر ، يعتبر امتناع ورودها في مخاطبة الوالدين تقييدا وتحديدا لطبيعة الإحسان إليهما . وعلى الإنسان أن يتصور علاقة بين طرفين لا ترد في التخاطب بينهما لفظة " أف " إنها علاقة مثالية أو لا مثال لها ، وذلك منتهى الإحسان . ويفهم من منع التأفف، وهو ما لا يتضمن ذما ولا شتما ولا تقبيحا ولا تجريحا ...النهي عما هو أشد أذى . ولقد بدأ الله عز وجل بمنع الإذاية بالقول تشديدا في منع الإذاية بالفعل وهو ما دل عليه قوله تعالى : (( ولا تنهرهما )) والنهر كل أنواع الزجر سواء كانت أقوالا أم أفعالا . وإذا كان التأفف ممنوعا فالنهر أشد منعا ، وذلك ترجمة إجرائية عملية لأمر الله عز وجل بالإحسان إلى الوالدين . وما منع الله عز وجل التأفف والنهر في حق الوالدين عند كبرهما إلا لأنهما في حالة الكبر يصدر عنهما من الأقوال والأفعال ما قد تضيق به صدور الأبناء، لهذا التمس الله عز وجل لهما عذرا بسبب كبرهما وضعفهما ، وألزم الأبناء بتحمل ما قد يصدر عنهما ،وذلك بالامتناع عن مجرد التأفف . وإذا حصل منهما ما يتأفف منه وجب أن يكون النصح لهما بالقول اللين الحسن الوقع في نفسيهما وهو ما يوضحه قوله تعالى : (( وقل لهما قولا كريما )) والكريم من كل شيء الرفيع من نوعه ، لهذا يكون القول الكريم هو رفيع القول رقة ولينا . ولقد أمر الله عز وجل بالقول الكريم للوالدين في كل الأحوال دون استثناء ، وجاء تفصيلا للنهي عن التأفف والنهر في حقهما وهما في حالة كبر وعجز وضعف ، وهي حالة قد يصدر فيها عنهما ما يتأفف منه كما أشرنا إلى ذلك . ويجب أن يكون القول الكريم لهما صدقا لا مداراة . وتأتي بعد ذلك ترجمة القول الكريم إلى فعل في قوله تعالى : (( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة )) وهو أمر بالتواضع لهما إلى درجة التذلل لأنهما في حالة الكبر يحتاجان إلى معاملة خاصة وإلى دلال كما يكون شأن الصغار. ولقد ساق الله عز وجل استعارة جميلة لتصوير المطلوب من التذلل للوالدين ، وشبه المتذلل بالطائر حين يضع جناحيه خوفا من طير كاسر أكبر وأشد منه ، وهي حالة يكون فيها الطائر في منتهى الذلة . ويقتضي التذلل للوالدين إظهار الخضوع لهما خضوعا تاما في كل ما يريدان ما لم يكن معصية أو كفرا . وقد يجد الإنسان مشقة في التوفيق بين التذلل للوالدين وهما على طرفي نقيض في مطالبهما إذا بلغا عنده الكبر وهما منفصلان عن بعضهما أو غير متفاهمين فيما بينهما ، ويتعين عليه حينئذ أن يأخذ بفتوى الإمام مالك رحمه الله حين استفتاه أحدهم في طاعة والديه في أمر اختلفا فيه فقال له : " عليك بطاعة والده ولا تعص أمر أمك " وللعلماء في هذه الفتوى أقوال . ومما يفهم منها أن يحاول الولد التوفيق بين إرضاء والديه ، وما هو بالأمر الهين . وكل ذلك يدخل ضمن الأمر بالإحسان إلى الوالدين قولا وفعلا . ومن الإحسان إليهما أيضا أمر الله عز وجل بالدعاء لهما في قوله عز من قائل : (( وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا )) ويفيد قوله تعالى : (( قل )) ادع لهما بالرحمة في حياتهما وبعد مماتهما ، وهو دعاء مستمر يكون كل وقت وحين خصوصا عندما يكون العبد أقرب إلى ربه وهو ساجد أو في الأحوال التي يستجاب فيها الدعاء . ولقد ذكر الله عز وجل علة الدعاء بالرحمة للوالدين وهو تربية الأبناء ، والتربية كما يقول أهل العلم تكملة للوجود وهما يقتضيان الشكر بعد شكر الخالق على الوجود والتربية وعلى توفير سببهما وهما الوالدان . ولما كان الوجود والتربية مما لا عدل لهما لأداء شكرهما، فقد جعل الله تعالى شكرهما دعاء بالرحمة لمن كانا سببين فيهما . وذكر الصغر في قوله تعالى جاء مقابلا لذكر الكبر، وفي كليهما ضعف يستوجب الرفق والرحمة بين الوالدين والأولاد . ومن استفاد من الرفق والرحمة وهو صغير وجب عليه أن يرد الجميل بالجميل ويكون الصنيع من جنسه وإن كان صنيع الأبناء لا يمكن أن يرقى إلى صنيع الآباء ، ذلك أن الأبناء قد يحسنون إلى آبائهم عند كبرهم ، ولكنهم لن يكون حالهم كحال آبائهم حين كانوا يحسنون إليهم وهم صغار ، وشتان بين أبوين يحسنان إلى صغيرهما وهم يتمنون له الحياة ، وبين ولد يحسن إليهما في كبرهما ومرضهما وهو لا يتمنى ما كانا يتمنيانه له في صغره ،بل ربما حملته الشفقة عليهما أن يدعو الله عز وجل أن يلطف بهما ليغادرا الحياة بسبب معاناتهما .وأريد أن أختم ببعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها تؤكد أمر الله عز وجل بالإحسان إلى الوالدين . ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : " رضا الرب في رضا الوالد وسخط الرب في سخط الوالد " في رواية لعبد الله بن عمر رضي الله عنه . ومن ذلك قوله عليه السلام في رواية لأبي هريرة رضي الله عنه : " لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه ويعتقه " ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في رواية لأبي هريرة أيضا : " رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي ، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له ، ورغم أنف رجل أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة " . ومن ذلك قوله عليه السلام في رواية لابن عمر رضي الله عنهما : " أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أذنبت ذنبا كبيرا ، فهل لي من توبة ؟ فقال له النبي : ألك والدان ، قال : لا ، قال: فلك خالة ؟ قال: نعم ، قال له : فبرها إذن" وما يستشف من هذه الأحاديث أن بر الوالدين يرضي الله عز وجل وأن عقوقهما يسخطه ، وأنهما سبب من أسباب دخول الجنة . وهناك أحاديث أخرى تؤكد واجب الإحسان إلى الوالدين ، وذلك دليل على مكانتهما في دين الإسلام . ولقد خص الله عز وجل الأم بامتياز كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله معاوية بن حيدة عن أحق الناس بصحبته فقال له : أمك ثلاثا ثم قال بعد ذلك أبوك ثم الأقرب فالأقرب أو الأدنى فالأدنى . ولا بد أن يظهر الإنسان ما يحقق هذا التفضيل للأم دون أن يمس ذلك بمشاعر الأب أو الأقارب ، وللإنسان أكثر من طريقة لتحقيق ذلك . وليس من ذلك الميل إلى كفة الأم إذا كان لها خلاف مع الأب بل على الإنسان النأي بنفسه عن ذلك دون أن يخل بواجب الإحسان إلى الأبوين معا كما أمر الله عز وجل . وفي الأخير أقول هذا كلام يعرفه كل الناس ولكن هل يطبقه كل الناس ؟
وسوم: العدد 719