دور أصوات القراء الندية في إقبال المصلين على المساجد بمدينة زيري بن عطية
تتميز مدينة وجدة عن غيرها من مدن المغرب بكثرة مساجدها التي صار بناتها يتنافسون في البلوغ برونقها مستويات عالية . ومن المعلوم أن كثرة مساجد هذه المدينة يعزى إلى الطابع المحافظ الغالب على ساكنتها وإلى تدينها وتشبثها بهويتها الإسلامية والاعتزاز بها . وتقبل هذه الساكنة على المساهمة في بناء بيوت الله إقبالا كبيرا . ولا تكاد المساجد تخلو يوم الجمعة من حضور جمعيات ساهرة على بناء المساجد تغتم فرصة اجتماع المصلين لجمع تبرعات لفائدة بناء مساجد في أحياء تكون في أمس الحاجة إليها . وفضلا عن انخراط ساكنة هذه المدينة في بناء المساجد تشتهر فيها نخبة من المحسنين بالإقبال على هذا العمل الخيري . وتوجد مساجد بنتها محسنات من أموالهن الخاصة ، الشيء الذي يذكر بما قامت به أم البنين فاطمة الفهرية مؤسسة جامع القرويين . ولا شك أن فعل الفهرية صار رغبة بعض النساء الوجديات اللواتي يحلمن بتشييد بيوت الله ابتغاء مرضاته . ومعلوم أن كثرة المساجد بهذه المدينة تحفز الساكنة على عمارتها خصوصا في شهر رمضان المعظم . وإلى جانب رونق مساجد مدينة زيري بن عطية تزدان بالأصوات الندية للقراء خصوصا وأن هذه المدينة صارت محجة حفظة كتاب الله عز وجل وطلاب العلم الشرعي ،وذلك لكثرة مدراس تحفيظ القرآن والتي يجاور بعضها المساجد في المدينة وهوامشها وأحوازها . ومع كثرة حفاظ كتاب الله عز وجل بما في ذلك الحافظات وقد كثر عددهن وهو في اطراد متزايد حيث صار شغل ربات البيوت هو تعاطي حفظ كتاب الله ، انتشرت ظاهرة القراء المجيدين والذين يبلون البلاء الحسن في شهر رمضان خلال صلاة القيام أو التراويح . وتتنوع القراءات في مساجد المدينة بين تجويد وترتيل وبين قراءة مشرقية وأخرى مغربية وكلها قراءات ندية غاية في الجودة . وتلعب أصوات القراء الندية دورا كبيرا في استقطاب المصلين حيث ينتقل هؤلاء من أحيائهم إلى أحياء أخرى التماسا لقارىء مجيد يتحفهم بقراءته . وعلى قدر جودة القراء يظفرون بأكبر عدد من الرواد المعجبين بقراءتهم . ومعلوم أن تجويد الصوت بقراءة القرآن أمر مطلوب في ديننا ، وهو يساهم في تدبر كتاب الله وفي الخشوع . وقد ورد في الأثر ما يؤكد سنة تجويد القراءة ، ومن ذلك الحديث الذي رواه أبوهريرة رضي الله عنه والذي يقول فيه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما أذن الله بشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى يجهر به "، ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي موسى الأشعري : " لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داوود " ، وفي رواية : " لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة " بمعنى لسرك ذلك كثيرا . ومعلوم أن نبي الله داوود عليه السلام كان يتغنى حين يقرأ فيبكي ويبكي كما قال عبيد بن عمير. ولقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : " من لم يتغن بالقرآن فليس منا " والمقصود بالتغني هو تحسين الصوت . ومعلوم أن الصوت الحسن بالقرآن يحدث الخشوع ، وقد تذرف العيون لذلك وهو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث الذي رواه ابن مسعود رضي الله عنه حيث قال : " قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : اقرأ علي القرآن ، فقلت : يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل ، قال : إني أحب أن أسمعه من غيري ، فقرأت عليه سورة النساء ، حتى جئت إلى هذه الآية : (( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ))، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان ". فهذا الحديث يؤكد سنة سماع القرآن ممن يكون صوته جميل ، وسنة الخشوع والبكاء أثناء الاستماع ، وقد أكد القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى : (( إذا تتلى عليهم آيات الرحمان خروا سجدا وبكيا )) وقوله أيضا : (( ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا)). وقد قال الإمام النووي : " البكاء عند قراءة القرآن صفة العارفين وشعار الصالحين ". ومن الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : " إن هذا القرآن نزل بحزن ، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا،وتغنوا به ، فمن لم يتغن به فليس منا " . ومعلوم أن كلام الله عز وجل يتحدث عن عظمة الخالق سبحانه وعن رحمته ونعمه التي لا تحصى ، وعن أهوال القيامة، وعن الجنة والجحيم ، وكل ذلك يدعو للبكاء إما خوفا أو طمعا أو شكرا . ومن لم يبكه كلام الله عز وجل فلا ذرفت عينه أبدا . ولا يخفى ما لأصوات القراء الشجية من دور في ترقيق القلوب، الشيء الذي يجعل العيون تذرف خصوصا عند قراءة القراء آيات تتعلق بالرحمة أو بالعذاب أو تتعلق بعظمة الخالق جل في علاه أو تتعلق بنعمه . وقد ينكر بعضهم ممن لا علم لهم بسنة تحسين الصوت بقراءة القرآن ، والبكاء والتباكي عند سماعه على بعض القراء بذل أقصى جهودهم في تحسين أصواتهم وبكائهم أثناء القراءة ، ومحاكاة المصلين لهم في البكاء والتباكي، وربما يكون ذلك راجعا لقسوة قلوبهم ، وغياب خشوعهم ، ومع ذلك لا يمسكون ألسنتهم عن انتقاد ما لا علم لهم به . ولو علموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى لسماع القرآن ، وأن نبي الله داوود صاحب الصوت الجميل كان بكّاء إذا قرأ الزبور لخجلوا من جهلهم . وقد ينكر بعض هؤلاء إقبال الناس على المساجد في رمضان بسبب قراء القرآن من ذوي الأصوات الندية ، ويطلقون فيهم ألسنتهم بالسوء وينعتونهم بعباد رمضان وقد ينعتونهم بالنفاق أيضا تجنيا عليهم ، علما بأن الإقبال على المساجد في هذا الشهر الفضيل أمر طبيعي لأنه شهر عبادة خاصة ، وشهر اجتهاد فيها ، ومن المفروض أن يتميز عن غيره بهذا الإقبال غير المألوف خصوصا وأن الناس يتحركون من أحيائهم ويلتمسون القراء أصحاب الأصوات الندية في غير مساجدهم ،ولا عيب في ذلك بل يعتبر ذلك إحياء لسنة التماس القراءة الحسنة لكتاب الله عز وجل إلا أن هؤلاء المنتقدين يتجاهلون أثر التماس هذه السنة لدى المقبلين عليها في رمضان . ولا شك أن الذين يستعرضون كتاب الله عز وجل كاملا طيلة شهر رمضان وهو يتلى بأصوات ندية شجية دون أن يحصل لهم خشوع أو تذرف لهم عيون تقوم الحجة على قسوة قلوبهم، وعليهم أن يتعوذوا بالله من قلوب لا تخشع وعيون لا تدمع ، وإذا لم يفعلوا فعليهم أن يمسكوا ألسنتهم عن انتقاد الخاشعين قراء وسامعين لأن ربهم أعلم بما في نفوسهم . ورب بكّائين إنما تبكيهم ذنوبهم ومعاصيهم وهم يعرضون أنفسهم على كتاب الله عز وجل ، فمن انتقدهم ساخرا منهم أو مشككا في خشوعهم وبكائهم قد يبوء بإثمهم ويغفر الرحمان الرحيم لهم .
ومن الظواهر السلبية المشهودة في شهر الصيام أيضا فضلا عن انتقاد البعض كثرة رواد المساجد واعتبارهم عبّاد رمضان ، وانتقاد القراء واعتبارهم مغالين في تجويد قراءتهم ، يتضايق البعض من وعظ رمضان ويستثقلونه علما بأنه لا يستغرق وقتا طويلا وهو وقت لا يزيد أن ثلث ساعة حيث يبدأ قبل أذان صلاة العشاء وينتهي بعده بلحظات ، مع العلم أيضا بأن ظاهرة الحضور المتأخر إلى المساجد صارت دأب وعادة الكثيرين ، وذلك حتى يوم الجمعة التي رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في التبكير لحضور ذكرها ، وجعل جوائز التبكير تتراوح من أجر من يقدم ناقة إلى أجر من يقدم بيضة وما بينهما من أجر من يقدم بقرة أو شاة أو دجاجة . واستثقال الوعظ خصوصا في رمضان عند البعض دليل على ضعف التدين . وقد ينشغل بعضهم بحمل المصحف وقراءة القرآن أثناء إلقاء الواعظ درسه أو بالصلاة مع أنه يكون على موعد مع القيام وذلك لإظهار التضايق من الوعظ ، وقد ينصرف بعضهم ساخطا ، وقد تبلغ الوقاحة ببعضهم حد نهر الواعظ والاحتجاج عليه . وقد يدعي البعض أنه يسمع من الوعظ ما يعرفه جاهلا بأن الوعظ تذكير ، وأن الغاية من التذكير التنبيه من الغفلة ، وقد يغفل الغافل عما يعرف وتلك آفته ومصيبته ، ولربما ضاق البعض من وعظ يكشف عن عيوبهم ،فيتذرعون بذرائع واهية للانصراف عنه تجنبا لما يحدثه فيهم من وخز الضمير ، وقد تسمع لبعض هؤلاء همهمات في همز وغمز الوعاظ ، وترى لهم حركات وإشارات، وابتسامات ساخرة منهم ، وكل ذلك يعبر عن كسل واضح في الاقبال على التدين ،علما بأنهم ينشرحون حين يخوضون في لغو الحديث الذي لا طائل من ورائه . ولقد أثرت هذه الظاهرة السلبية بشكل واضح في غياب الوعظ والإرشاد بالكثير من المساجد خلال شهر الصيام ، وهي سنة حميدة قد تختفي مستقبلا لا قدر الله ،ويكون سبب ذلك فئة من المتكاسلين الذين لا شغل لهم سوى النقد المجاني الذي لم تسلم منه حتى المساجد .
وفي الأخير نأمل أن تخلف أجواء رمضان من قيام وسماع للقرآن الكريم بأصوات القراء الندية ومواعظ الوعاظ الهادفة آثارا إيجابية في نفوس رواد المساجد لتستمر استقامتهم ما بعد رمضان وقد تزودوا لذلك بزاد غني من تقوى الله ، واستفرغوا خشوعا دموع عيون قد امتلأت من المحارم ولزموا حمية الندم . اللهم اجعلنا من عتقائك في رمضان . والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 725