العقائد الباردة : جدل السلفية والأشاعرة

في الوقت الذي كان فيه محمد الفاتح يحشو مدافعه بالبارود ليدك على البيزنطيين حصون القسطنطينية، كان علماؤها ومفكروها داخل المدينة منهمكين في نقاش حار عن جنس الملائكة هل هم ذكران أم إناث وعن حجم إبليس هل هو تسعه غرفة أم دار ؟ وهل يسوع المسيح في أصله بشر أم إله أم مزيج منهما؟! دكَّ الفاتحُ أسوار المدينة وأوطأ قوائم فرسه قلب المدينة وقتل الإمبراطور البيزنطي، لكن المعلومة المهمة التي لم ينقلها لنا المؤرخون: هل انتهى القوم إلى نتيجة وحُسم الخلاف في تلك المسائل "المصيرية" أم بقيت معلّقة ؟

تلك هي العقيدة الباردة التي لم تحمل المعتنقين لتلك العقائد أن يدفعوا عن مدينتهم أو يصونوا حريمهم من الأسر والسبي.

ترن في ذهني هذه القصة وأنا أتابع الجدل القائم حول مؤتمر الشيشان الذي ذهبت إليه علماء العالم الإسلامي ليكونوا فيه ضيوفًا على بوتين الذي يدك طيرانه حلبًا وجاراتها ليحرروا لنا مفهوم السنة و الجماعة.

وهل تركت لنا عمائم بشار والسيسي التي تصدرت المؤتمر جماعة؟ لقد كان ضيوف المؤتمر أقعد الناس عن نصرة شعوبهم حين خرجت تطلب التحرر من الطغيان و البطش والتفوا حول أرباب الاستبداد خاذلين للأمة.

في الطرف الآخر انتفض علماء الخليج من السلفية بعد تصدير بيان المؤتمر باستبعادهم من مفهوم السنة والجماعة منددين بصدع كلمة المسلمين وتفريق الشمل، والطريف أن أعلام السلفية في الخليج كانوا قد حسموا هذه المسألة منذ زمن فأخرجوا الأشاعرة والماتريدية من مسمى أهل السنة لتتفرد به السلفية.

هذه العقائد الباردة التي تعلمناها على طريقة الجدل البارد، حيثُ نشأت سلفيًا ثم درست عقيدة الأشاعرة لاحقًا فكنا نتناقش عن الصفات الفعلية لله عز وجل، ونقضي ساعاتٍ من الليل في جدل ومراء هل نزول الله عز وجل في حديث "ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له، حتى ينفجر الفجر" نزول حقيقي أم مجازي، فيرهقنا الكلام فننام ولا يقوم أحدُ منا ليصلي ركعات يدعو فيها الله ويستقبل عرضه المغري.

ما زال الأشاعرة والسلفية إلى اليوم يتناقشون في استواء الله عز وجل على العرش هل هو على الحقيقة أم المجاز، ولما اهتزت العروش الأرضية سارع كثير من الأشاعرة في تثبيتها و انفردت السلفية في الخليج بالدعاء بدوامها لأصحابها والتعوذ من الفتن ما ظهر منها وما بطن حقيقة كانت أو مجازًا في خيالاتهم.

لقد كانت هذه العقائد الباردة مرنة للغاية في أيد معتنقيها الجبناء، فمن هرب من التأويل في الصفات أغرق في تأويل خيانات المستبدين و جرائمهم بحق المسلمين، وعاد أصحاب التأويل في الشام ومصر يتمسكون بنصوص الطاعة آخذين بحرفيتها.

يحسُن عند هؤلاء العلماء الباردين أن يستمر مثل هذا الجدل فبه يحتفظون بمكانتهم ويستخدمون ما يحسنونه من الثرثرة، وحين تدق ساعة الحقيقة وتسطع شمس المبادئ، يعودون إلى كهوفهم ويتركون العامة لمصائرها.

ألا فليعلم أصحاب العمائم: ما لم تكن أشعريتكم كأشعرية العز بن عبدالسلام مع المستبدين، وأشعرية صلاح الدين مع الصليبيين، أو سلفية ابن تيمية في جهاده، وسلفية الذهبي في إنصافه. فاعلموا أن عقيدتكم الباردة تسرُ اليهودي الغاصب، والصليبي المستعمر.

وسوم: العدد 736