الدعوة ماضية في طريقها حتى النصر بإذن الله تعالى
المرشد العام السابع محمد مهدى عاكف – رحمه الله
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، وبعد..
فقد جاء الإسلام بأكمل تصور للوجود، وبأرقى وأشمل نظامٍ لتطوير الحياة وإسعاد الخلق، وعمل على هداية البشرية كلها إلى هذا الخير، وتبليغه إلى أسماعها وإلى قلوبها، ومضى النبي صلى الله عليه وسلم يعرض حقائقه على الناس، فقبلته العقول السليمة، وانجذبت إليه الفِطَر المستقيمة، فقامت قيامة الجاهلية وأجلبت بخيلها ورجلها، ولم تدَع نقيصةً إلا حاولت إلصاقها بالدعوة والداعية صلى الله عليه وسلم؛ في خصومة فاجرة، وحرب قذرة مناقضة للأخلاق النبيلة، ولكنَّ جلالَ الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وجمالَ المبادئ التي نادى بها، وحاجةَ البشرية إلى المنهاج والأخلاق التي قدمها ؛ دفعت العقلاء إلى الإيمان به، فاندفعت الجاهلية في نصرة باطلها إلى حرب وجودية ﴿وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ﴾ (ص: 6)، ولم تزَل حربُهم على الإسلام قائمةً حتى ﴿جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ (الإسراء: من الآية 81)، وجاء نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، ولم ينتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا وقد دانت الجزيرة العربية كلها بدين الحق، واستظلَّت بظلال التوحيد والعدل.
فلمَّا تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمعت على الإسلام محنٌ وخطوبٌ لم تجتمع من قبل، فقد ارتدَّت العرب، ونَجَمَ النفاق، وحزن المسلمون حزنًا شديدًا لفقد نبيِّهم صلى الله عليه وسلم وقلتهم وكثرة عدوِّهم، فتماسك المسلمون وعلى رأسهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وصبروا وقاموا بأعباء الدعوة إلى الله خيرَ قيام، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: “أينقصُ الدينُ وأنا حي؟!”، وأبى المسلمون أن يستسلموا لهذه الحوادث ويخذلوا الدعوة، فلم يحافظوا على وضع الإسلام فقط، بل فتحوا فارس والروم. وتبعهم على ذلك أجيال المسلمين من بعدهم، فحملوا الإسلامَ إلى كل مكان، وصحَّحوا المفاهيم، ونشروا في الدنيا الخير والنور، وأُوذوا أشدَّ الإيذاء، فتحمَّلوا ذلك كلَّه في سبيل الله، حتى كَتَبَ الله لهم النصر والتمكين.
الدعاة يدركون طبيعة الطريق
يُدرك الدعاة إلى الله- وفي القلب منهم الإخوان المسلمون – أن الطريق إلى هداية الناس وشيوع الخير ونشر الفضيلة في الدنيا؛ سيواجِه من الصعوبات والعوائق ما واجَه الأنبياء والصالحين من قبل، فالرسالة هي الرسالة، والضلالات والأهواء هي هي، والعقبات هي العقبات، والقوى الطاغية لا تزال تقوم دون الناس ودون الدعوة، وتفتنهم كذلك عن دينهم بالتضليل وبالقوة. والقرآن يُذكِّر المسلم الصادق بأن الفتنةَ والابتلاء قَدَرٌ لازم ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ (الأنعام: من الآية 53)، وله هدفٌ واضحٌ، وهو تمييزُ الخبيث من الطيب ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)﴾ (محمد)، ولا سكنَ في الجنة إلا لمن صبرَ على هذا الابتلاء ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)﴾ (آل عمران)، ومن ثَمَّ فلا مناصَ أمام حَمَلَةِ رسالة الخير ومشاعل النور من الحلمِ والصبرِ والاحتسابِ، فللباطل جولةٌ ثم يذهب هباءً، والحق له صولةٌ وهو أنفع، وله الثبات والبقاء، فإذا اشتدَّ الأذى وكثُر التهديد لجأ المؤمنون إلى حصن التوكل على الله والصبر على الأذى، وشعارهم : ﴿وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)﴾ (إبراهيم).
العقبات في طريق الدعوة :
كثُرت وتنوَّعت العقبات التي واجهت- ولا تزال تواجه- دعوة الحق والخير والهدى والنور، منذ أن بعث الله بها أنبياءَه ورسلَه حتى اليوم وإلى أن تقوم الساعة، ومنها :
النظم الطاغية في الأرض : التي تصدُّ الناس عن الاستماع إلى الهدى، وتسعى إلى فتنةِ المهتدين وردِّهم عن الحق ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾ (إبراهيم: من الآية 13)، ﴿قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾(الأعراف: من الآية 88)، وهؤلاء المستكبرون لا يألون جهدًا في الصدِّ عن الإسلام وتشويه الدعاة إليه وممالأة الظالمين الذين يكيدون له ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)﴾ (الأنفال).
ومما يؤسف له أن ترفع تلك الدول شعارات الحرية وحقوق الإنسان، وتثور ثائرتهم لما يَعُدُّونه انتهاكًا هنا أو هناك، ثم يدوسون هذه الحقوق ويصمتون صمت القبور إذا كان ضحيتها هم حملة المشروع الإسلامي، بل تتخذ تلك الدول من الإسلام وحَمَلَة دعوته عدوًّا دون أن تتعرَّف إليه وتدرك الخير الذي جاء به، ولو أمعنوا النظر وأنصفوا لرأوا في هذا الدين الكريم خلاصًا للعالم المعاصر من أزماته وحلاًّ لمشكلاته، ولسارعوا إلى قبوله والدخول فيه أفواجًا، ولكن التعصبَ يُعمِي ويُصِمُّ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الأنظمة المستبدة : التي لا ترى أبعدَ من قوائم الكرسي الذي تجلس عليه، ولا تفكِّر بغير العصا الأمنية التي تجتهد في تضخيمها وتقويتها، ولا تؤمن بغير البطش سبيلاً للبقاء فوق العروش المغتصبة وتكديس الثروات المنهوبة؛ فالمستبدُّ لا يرى إلا نفسه، ولا يبصر إلا مصلحته، ولا يُقَرِّب منه إلا من يتملَّقه ويترضَّاه، ولهذا فإنه في الوقت الذي يتصاغر ويتراجع فيه أمام أعداء الوطن؛ يستأسد على الصالحين المصلحين من بني جلدته، يقدمهم قرابينَ لقوى البغي والاستكبار العالمية، وثمنًا لتسلُّطه على الشعب المغلوب، ويملأ القلوبَ المؤمنةَ الأسى وهي ترى بني جلدتها ودينها يتولَّون أعداءهم ويعادون إخوانهم، ويستسلمون لمن يمكُر بهم، ويكرِّمون من ينافقهم رغبًا أو رهبًا، ويتغوَّلون على مَن ينصحهم ويسعى لخيرهم وخير أوطانهم.
ولو راجع هؤلاء أمرَهم، وتدبَّروا العواقبَ، ونظروا بعين الصدق والإنصاف؛ لرأوا أن مصلحتهم وقوتهم في نصرة دينهم، والوقوف في خندق شعوبهم، وأنه لا ملجأَ لهم بعد الله إلا شعوبهم التي ارتضت الإسلامَ دينًا والقرآنَ دستورًا ومنهاجًا؛ فهل يرجعون ويبصرون؟! وإن تعجب فعجبٌ سكوتُ النخب المثقَّفة ودعاة حرية الرأي والفكر والتعبير؛ عن تسلُّط المستبدِّين على الإصلاحيين من الإسلاميين عمومًا والإخوان المسلمين خصوصًا! وهم الذين يملؤون الدنيا صياحًا وبكاءً على الحرية المفقودة إذا صودرت روايةٌ فاجرةٌ، أو حُذفت لقطةٌ مقززةٌ، أو تصدَّى العلماء لتفنيد رأيٍ مشوه زائف، يصادم ثوابت الأمة وقيمها، ويطعن في دينها وحضارتها! وحسبنا الله ونعم الوكيل.
التاريخ يؤكد أن النصر للحق وأهله
الذي يستعرض حقائق التاريخ يمتلئ يقينًا بزوال الباطل وبقاء الحق ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾ (الرعد: من الآية 17).. يُدرك ذلك مَن يستعرض قصص الأمم المختلفة مع رسالات السماء، وما وضعوه من العقبات والفتن في طريق الدعوة إلى الإيمان وفي وجه الحق والهدى، ثم ما انتهى إليه الصراع بينهم وبين الحق من نصرة الحق وأخذ خصومه جميعًا ، ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)﴾ (العنكبوت). ويضرب الله تعالى لهذه القوى الباغية كلها مثلاً مصوَّرًا يجسِّم وهنَها وتفاهتَها فيقول: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)﴾ (العنكبوت).
وقد أدرك كثيرون ممن واجهوا الحق أنهم مغلوبون، وتذكُر لنا كتب السيرة أنه لَما جِيءَ بِحُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ إلَى النبي صلى الله عليه وسلم، ووقف بَيْنِ يَدَيْهِ، وَوَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهِ؛ قَالَ: “أَمَا وَاَللهِ مَا لُمْت نَفْسِي فِي مُعَادَاتِك، وَلَكِنْ مَنْ يُغَالِبْ اللّهَ يُغْلَبْ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النّاسُ، لا بَأْسَ قَدَرُ اللّهِ، وَمَلْحَمَةٌ كُتِبَتْ عَلَى بَنِي إسْرَائِيل”(زاد المعاد).
فهذا الرجل كان يعلم أنه يقف في الصف المغلوب، وأنه لا سبيلَ لمغالبة الحق، لكنَّ الحقدَ غير المبرَّر هو الذي قاده وقومه إلى الهلاك؛ فهل يعي قادة الغرب دروس التاريخ، ويتخلَّون عن حلم فرض ثقافتهم وسلطانهم على المسلمين، ويتركون سياسة التصادم والاستعمار التي ثبت فشلها، ويتخلَّون عن سياسة إقصاء الحركات الإسلامية أو محاولة تطويعها وتدجينها، بعد أن ثبت لهم استعصاؤها على التطويع أو التطبيع.. لئن وعى قادة الغرب دروس التاريخ فلجؤوا إلى الحوار والتعاون، بدلاً من الإقصاء والتصادم؛ ليكونَنَّ للعالم شأنٌ آخر من بسط الأمن والرخاء.
لماذا اليقين بانتصار دعوة الحق؟
يعجب البعض من استمساك المجاهدين في سبيل الله والداعين إلى الخير برسالتهم، رغم عنف الضربات الظالمة التي تُوجَّه إليهم، وقسوة الحرب المجرمة التي تُشَنُّ عليهم، ورمي العاملين في ميدان الدعوة بالسذاجة، ولكننا نؤمن إيمانًا لا شك فيه أن الخير سينتصر، وأن الحق ستعلو رايته، وتنتشر في الدنيا دعوته، ويقيننا نابع مما يلي:
1- أنها دعوة منسجمة مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها:
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ﴾ (الروم: من الآية 30)، وفي الحديث القدسي الجليل: “وإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ…” (مسلم). وقد جاءت عقيدة الإسلام وشريعته في القرآن بأسلوبٍ سهلٍ واضح، وهو على قدر ما فيه من بلاغةٍ معجزةٍ؛ فإنه مُيَسَّر للذكر يفهمه العالِم والعامِّيِّ، وإن اختلفت طريقة الإقناع ودرجة الاقتناع باختلاف طاقات الناس ومداركهم، لكن لا يملك العقل الحر والنظر السليم والفطرة الصافية إلا أن تذعن له وتؤمن به.
2- الإيمان العظيم الذي يملأ قلوب الدعاة:
إن العقيدة الصحيحة متى استقرت في القلب فإنها تُثمر تحرير النفس من قبول الخضوع للاستبداد، أو الإقامة على الضَّيْم. فالمؤمن يعلم أن الخلق جميعًا لا يملكون لأنفسهم شيئًا، بل ولا يملكون أن يدفعوا عنه شيئًا ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)﴾ (الحج). ويعلم أن العمر بيد الله، لا ينقص بالإقدام، ولا يزيد بالإحجام، وأنه لا ينجي من الموت فرارُ الفارِّين، ولا يقدِّمه على أوانه ثباتُ المؤمنين ﴿قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ المَوْتِ أَوِ القَتْلِ﴾ (الأحزاب: من الآية 16) ﴿إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ﴾ (نوح: من الآية 4).
ولذلك فإن الداعية الصادق يقابل الأهوال بشجاعة، ويثبت أمام الخطوب ببسالة؛ لأنه يعلم أن يد الله ممدودة إليه، وهو يقرأ قوله تعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ (البقرة: من الآية 257).
وهو قبل ذلك وبعده مرتبط باليوم الآخر، متعلِّق الهمة بتحصيل الثواب فيه؛ ولذلك ينطلق في دعوته على هدًى من ربه، محتسبًا ما يَلقَى من أذى في سبيل الله، موقنًا بقرب طلوع فجر العدل، ومجيء ساعة الحساب.. يقول للمتربصين:﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ (52)﴾ (التوبة)، ويقول للمخوِّفين: ﴿حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ﴾ (آل عمران: من الآية 173)، ويقول للمترددين :
مَن لم يمتْ بالسيفِ ماتَ بغيرِهِ تعددت الأسبابُ والموت واحد
ويتلو على المتأثرين بالشائعات والحروب النفسية التي يجتهد فيها أعداء الله ﴿وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ (65)﴾ (يونس)؛ فهل يُتصوَّر أن ينهزم مثل هذا الداعية صاحب العقيدة الصحيحة؟!.
3- الثقة التامة بوعد الله بالنصر والتمكين:
إن العقيدة الصحيحة تربِّي في نفوس دعاة الحق والخير الشعورَ بالأمل في الله، والثقةَ في نصره، ومهما توالت النكبات والكوارث على المجتمعات وتسلَّط المستبدُّون على الأمة؛ فإن الثقة في الله تطرد اليأس من قلوبهم، وتدفعهم إلى اقتحام المصاعب مهما اشتدَّت، ومقارعة الحوادث مهما عظمت، وكيف يصيب اليأسُ صاحبَ العقيدة وهو يقرأ: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ…﴾ (القصص)؟!
وكيف يصيبه الضعف أمام نازلةٍ من النوازل، وهو يقرأ ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ (آل عمران)؟!
وكيف يتراجع أمام أية قوةٍ وهو يقرأ قوله تعالى ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ (2)﴾ (الحشر)؟!
وكيف يتردد عن المضيِّ في الطريق أو يستطيل المسافة وهو يقرأ قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)﴾ (البقرة)؟! ولذلك فهو على تمام الثقة بتحقيق وعد الله ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾(النور: من الآية 55).
4- معرفتهم بحاجة الدنيا إلى الرسالة التي يحملونها:
إن الدعاة الصادقين يدركون أن قارورة الدواء التي تحتاجها البشرية لتتعافى من الداء الذي ألمَّ بها؛ هي في الرسالة التي كلَّفهم الله بحملها ونَدَبَهم إلى نشرها، فالأزمات العالمية المتلاحقة، والفوضى الأخلاقية الضاربة بأطنابها، والحروب الطاحنة بين الشعوب، والنظام العالمي الأعور المختلّ، والتفكك الأسري المفجع، والتفاوت الطبقي المذهل، والعنصرية المقيتة، والطائفية الفاشية في أنحاء العالم.. كل ذلك وغيره لا سبيل للتخلص منه إلا بمنهج الإسلام.
والسعادة المفقودة، والأمن العالمي والمحلي المنشود، والعدالة المأمولة، والمساواة بين الناس، وتكريم الإنسان وحفظ إنسانيته؛ لا يمكن أن تتم بشكلٍ سليمٍ ومتوازنٍ إلا في ظلال المنهج الإسلامي الكريم، ولهذا كان من واجب الدعاة الذين انتدبهم الله لهداية الناس وإخراج البشرية من الظلمات إلى النور؛ أن يستمروا في تقديم هذا الخير للبشرية، وإن غلبها الطيش وانحرف بها الغيُّ عن سلوك سبيل الرشاد.
وقد أكد القرآن الكريم هذا الواجب الثقيل الذي كرَّم الله به الأمة الإسلامية ورفع قدرها، فقال تعالى ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران: من الآية 110).. يقول الإمام المجدد حسن البنا رضي الله عنه تحت عنوان (عوامل النجاح) :
“ومن الحق- أيها الإخوان – أن نذكر أمام هذه العقبات جميعًا ؛ أننا ندعو بدعوة الله وهي أسمى الدعوات، وننادي بفكرة الإسلام وهي أقوي الفِكَر، ونقدم للناس شريعة القرآن وهي أعدل الشرائع ﴿صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً﴾ (البقرة: من الآية 138)، وأن العالم كله في حاجة إلى هذه الدعوة، وكل ما فيه يمهِّد لها ويهيِّئ سبيلها، وأننا بحمد الله براءٌ من المطامع الشخصية، بعيدون عن المنافع الذاتية، ولا نقصد إلا وجه الله وخير الناس، ولا نعمل إلا ابتغاء مرضاته، وإننا نترقَّب تأييد الله ونصره؛ فلا غالب له ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ﴾ (محمد: 11). فقوة دعوتنا، وحاجة الناس إليها، ونبالة مقصدنا، وتأييد الله إيانا؛ هي عوامل النجاح التي لا تثبت أمامها عقبة، ولا يقف في طريقها عائق ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾”(يوسف: من الآية 21).
أثر المحن والابتلاءات على الصف الإسلامي
يُخيَّل إلى كثيرٍ من خصوم الدعوة أن الضغط والقهر ومصادرة حريات الدعاة وأرزاقهم؛ ستصرفهم عن دعوتهم، وستصرف الناس عنهم، وهذا وهمٌ فاسدٌ، فإن الدعاة يقابلون هذه المحن باستعلاء إيماني عظيم، لا يبالون بغير نصرة دينهم، ورفع كلمة الله في الأرض، وينشد شاديهم في داخل السجون ومن وراء القضبان” أخي أنت حر وراء السدود ، أخي أنت حر بتلك القيود ، إذا كنت بالله مستعصمًا، فماذا يضيرك كيد العبيد؟!”
كلمة إلى الإخوان المسلمين
إن دعوتنا ماضية في طريقها المرسومة، وخطتها الموفقة، غير عابئة بالتحديات والعقبات، ولا متراجعة أمام العوائق والمثبطات، ولعل من المناسب أن أذكِّركم بكلام إمامنا الشهيد حسن البنا رحمه الله:
“… وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطان، وستقف في وجهكم كل الحكومات على السواء، وستحاول كل حكومة أن تحدَّ من نشاطكم، وأن تضع العراقيل في طريقكم، وسيتذرَّع الغاصبون بكل طريق لمناهضتكم وإطفاء نور دعوتكم، وسيستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة والأيدي الممتدة إليهم بالسؤال وإليكم بالإساءة والعدوان، وسيثير الجميع حول دعوتكم غبار الشبهات وظلم الاتهامات، وسيحاولون أن يُلصقوا بها كل نقيصة، وأن يُظهروها للناس في أبشع صورة، معتمدين على قوتهم وسلطانهم، ومعتدِين بأموالهم ونفوذهم: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾(التوبة: 32)، وستدخلون بذلك ولا شك في دور التجربة والامتحان، فتُسجنون وتُعتقلون، وتُنقلون وتشرَّدون، وتُصادَر مصالحُكم، وتُعطَّل أعمالُكم وتُفتَّش بيوتكم، وقد يطول بكم مدى هذا الامتحان.. ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾ (العنكبوت: 2)، ولكن الله وعدكم من بعد ذلك كله نصرة المجاهدين ومثوبة العاملين المحسنين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ……. فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾(الصف:10- 14)، فهل أنتم مصرُّون على أن تكونوا أنصار الله؟!”.
فلا تهنوا أيها الإخوان، ولا تتراجعوا، واصبروا على الحق الذي أنتم به مؤمنون، وثقوا بالنصر القريب، واسألوا الله تعالى أن يفتح بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الفاتحين، وثقوا بأن الدعوة بالغة غاياتها ومراميها ما دام الله معنا، فهو هادينا وناصرنا ﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا﴾ (الفرقان: من الآية 31).
ويقولون متى هو؟! قل عسى أن يكون قريبًا، والله أكبر ولله الحمد..
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم،
والحمد لله رب العالمين.