الفوضى..وَالاستقرار
فكر 16 - ح6
الفوضى والاستقرار عدوان لدودان لا يلتقيان ولا يتعايشان بحال من الأحول..الفوضى مستنقع ينمي ويغذي كل أنواع الفيروسات والجراثيم المدمرة للحياة..والاستقرار تربة خصبة ورحم حنون تتوالد به كل أسباب الحياة والتنمية والازدهار..الفوضى حالة مجتمعيَّة مضطربة تتيه بها الرؤى والأفكار..حيث تتفرقُ الكلمة ويتشتت الشمل وتُرتَهنُ إرادةُ الأمة وتتعطل..فتتخلف وتضعف وتصبح نهباً لكل طامع..أما لاستقرار فهو المناخ الحيوي الذي يُنعش الأفكار والتفاهم والتحاور بين ذوي الألباب..وتتكامل بأجوائه الرؤى والتوجهات..أجل حيثما تكون الفوضى يكون الاضطراب والهلاك والدمار..وحيثما يكون الاستقرار يكون النماء والابتكار والإبداع والارتقاء والازدهار..وبعد فإن التحدي الأكبر أمام الأمم في صناعة الاستقرار..هو القضاء على الفوضى بالقضاء على اضطراب المفاهيم في حياة المجتمعات..ومن أشد مسببات اضطراب المفاهيم..التداخل المخل بين مفاهيم الاعتقاد الديني..ومفاهيم مسؤوليات إقامة الحياة والعلاقة مع الآخر..ومن أخطرها فتكاً التناقض والتدابر بين فقه تدين الأفراد وفقه تدين الدولة..أو إن شئت فقل:الاختلاف والتضارب بين توجهات سياسة الأفراد وتوجهات سياسة الدولة..ولكن كيف ومن أين نبدأ..؟البداية تكون بالعمل على تنظيم الأفكار والمفاهيم والرؤى..وتحديد الغايات والوسائل وإنهاء حالة التداخل المخل بينها..والعمل على تنظيم مسارات الأداء وضبطها باتجاه إنجاز الأهداف المشتركة..وذلك عبر التدارس والتحاور لتجلية المصطلحات وتحرير دلالاتها وغاياتها..إلا أن كيف..؟سؤالٌ يبقى يُلاحقنا ويُلح علينا ويضيف قائلاً:ما الذي يُعطّل إرادتنا ويحول دون تحقيق هذه الأهداف النبيلة التي لا يختلف بشأنها عاقلان..؟المشكلة برأيي تكمن في آفة اتهام النوايا..مثلما تكمن في ظاهرة التفسير التآمري المطلق للأحداث والمواقف في مسيرة فعاليات الأمم..فهذا يتهمُ هذا..وذاك يُسفِّهُ ذاك..وآخر يُخطَّئ الكُلَّ..وهكذا يدور الكلُّ في دوامة خصومات تَرتهنُ إرادتهم وتعطلُ قدراتهم على تحقيق طموحاتهم..والنتيجة المرة أنَّ الخاسر الأكبر هو الوطن والأمة..وذات مرة ومن أجل الخروج من هذه الحالة النكدة..رفعت شعار:(تَعَالوا لِيُغْلَبَ كُلٌ مِنَّا لِلآخر منْ أجلِ أنْ يَنتصرَ الوطنُ)ولكن لماذا كل ُّهذا الخلل والاختلال..؟والجواب في قوله تعالى:"أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ"بلى يا رب..فالرشد بكل تأكيد موجود لأن ربَّ النَّاس سبحانه فطر النَّاس على حب الخير..إلا أن الخير والرشد بحاجة إلى من يُفعِّلَه ويُنشِّطَ مكنوناته في ذاكرة الأجيال ووجدانها..وأحسب أن ما تقوم به مؤسسة الفكر العربي من خلال مبادراتها السنويَّة المتتالية إنما هو أنموذجٌ عمليٌّ رائعٌ راشدٌ..آخذٌ بكل حكمة وموضوعية في إذكاء عوامل التعقل والرشد لبعث وإطلاق مسيرة حضاريَّة إنسانيَّة راشدةٍ للأجيال البشريَّة بلا استثناء..تَلْمَسُ ذلك وتُحِسُ بصدقِ حِياديَّتِه وجديَّةِ أدائه..وأنت ترى المفكرين والعلماء والمبدعين والخبراء..وأصحاب الكفاءات المتنوعة والمهارات والابتكارات من كل ملل الأرض..تجتمع تحت سَقفٍ واحدٍ ولهدفٍ واحدٍ ألا وهو:تشجيعُ وتحفيزُ بناء ثقافة التنمية والتطوير والابتكار والإبداع لدى الأجيال البشريَّة..وبناء ثقافة أنْسَنَةِ قيم العدل والإخاء والأمن والسلام بين النَّاس كل النَّاس..أجل الرشدُ موجودٌ والتحدي كلُّ التحدي أن تستجيب الأجيال وتلبي نداءات مؤسسة الفكر العربي لإذكاء وإحياء جذوتها في النفوس..وذلك من خلال تَحمُّل مسؤولياتهم في تعزيز وتفعيل رسالتها الحضاريَّة الإنسانيَّة الراشدة في ميادين الابتكار والإبداع..أجل يَومَ نَفعلُ ذلك..ويوم نُقبلُ بجدٍ لِتَحمُّلِ مسؤولياتنا تجاه ذلك..إذاك تَنْدَحِرُ الفوضى..وإذاك تَتَرسخُ دعائم الاستقرار ويَعمُ الأمنُ والنماءُ والرخاءُ في المجتمعات..والله المستعان سبحانه.
وسوم: العدد 770