أبالعواطف نسير، أم بالعقل نستشير؟!
أربعة عقودٍ مضت، وقد خط المشيب آثاره، وشق النضج أنهاره، وباتت علامات الاستفهام والتعجب تتطاير للنواظر بالأثر.
نعم، لنقف في هذه المقالة على موجبات التقليد، وما يتفرع منه بالأُمورٍ والمجازات الأخرى، فقد أعياها التكهن، واستشفها كل لبيبٍ بالمعرفة والقرب المُستثار، كما أودعه مثلنا الحساوي: "ولد بطنها يعرف رطنها".
يُجاور ذاك المرجع ربه بالرحمة والغفران، ويُعين آخر بعده باسم هذا من مُستلزمات الأعلمية دون أقرانه، ولكن ما يُحيلنا إلى هذه السؤال: كيف يتم تعين هذا المرجع وذاك، وجُل المراجع (حفظهم الله) يرون بأنفسهم الأهلية والأعلمية، وهذا ما تُوضحه الوريقات الأولى للرسائل العملية؛ فلكل مرجع قوله بأن لا يجوز الرجوع إلا للأعلم!
ما جعلني اتوقف عند هذه النقطة بعض أقوال رجال الدين (سلمهم الله)، حيث يقول بعضهم: "ذاك المرجع أولى من الآخر بالتقليد؛ ولكن المصلحة تقتضي ذلك"!
ولا نعلم إلى الآن ما هي تلك المصلحة التي اقتضت وتقتضي على حساب الدين؟!
ومن يقف خلف ذلك؟!
أبالعقل نسير أم بالعواطف نستشير؟!
هذا بخلاف ذاك المرجع الذي يُرجح نظيره بالأعلمية، وحين تستقر به الأمور، ويستتب له الشعور، إلا ونجد من رجح الآخر يُسقطه في مجتمعه، وبين القاصي والداني بالتضليل، والانحراف، والزندقة، وعلى أهواء شتى منها: التصديق بالأختام، والوريقات الصفراء، والكتب المُعنونة بأسماءٍ واهيةٍ ومُستعارة، والأفواه الموكلة لمصلحة ذاتية بقبض الأخماس، والوكالة المطلقة، ونشر المراد على ألسنة العباد بالإعصار والأمصار، على سياق لهجتنا الحساوية: (نقل لي أحد الثُقاة، وسمعت بأُذني، وبيني وبينك، ولا تقول أني قلت لك، ولا أحد يدري، ولا تنقل عني، هذا بخلاف ادعاء البعض بأبلغ سلامي إليهم نيابة عنه دام ظله الوارف، وغيرها من الأساليب، والطرُقات الملتوية)!
والسؤال المُبرهن هُنا: أيهما الأعلم والأجدر من الآخر، هل المُستشار بالتحكيم أم المُنتخب للمرجعية؛ وما كيفية تركيب هذا السؤال بطرح مرجعية هذا على ذاك؟!
فالعقل يقول: من وضع في موضع التحكيم والمشورة هو المُبتغى؛ وإلا فعلام يتم الإقصاء ساعتها أو بعدها بتلك الأساليب المكذوبة والمُتعجرفة؟!
على كل حالٍ، الأغرب والأعجب في ذلك الأمر، حينما يتوقف البعض بالسؤال سواءً أكانوا من فئة الشباب أو من هم على ذات الخط، ومجرى طلب العلم الحوزوي، والبعض منهم تشمله المكارم بالصدق، والحُجة، والمنطق، والوعي، والتدقيق، والتحري، والثقافة، والخطابة، والأدب، والاجتهاد، والسماحة، والرجاحة، والفكر، والفضيلة، وصلاة الجماعة.. يُخرجونه من الدين، ويتهمونه بالعلمانية، والليبرالية، والحداثة، ونقص العقيدة، والا دين له، ومن أتباع هذا وذاك، واللعن، والشتم، والغيبة، والاستبشار السنوي بالفرح لذكرى وفاته بالمحافل الخاصة، وسحب الوكالة الشرعية منه، وإصدار الكتب المصدقة بقول ذاك العالم والآخر؛ بنية دعم الهدف المنشود، والمُبتغى المنضود؛ وقد تصل وربما وصلت إلى توغُلاتٍ شتى أشد نكاية وتأزماً!
من هُنا لا بد لنا أن نقف على الغيبة، وكيف بالغيبة إذا ما تجذرت فينا بالبهتان والحقد.. وكفانا قول الله تعالى في كتابه الكريم ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ).
وأيُّ تقوى وتُقىً ترتكز على غيبة البعض منا ومنهم على مُسمى ما يجري هذا "حسد العلماء"، حتى أودع البعض منهم في آذاننا وآذانهم بقوله المُدور، وريقه المُسور: (أجل لو تسمعون ما يقوله العلماء كان ما قلدتوا أحد)!!
بالله علينا وعليكم، أيُّ عقلٍ يستشف المستور، ويُمسك المعصور، ويستوجب المعمور.. أللمصالح نسير، أم للمطامح مطامير وقطامير؟!!
أم بين هذا وذاك أراضٍ مُستعمرة، وحفنات مُبلورة، وأفواه مُسيرة، وأيادٍ مُستصغرة، فماذا تقولون أيها البررة، وكيف تحكمون؟!
ومن الأمور التي تستوجب الومضات والقهقهة في وقفةٍ واحدةٍ، حينما تجمع البعض على الموائد، وأبكتهم المراقد، والكل منهم يُطعم الآخر بيده (منگولة) فوق وليمة الوجاهة. أبهكذا يصنعون، وعلى الأقوال يتسابقون، وفي الأفعال يتقاتلون، فماذا تصنعون؛ أبالعقول تهزأون؟!
أجل، شدني وأضحكني رغم ألم الرحيل قول ذاك الإمام في صلاة الجنازة: "الصلاة الصلاة"، "وكفى بالموت واعظاً"، "اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، تابع اللهم بيننا وبينهم بالخيرات، والأعمال الصالحات إنك على كل شيء قدير".
حقيقة، أتوحدُنا المقابر، وتُرهقنا الفلاتر والمآمر؛ ومن جهةٍ أُخرى ذاك الذي يأمر أتباعه بعدم الإتمام خلف الثاني نظير (الوهم) و (الأفيون) الذي رسمه وأقنع غيره بالاتباع المُزركش، والباطل المُعشعش، فواعجبي للذي بكى وتباكى بإمامته لنا بصلاته على ذاك الميت، وبين ما يفعله ذاته إذا ما ترجل بالأقاويل الملونة، والأحلام المزينة هُنا وهناك!!
ختاماً قال الله تعالى: (وَقُلْ اِعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّه عَمَلكُمْ وَرَسُوله وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِم الْغَيْب وَالشَّهَادَة فَيُنَبِّئكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)..
فأين قول النبي الأكرم، والرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم فينا: "الدين المعاملة"، "وما بعُثت إلا لأتمم مكارم الأخلاق"، وسيرة أهل بيته، وصحابته (عليهم السلام) بالمواعظ الحسنة، والقصص المُستحسنة بالأمل والتأمل، والاتباع الملزم.
وسوم: العدد 774