الخاطرة ٢١٨ : ابن رشد الفيلسوف المظلوم الجزء ١٩
خواطر من الكون المجاور
في المقالة الماضية ذكرنا أن الحكمة الإلهية اختارت علي عليه السلام ليكون بمثابة الشخصية الثانية بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين ، وأنه رغم ذلك نجد أن الخلافة بعد وفاة الرسول لم تذهب مباشرة إلى علي ولكن ذهبت اولاً إلى أبو بكر ومن ثم إلى عمر ومن ثم إلى عثمان رضي الله عنهم ، وقلنا أن ما حصل في موضوع الخلافة لم يكن بسوء نية من أي خليفة من الخلفاء الراشدين الثلاثة ولكن جرت الأمور بحكمة إلهية قدر لها الله تعالى ، فطبيعة التكوين النفسي للمسلمين في تلك الفترة كانت تختلف من مسلم إلى آخر ، فكان منهم الصحابة المؤمنين الذين دخلوا الإسلام بعقلهم وروحهم فوهبوا أنفسهم كلياً لله ورسوله ومنهم الصحابة المسلمين الذين دخلوا الإسلام بعقلهم لأنهم رأوا أن الاسلام قد أصبح القوة المسيطرة في المنطقة وأنه سيحدث نوع من التجديد لصالح المنطقة ، ومنهم المسلمين المنافقين الذين دخلوا الاسلام كنوع من الخدعة ليستغلوا قوته المسيطرة ليحققوا مصالحهم الشخصية .
إن وجود هذه الأنماط الثلاثة في نوعية الإيمان عند المسلمين ، أدى بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى إنقسام الاسلام إلى نوعين من الاسلام : اسلام ديني ، واسلام سياسي ، الاسلام الديني كان أتباعه المسلمين المؤمنين ، فهؤلاء رغم أنهم إنقسموا إلى مذهبين : سنة وشيعة ، حيث مذهب السنة يؤكد على أن الخلافة سارت على قانون الشورى كما أراد الله ورسوله . بينما مذهب الشيعة يؤكد أن علي عليه السلام كان هو الشخصية الثانية بعد رسول الله ووجب أن تذهب الخلافة له بدون أي شورى . وكما ذكرنا من الأدلة في المقالة الماضية بأن كلا الطرفان كان على حق وأن ما حصل بينهما لم يكن بسبب التناقض في الآراء ولكن بسبب إختلاف زاوية النظر في الطرفين . لهذا كانت العلاقة بين الطرفين علاقة مؤمن بمؤمن . حيث كان كل طرف يحترم إجتهادات الطرف الآخر ولم يكن يسمح لنفسه أن يشك بصحة إيمان الطرف الآخر ، فكلا الطرفان ترك أمر الإختلاف في الإجتهادات إلى رب العالمين . هؤلاء المؤمنين من الشيعة والسنة هم من صنعوا الحضارة الاسلامية التي يفتخر بها جميع المسلمين .
أما الاسلام السياسي فكان أتباعه هم المسلمين المنافقين ، فهؤلاء استغلوا نقطة الخلاف بين الشيعة والسنة وحولوها إلى تناقض ، فانقسم أتباع الاسلام السياسي إلى فئتين : النواصب والرافضة . فئة النواصب هم المسلمون الذين يبغضون علي عليه السلام وأهل بيته لذلك حاولوا دس أحاديث وأخبار كاذبة في مذهب السنة ليقللوا من شأن علي عليه السلام وأهل بيته ليمنعوهم من التأثير على المسلمين . أما الرافضة فهم أولئك المسلمون الذين استغلوا حب علي عليه السلام وآل بيته وجريمة مقتل الحسين رضي الله عنه عند الشيعة لذلك حاولوا دس أحاديث وأخبار كاذبة لينموا الحقد والعداوة في أتباع مذهب الشيعة على أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم .
منذ دخول الأمة الاسلامية في عصر الانحطاط قبل ٨٠٠ عام وحتى اليوم ، فإن الشيوخ الذين يسيطرون على عقول عامة المسلمين هم من النواصب والرافضة ، فنجد أن كتب علماء السنة الصحيحة أصبحت محرمة في كليات الشريعة الإسلامية عند الشيعة ، وكتب علماء الشيعة الصحيحة أصبحت محرمة في كليات الشريعة الإسلامية عند السنة ، لهذا يوجد عداوة وبغضاء بين أتباع السنة وأتباع الشيعة حتى اليوم . فاليوم وللأسف فإن معظم معلومات مسلمي العامة في السنة عن الإسلام هي في الحقيقة من النواصب وليس من أتباع مذهب السنة الحقيقي ، وأيضا معظم معلومات مسلمي العامة في الشيعة هم من الرافضة وليس من مذهب الشيعة الحقيقي . لذلك نجد في القرن الماضي أنه رغم المحاولات العديدة التي قام بها العلماء الصالحين من كلا الطرفين في التقارب والتعاون بينهما ، للأسف جميعها فشلت بفضل سيطرة علماء النواصب والرافضة على المساجد والمراكز الدينية في كلا الطرفين .
لنعود ثانية إلى موضوع الفتنة التي حركها النواصب والرافضة لنكشف شخصية زعيم تلك الفئة من المسلمين المنافقين الذين استغلوا دخولهم في الاسلام لتحقيق مصالحهم الشخصية فقط .
في السنوات الأخيرة من خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه بدأت تزداد الفتنة حتى وصلت إلى مرحلة سببت في مقتله . هنا لن نتابع منطق أولئك العلماء الذين يبحثون في تفاصيل الأحداث بالتسلسل ليصلوا إلى المسبب الأول للفتنة والتي وصلت إلى ذروتها في معركة الجمل ومعركة صفين . حيث نجد بعضهم يتهم الخليفة عثمان رضي الله عنه بأنه في آخر حياته ولى بعض أقربائه ليساعدوه في الحكم وأن بعضهم خانوه ، المشكلة في هذا المنطق في البحث هي أن الأحداث مذكورة بعدة روايات وأن جميعها تتناقض بعضها البعض لهذا لا يمكننا أن نثق بأي مصدر لهذه الروايات . فإذا طبقنا هذا المنطق سيجعلنا نتابع تسلسل الأسباب فنصل إلى إتهام عمر رضي الله عنه ثم سنصل بالأمور إلى إتهام أيضا أبو بكر رضي الله عنه ، ولكن هذا المنطق نفسه يفرض علينا متابعة الأمور إلى ما قبل أبو بكر رضي الله ، وفي النهاية فإننا سنصل إلى النتيجة التي تقول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم (حاشا الله) هو المسبب الأول للفتنة لأنه من البداية لم يأمر بقتل جميع المسلمين المنافقين . هنا يجب شرح هذه النقطة لأنها مهمة جدا لتساعدنا في فهم منطق الأنبياء في التفكير والحكم على الآخرين .
الله عز وجل يقول في سورة النحل ( ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) . الحكمة الإلهية في هذه الإية أن الله عز وجل فرض على أنبيائه أن يعطوا فرصة لكل إنسان ، مهما كان نوع هذا الإنسان ليساعدوه في التقرب إلى الله وتعاليمه ، فالله وحده هو (أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) . في الأنجيل مثلا نجد أن عيسى عليه الصلاة والسلام أعطى فرصة ليهوذا الاسخريوطي وجعله أحد تلاميذه لكي يصحح إيمانه ، ولكن في الأخير نجد أن يهوذا خانه وخيانته هذه كانت نتيجتها ٣٠٠ سنة إضطهاد فظيع من الروم للمسيحيين . هل هذا يعني أن عيسى عليه الصلاة والسلام هو سبب عذاب وشقاء المسيحيين لمدة ٣٠٠ عام لأنه جعل يهوذا أحد تلامذته ؟ الذي سيفسر الأمور بهذا المنطق هو عالم يصلح ليبحث في أمور فيزيائية وليس في أمور دينية أو في العلوم الروحية ، لأن الأمور الروحية أعقد بملايين المرات من الأمور الفيزيائية ، فعلاقة السبب بنتيجته قد نراها في البحث الفيزيائي بعد دقيقة من التجربة أو بعد ساعة أو يوم أو سنة ، ولكن علاقة السبب بنتيجته في الأمور الروحية قد نراها بعد ١٠٠ عام أو ألف عام أو بعد مدة طويلة جدا لا يعلم بها إلا الله .
رسول الله صلى الله عليه وسلم حاول مساعدة المنافقين المسلمين لا لكي يكتسبوا قوة يستخدمونها ضد المسلمين والإنسانية ولكن لينتصروا على روح السوء في داخلهم ويطهروا أنفسهم منها ، هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك أمر هؤلاء المنافقين لله عز وجل ، فمنهم من أفلح ومنهم من ظل على نفاقه . من سينظر إلى ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المنافقين من زواية لها مصلحة شخصية ، سيعتقد أن رسول الله قد أخطأ ، أما من ينظر إلى مصلحة الأنسانية بأكملها حاضرا ومستقبلا فإنه سيتأكد أن رسول الله كان معصوما عن الخطأ .
الخلفاء الراشدين أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم حاولوا أن يتبعوا نفس منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن أخطأوا في بعض الأمور أثناء خلافتهم فهم بشر وليسوا أنبياء وأخطاءهم مغفور لها لأنها لم تكن بسوء نية بل كانت بحسن نية لمصلحة الاسلام والمسلمين ، لذلك فإن البحث في تفاصيل الفتنة لما حدث قبل مبايعة علي عليه السلام للخلافة فإن هذا النوع من البحث يُعتبر هو الفتنة بعينها . من يريد أن يبحث عن أصحاب الفتنة يجب عليه دراسة فترة خلافة علي عليه السلام الذي أختاره الله ليكون الشخصية الثانية بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاسلام . علي عليه السلام هو الرمز الذي استخدمه الله عز وجل والذي من خلاله يستطيع الباحث تحديد زعيم المسلمين المنافقين وأصحابه الذين دخلوا الإسلام ورغم ما فعله لهم رسول الله من أجل مساعدتهم في إنقاذ روحهم من سيطرة روح الكلب لتتحول إلى سيطرة روح الأسد ولكنهم بعد وفاته عادوا إلى ما كانوا عليه حيث الإزدهار الفجائي الذي حصل في الامة الاسلامية على الصعيد الإقتصادي والإجتماعي بسبب إنتصارات جيوش المسلمين وسيطرتهم على البلدان المجاورة جعلت هؤلاء المسلمين المنافقين يفضلون حياة الدنيا على حياة الآخرة فهجرت قلوبهم الاسلام وأستسلموا لشهواتهم وأصبحوا من أتباع روح الكلب .
قبل أن نذكر أسم زعيم أتباع روح الكلب لا بد لنا أن نعود إلى فترة طويلة ما قبل ظهور الاسلام ، فكما ذكرنا في مقالات ماضية أن أحفاد قريش هم في الحقيقة عبارة عن رموز وضعها الله لتفسر لنا تطور الكون . الجد الثالث لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان أسمه عبد مناف وكان هو المسؤول عن جميع شؤون الكعبة والحجاج ، وكان له أربعة أبناء وهم عمرو والمطلب وعبد شمس وشقيق من أبيه أسمه نوفل ، عندما مات عبد مناف أستلم أبنائه مسؤولية الكعبة والحجاج ، ولكن شاءت الأقدار في تلك الفترة أن تمر المنطقة بفترة جفاف أثرت على سكان المنطقة بأكملها ، كثير من الناس هناك ماتوا بسبب الجوع ، عبد شمس كان يختلف عن أخوته فكان أهتمامه بأمور الكعبة ليس بسبب إيمانه برب الكعبة ، فالكعبة كانت بالنسبة له مورد أقتصادي يؤمن له الغنى والشرف بين سادة قريش . ولهذا عندما رأى عبد شمس أن الجفاف الذي أصاب المنطقة قد حرمه من جميع هذه النعم ، حمل نفسه وعائلته وهاجر إلى بلاد الشام لينعم بحياة أفضل هناك . أما عمرو فشعر بالمسؤولية تجاه الكعبة وسكان مكة ، فراح يفكر في طريقة ينقذ بها المنطقة من هذه الظروف القاسية ، فجمع كل ما لديه هو وأخوته عبد المطلب ونوفل من مال ، وذهب برحلة تجارية إلى بلاد الشام واشترى بها مواد غذائية وعاد بها إلى مكة ، وراح يوزعها على الحجاج وأهالي مكة ، ولهذا سُمي عمرو باسم هاشم ، لأنه كان يهشم الخبز ليوزعه على الحجاج واهالي مكة ، هاشم هو الذي سن رحلتي الشتاء والصيف التي كان يقوم بها تجار قريش .
ولكن بعد مرور سنوات الجفاف وعودة المنطقة إلى ما كانت عليه من قبل . سمع أمية بن عبد شمس أن الأمور في مكة عادت إلى أفضل حالاتها ، عندها أخبر أخوته فحملوا أنفسهم وعادوا إلى مكة ليأخذوا نصيبهم في إدارة شؤون الكعبة ، ولكن هاشم واخوته رفضوا طلبهم ، لأن أبوهم عبد شمس هرب من مسؤولية الكعبة والحجاج في سنوات الجفاف . لهذا السبب ومنذ ذلك الوقت حمل بني أمية الحقد في قلوبهم على بني هاشم وأصبحت العداوة بين بني هاشم وبني عبد شمس مثل العداوة بين القطة والكلب.
من نسل بني هاشم سيأتي رجل أسمه أبي طالب ، وأمرأة تدعى فاطمة بنت أسد ، من أبي طالب وفاطمة سيولد طفل ستسميه أمه (حيدرة) ومعناه أسد ، أما النبي صلى الله عليه وسلم فسيسمي هذا الطفل (علي) لأنه سيكون في أعلى مراتب روح الأسد .
من نسل بني عبد شمس سيأتي رجل أسمه أبو سفيان ، وأمرأة تدعى هند بنت عتبة . من أبو سفيان وهند سيولد طفل أسمه (معاوية) ويعني الكلبة العاوية وهو سيكون في أعلى مراتب روح الكلب . معاوية بن أبي سفيان هو بمثابة يهوذا الأسخريوطي الذي خان عيسى المسيح عليه الصلاة والسلام وساعد الكهنة اليهود في التآمر عليه لتقديمه ومحاكمته بتهمة انتهاك حرمة الهيكل .
إن التكوين الروحي لعلي عليه السلام جعلت طريقة تفكيره وحكمه على الأمور يختلف عن جميع الصحابة ، فالصحابة المؤمنين كان يحاولون تطبيق تعاليم الله ورسوله بطريقة التقليد ، ولكن علي عليه السلام فكان يقوم على تحليل الأمور وفهمها وليس تقليدها . لهذا كان أسلوبه في تقييم الأمور مختلفا عن الآخرين . فرغم أنه كان يعلم أنه أحق المسلمين بخلافة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن ومع ذلك لم يطالب بحقه في الخلافة طالما أن الخلفاء الراشدين كانوا يسيرون على تعاليم الله ورسوله . ولهذا عندما تم مبايعته وأصبح خليفة للمسلمين بعد استشهاد الخليفة عثمان رضي الله عنه لم يحاول القصاص من قتلة عثمان مباشرة كما أراد معظم المسلمين ، فعثمان رضي الله نفسه قبل مقتله رفض أن تسفك دماء المسلمين من أجله ، كثير من الصحابة عرضوا على عثمان أثناء حصاره أن يدافعوا عنه ويقتلوا الثائرين عليه ولكنه عثمان رفض رفضا قاطعا وفضل أن يموت شهيدا على أن تنشب معارك بين المسلمين .
علي عليه السلام أراد تطبيق ما هو الأرقى والذي ذكره الله في قوله (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ ). القصاص والإنتقام هو من روح الجاهلية ، وحسب ما أراده علي عليه السلام أنه يجب على المسلمين أن ينتقلوا إلى مرحلة أرقى وهي أن يصبروا ويسامحوا . وخاصة أن الثائرين الذين حرضوا على قتل عثمان رضي الله عنه كانت أعدادهم كبيرة ومن عدة مناطق في الأمة الأسلامية وأن أي محاولة في محاربتهم قد تدفع الأمور إلى ظهور فتن أخرى تمزق الدولة الاسلامية بأكملها وخاصة أن معظم مسلمي العراق وبلاد الشام ومصر كانوا حديثي العهد بالاسلام وأي تصرف خاطئ قد يثيرهم ويدفع شعورهم القومي إلى الارتداد عن الدين وتتحول الفتن إلى فتن قومية أخطر من الفتن الدينية وخاصة أن الأمبرطورية الرومانية والفارسية كانت تتربص بالمسلمين وتنتظر أن تستغل أي خطأ يقع في الأمة الإسلامية . إن روح الجاهلية التي كانت لا تزال تؤثر في فكر بعض المسلمين المؤمنين هي التي جعلتهم يطالبون علي عليه السلام الإسراع في القصاص من قتلة عثمان ، لهذا حاول علي عليه السلام أن يتباطئ ريثما تهدأ النفوس وريثما تسمح الفرصة لتحقيق العدالة بدون أن يؤثر الوضع على سير أمور الأمة الإسلامية بشكلها الطبيعي ، ولكن الذي حصل أن فئة من المسلمين المنافقين من أتباع معاوية أرادوا استغلال مقتل عثمان رضي الله عنه ليتخلصوا من علي عليه السلام لأن معاوية كان يعلم تماما بأن علي عليه السلام سيخلعه من مناصبه طالما أنه أصبح خليفة للمسلمين ، فأول ما فعله معاوية لتأجيج الفتنة ضد علي انه أمر بوضع قميص عثمان رضي الله عنه الملطخ بدمائه في المسجد ليثير روح الإنتقام في نفوس المسلمين ، ولم يعلم المسلمين أن معاوية في الحقيقة لا يهمه شيء سوى تأمين مصالحه الشخصية . فوقع بعض المسلمين المؤمنين في خدعة معاوية ، ومع مرور الأيام بدأت أعداد المسلمين تتزايد فدفعت الأمور ببعض الصحابة التوجه إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها لتساعدهم في إجبار علي عليه السلام بتطبيق القصاص على قتلة عثمان رضي الله عنه ، فذهبت عائشة رضي الله عنها مع عدد كبير من المسلمين العامة إلى الكوفة للقاء علي رضي الله عنه ، ذهبت عائشة رضي الله عنها إلى علي عليه السلام لتشرح له حقيقة وضع ما يحصل في الامة الاسلامية ولتساعده في حل المشكلة لتهدأ النفوس ، ولكن المسلمين المنافقين الذين اندسوا مع المسلمين الذين رافقوا عائشة رضي الله عنها أظهروا الأمور بشكل مخالف لحقيقتها لتبدو للمسلمين العامة أن عائشة رضي الله عنها ذهبت بجيشها لتقاتل علي عليه السلام ، وعندما حانت الفرصة المناسبة أشعل المنافقون نار الفتنة بين الطرفين فحدثت معركة الجمل التي تُعتبر أول فتنة حقيقية بين المسلمين . وكان العقل المدبر لهذه الفتنة هو معاوية ابن أبي سفيان ، الذي خدع مسلمي بلاد الشام واقنعهم بأنه لن يبايع خلافة علي عليه السلام إلا بعد القصاص من قتلة عثمان رضي الله .
عندما رأى معاوية أن الفتنة الأولى لم تنجح في التخلص من علي عليه السلام وعلم أن علي عليه السلام قادم بجيشه ليخلعه من منصبه لولاية الشام فطلب من عمرو بن العاص في مصر الذي لبى دعوته في التصدي لجيش علي عليه السلام . فلتقى جيش معاوية وعمرو بن العاص مع جيش علي عليه السلام، ورغم أن علي عليه السلام طلب من معاوية المبارزة بينهما فقط لمنع سفك دماء المسلمين كما حصل في معركة الجمل ، ولكن معاوية خاف على نفسه فرفض وفضل أن يتقاتل الجيشين ، فحدثت معركة صفين ثاني فتنة بين المسلمين حيث راح ضحيتها أكثر من ٧٠ ألف مسلم ، وعندما رأى معاوية أن جيشه سيخسر المعركة أتبع أسلوب مخادع لينقذ نفسه ومصالحه فأمر جنود جيشه برفع المصاحف ليجبروا علي عليه السلام عنه وجنوده على وقف القتال ، فوافق علي عليه السلام على وقف القتال ليس من أجل معاوية ولكن من أجل المسلمين الأبرياء الذي أنخدعوا بحقيقة معاوية ابن أبي سفيان .
يقول رسول الله في حديثه الشريف (الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكا عضوضا) . مدة الثلاثين سنة هي فترة الخلفاء الراشدين وهي كالتالي : أبو بكر سنتان وثلاثة أشهر، وعمر ١٠سنوات و٦ شهور، وعثمان ١١ سنة و١١ شهر و ٩ أيام، وعلي ٤ سنوات و ٩ أشهر و٧ أيام، وهذه المدة هي ٢٩ سنة و ٦ أشهر و ٤ أيام، وتتبقى ٦ أشهر؛ وهي المدة التي وليها الحسن بن علي ـ رضي الله عنه ـ وتنازل بعد ذلك إلى معاوية بن أبي سفيان، وبذلك تكون مدة الخلافة ٣٠ سنة و ٤ أيام . بعد هؤلاء كما يذكر في الحديث الشريف يكون الحكم في الأمة الإسلامية (ملكا عضوضا) كلمة عضوض مصدرها فعل (عض) والعض هو أهم صفة سوء تنسب للكلاب ، فالمقصود بعبارة (ملكا عضوضا) أي الحاكم الذي يتمسك بعرشه بأسنانه بقوة كي لا يفقده ، لأن عرشه هو أهم شيء في حياته ، لهذا فعبارة (ملكا عضوضا) تدل على الظلم والعنف . بهذا الحديث الشريف تنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بأن بعد فترة الخلفاء الراشدين سيحكم الأمة الاسلامية ملك من أتباع روح الكلب الذي من أجل عرشه يمكن أن يفعل أي فعل خبيث مهما كان . وهذا ما حصل تماما فبعد أستشهاد علي عليه السلام ومبايعة ابنه الحسن رضي الله عنه ، فضل الحسن التنازل عن الخلافة لمعاوية لحقن دماء المسلمين ليعود الأستقرار إلى الأمة الاسلامية . معاوية بن أبي سفيان هو أول ديكتاتور في الأمة الاسلامية ، كان مسلما منافقا يظهر أمام الناس وكأنه أمير المؤمنين يصلي ويصوم ولكن في الخفاء كان يأمر بقتل كل شخص يمدح بعلي عليه السلام وآل بيته ، ويقتل كل من يتكلم عنه أو عن بني أمية بسوء ، لذلك في عهده مات الكثير بالسم وبعضهم قُتل بيد قاتل مجهول ، معاوية لم يكن يهمه من الدين الاسلامي أي شيء على إطلاق لأن حياة الدنيا بالنسبة له كانت أهم بكثير من حياة الآخرة ، لذلك كان هدفه الوحيد في الحياة هو تحقيق كافة شهواته الحيوانية ، المجد والغنى والخمرة والجنس. فجميع الخلفاء الراشدين من قبله كان مستوى حياتهم بسيطة مثل المسلمين البسطاء ، أما معاوية فبنى لنفسه أفخم القصور ، وكانت جميع ثيابه من أغلى أنواع الحرير ، وكان يأكل سبع مرات في كل يوم وكل وجبة كان فيها أشهى المأكولات ، لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معاوية (لا اشبع الله بطنه) .
معاوية بن أبي سفيان أسس دولة أسمها الدولة الأموية نسبة إلى بني أمية ، وأسم أمية يعني الأمة الصغيرة ، هذه التسمية ليست صدفة ولكن حكمة إلهية ، ليعلم المسلمين أنه طالما أن فئة كبيرة من المسلمين ساعدوا معاوية للوصول إلى الحكم ، هذا يعني أن الأمة الإسلامية هي أمة صغيرة وستبقى صغيرة مثل بقية الأمم ، لهذا لا يحق لأي مسلم أن يعتقد أن الأمة الاسلامية هي أمة الله المختارة التي يجب عليها أن تسيطر على جميع باقي الأمم ، ولهذا نجد انه في عهد الدولة الأموية عندما ذهبت جيوشها لفتح القسطنطينية سخر الله قوى الطبيعة ضد جيوش الاسلامية لحماية القسطنطينية منهم . حيث وصل عدد ضحايا جيوش المسلمين إلى ربع مليون شهيد في حملة واحدة ، معظمهم لم يُقتلوا بطعنة سيف أو رمح من جندي بيزنطي ولكنهم ماتوا بسبب الصقيع والثلوج والجوع والأمراض . هذه الهزيمة الفادحة في جيوش المسلمين حصلت في عهد الدولة الأموية ليعلم جميع المسلمين إلى يوم الدين حقيقة معاوية وحقيقة حكام هذه الدولة . عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عندما أستلم الخلافة أراد أن يصحح جميع أخطاء معاوية والخلفاء الأمويين من بعده ، ولكن بني أمية لم يتركوه يحكم أكثر من عامين ، حيث دسوا السم في شرابه وتخلصوا منه . الحكمة الإلهية تركت لنا حقيقة تكشف نفاق حكام الدولة الأموية ، فإذا تمعنا في أسمائهم لن نجد حتى واحد منهم يحمل أسم (محمد) ، ونلاحظ ظهور اسم (محمد) فقط في آخر حكام الدولة الأموية وهو (مروان بن محمد) ، إن ظهور اسم (محمد) في الدولة الأموي هو الذي قضى على هذه الدولة . هذا ليس صدفة ولكن علامة إلهية تكشف لنا بغض بني أمية لرسول الله وآل البيت. لذلك كانت عاقبتهم الإلهية أن نسلهم قد أختفى من الوجود .
قبل الإنفتاح العلمي الذي حصل في الأمة الاسلامية في عصرنا الحاضر ، أي قبل حوالي ١٠٠ عام ، كان معظم علماء السنة عندما يذكرون اسم يزيد بن معاوية يضيفون بعده عبارة (رضي الله عنه ) ولكن بعد الانفتاح العلمي وعندما بدأ المثقفون من جميع الفروع العلمية يبحثون في حقيقة هذا الرجل وجدوا أنه مجرد مجرم وفاسق ، فراحوا وكتبوا آرائهم عنه ليفضحوا شخصيته ، عندها اضطر علماء السنة إلى تغيير موقفهم منه ، اليوم معظم علماء السنة يعترفون بأن يزيد بن معاوية كان فاجرا وفاسقا ، وبعضهم أصبح يضيف خلف أسمه عبارة ( لعنة الله عليه) . ما حدث مع يزيد يحدث اليوم مع معاوية ، وفي المستقبل القريب إن شاء الله لن يتجرأ أي عالم سني أن يضيف عبارة (رضي الله عنه) خلف أسم معاوية بن أبي سفيان ، لان يزيد هو تربية أبيه وهو صورة حقيقية عنه .
على كل مسلم سني يريد أن يعلم حقيقة معاوية بن أبي سفيان يجب عليه أن يقرأ عنه في كتب الشيعة ، وليس كتب السنة . وكل مسلم شيعي يريد أن يعلم حقيقة الخلفاء الراشدين عليه أن يقرأ كتب السنة لا كتب الشيعة . فقط بهذا النوع من التعاون في تبادل المعلومات يمكن الوصول إلى الحقيقة التي ستسمح للطرفين بالقضاء على النواصب والرافضة التي تنشر العداوة والبغضاء بين السنة والشيعة. فالأمة الأسلامية اليوم تكاد تصل إلى أسفل السافلين بين الأمم ، لذلك من واجب كل مسلم يريد ان يكون مؤمن عليه أن يساهم في تصحيح تلك الشوائب التي عكرت العلاقة بين السنة والشيعة .
وسوم: العدد 821