شيء من النسيان
كنت وبعض أصحابي وتلامذتي في بيتنا بعد صلاة العشاء نتجاذب أطراف الحديث حين دخلت زوجتي البيت ، ونقرت زجاج غرفة الضيوف بقوة تستعجلني الحديث معها لأمر قد يبدو مهماً ، فأسرعت إليها مستفسراً . قالت أين سيارتك ؟
قلت : على رصيف البناية . ألم تريها ؟
قالت : لا . .. حين لم أجدها ظننت أنك قررت السهر عند أحد أصدقائك ، فلما دخلت البيت أصابتني الدهشة .
قلت : لا تمزحي يا امرأة .
قالت : لست بمازحة ، ليست السيارة أمام البناء .
لم أرها فعلاً حين نزلت أستيقن الخبر وبحثت عنها يمنة ويسرة ، ثم نظرت هنا وهناك . فلما لم تقع عيناي عليها تيقنت أنها سُرقت . فحوادث السرقة في عمّان هذه الأيام صارت ملفتة للنظر .
عدت قائلاً : لعلها نالت إعجابهم فأخذوها ، وسوف أخبر الشرطة بذلك .
قال أحد الحاضرين : لقد جئت بسيارتك يا دكتور إلى المسجد ، وقد رأيتك تترجل حين دخلت المسجد .
تذكرت فعلاً أنني كنت عائداً للبيت حين أذن للصلاة فاتجهت صوب المسجد . وبعد الصلاة سلمت على بعض جيراني وسرت معهم كالعادة نحو دورنا ناسياً أنني تركت السيارة أمام المسجد ... ضحكنا وتبرع أحدهم بإحضارها .
بعد صلاة فجر اليوم التالي سلمت على أحد الأصدقاء ونحن خارجون من المسجد ، وكان نجاراً.... : ألا تأخذ طاولات الضيافة الصغيرات الثلاث معك لتعيد طلاءها؟ ، فقد بهت لونها إلا أنها متينة ، والعيد على الأبواب يا صالح .
قال : حباً وكرامة يا أبا حسان ، وسآتي بسيارتي حالاً لأحملها . انتظرني هنا ، فنذهب معاً .
قلت أسبقك ماشياً أستنشق الهواء فنصل في الوقت نفسه ... لكنّ بعض الجيران كالعادة حين يكلمونك لا بد أن يقفوا في الطريق . فلا يحلو لهم الحديث إلا إذا التفتوا إليك وتوقفوا عن المسير بين الفينة والأخرى .. وهكذا كان ...وصلت بعد ربع ساعة مع أن الطريق لا يحتاج أكثر من نصف الوقت الذي شغلناه ، بل ثلثه .. رأيت سيارة شحن صغيرة تهدر في هدوء الصباح أمام باب البناء . فقلت في نفسي : من يزور الناس في هذا الصباح الباكر ؟! وما إن دنوت منها حتى توقف هديرها فأكملت حديثي مع نفسي : لعلها تعطلت فهلم- يا عثمان- نساعده في إعادة تشغيلها ، فأنا أفقه في ميكانيك السيارات قليلاً ... نزل صالح منها وعيناه تقولان : لقد تأخرت يا صاحبي في حديثك وأصحابك .. شعرت بالخجل من نسياني ، وأحسست باحمرار وجهي ، فالموقف محرج . واعتذرت له..
مر هذا اليوم بسلام إلا أنني حين خرجت من صلاة العشاء اليوم التالي سرت وبعض الأصحاب أشكو لهم نسياني وأخبرهم بقصتيّ أمس ، ولعل الخرف داهمني مبكراً . فنصحني أحدهم أن أكثر من أكل الزبيب ، وثنّى غيره بالتمر والحليب .. وصممت أنْ لا أنسى مرة أخرى . وأن أنام اللليلة مبكراً ليرتاح فكري ، وينشط جسمي ..
خرجت اليوم إلى صلاة الفجر راغباً أن أصلي في المسجد البعيد... لكنني اضطررت أن أيمم نحو المسجد القريب ، فقد صليت العشاء أمس فيه ونسيت السيارة أمامه مرة أخرى حين لقيت بعض الجيران ينتظرونني لأمضي معهم في طريقنا إلى بيوتنا .
وسوم: العدد 866