إلى أنا...!!
طه أبو حسين
على مهل، أطفئ قناديل قلبي، آخذ بعضي ململما أنّاتي وأوجاعي المبعثرة، أنتصب أمام سريري، كرجل تسعيني يحمل على كاهليه زوّادة الأحلام، ظهره محدودب، وتجاعيد المستقبل متعاظمة الخطوط في محياه، برتابة مثقلة بالموت أطأطأ رأسي على حافظة أسراري، وباقي أطرافي أنتشلها والشيطان يؤنس وحدتي.
تحت الإنارة المكسورة أمدد جسدي المحمّل بالآثام، أنهره بدبّوس الآمال ولا حياة، وعجلة شريط الذكريات تعود بي، حيث الطفولة، الصبا، الشباب، الحبّ، الكلمة الآولى، الحربّ، التصفيات، الغزل، المساومة، القبلة الطائرة الراسية بين عينيك، ثم الانتكاس...!!
الآن؛ لا أكتب إلا لأنا، وحده أنا من يفهمني، وإن كنت أنا لا أفهمني، فيوم ضعت تراءت لعيني أرقاما دفعتني الاقتراب منك، لا لشيء، فقط لأستعيد هويتي المسلوبة.
كنت يا أنا عاشقا وما زلت رغم إيماني المطلق بأني حرمت قلبي، هي ضريبة الفقر يا أنا، فالفقير كافر، والكافر مصيره جهنّم، وها أنا مخلّدا أتعذب فيها لكفري الذي لا أملك من تبديله إلا ضربة حظ يتيحها ليَ القدر، ولو فعلها اليوم سأكفر بالحظّ الذي لن يجدي معي نفعا بعد خسران الجنة.
يا أنا، تمنيت لو أنّ الألم يتجمد كما أطرافي الآن، لكنه يتدفق كبركان يغلي، تماما؛ كقلبي النازف.
سأعلمك سراً، بعد أن صرت معرضا للريح والعواصف، وبعد أن تجرّدت من كلّ شيء يدفئني، لم أعد أقوى تحديد سير زوائد ألم تفيض من روحي النازفة.
منذ يومين، أسبوعين، شهرين، عامين، ليس مهما الزمن، فلم أعد أفرق ولم يعد يعني لي أكثر من مجرّده تاريخ أدونه يوم أكتب خبرا أو تقريرا صحفيا عن مساومات إنسانية، مقاولات وطنية، أو حتى عن ترهلات بدنية في الجسم الفلسطيني.
ما أقبحني، ذكرت ما ذكرت، ونسيت أن أقول لك سبب تلك المقدمة بالتثنية الزمنية، تلك التي رغبت أن أحدثك عنها، لسبب بسيط، جائني بريد يتيم، من حبيبتي، جنّتي، أقصد تلك التي حرمت منها وفاز بها فارس يرتدي بدلة بيضاء على فرس ذهبي...!!
ليس مهما ما تتضمن الرسالة، المهم أنها وصلت، مكونة من عشرات الحروف، إيه والله؛ تحتوي قرابة المئة حرف وأكثر، يا الهي لو تعلم يا أنا، كيف كنت ألتهم تلك الحروف، كنت منهمكا في أكلها وشربها بل والسكر عليها، كنت كتائه في عرض صحراء يموت عطشا فيجد قربة ماء سوداء تحتوي بضع نقطات يراد منها الحياة.
دعك من هلوستي الآن، فأنا مجنون، والمجنون معصوم، ماذا دهاك.؟! تنتظر منّي هفوة، سأحدثك بأمري يوم ترمقني على نعش الآخرة.
نسيت مرة أخرى، ثمرة الأرز دعوها ترقد آمنة بجانبي يوم أُلْحَدْ، ألبسوها ذلك الثوب الذي لا يعلمه إلا أنا، سأكون مطمئنا لو صار ذلك، ولا تنسى يا أنا، أن تودّعني بصمتك، فذلك أجلّ وأعظم قدرا.
قلت الوداع الصامت، رأفة بك والله، فلا أريد لك جحيما فوق جحيمك يوم رحيلي، فالشهيد لدمعاتك على رحيله دفعت الضريبة، فكيف بي أنا الكافر لو بكيتني، يا ويلي من موتي، لعلّك يا أنا تدفن في يومي، فتعاتبني، والموت يعود ويميتني مرارا وتكرارا حتى يقتص منّي.