وجاء عيد الأضحى المبارك
وتتعالى أصوات المكبرين ومن صيغه : (الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلًا ، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبدإلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ) . وحناجر أخرى تلبي ربَّهـا ومن صيغها رواية ابن عباس رضي الله عنهما: ( لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ لا شَرٍيك لَك لَبَّيْكَ. إنَّ الحَمْدَ والنِعْمَةَ لَكَ والمُلْك. لا شَرِيِكَ لك) رواه أحمد ، وتتنوع أفعال المسلمين في هذه العشر المباركات ، من صلاة وصيام وصدقات وزيارات للأرحام ، حيث تتنوع أفعال الخير في مجتمعنا الإسلامي .
وتعود هذه الأيام المباركات من كل عام ، لتفتح لنا آفاق الأفراح رغم كل المنغصات ، وتنفح قلوبنا بنسائم المودة والرحمة التي تتجلى في أيامه المنيفات . فتستجيب له المشاعر بعفوية تحملها أكُفُّ عقيدتنا كما وردت في كتاب الله العظيم ، وفي سُنَّة نبيه الكريم ، وما في جميل عاداتِنا الفاضلة ، فيشعر المسلم بروحانية تأخذ بمجامع القلوب ، لتُتَرجم هذه القيم إلى التهاني والزيارات والعبارات الحانيات التي تٌنبئُ عن معاني مالَنا من عقيدة ربانية حبتْنا بإشراقات هانئة ، وبطمأنينة تأسر ــ تلك القلوب ــ وتنقلها إلى بيئة المسرات . وفي هذا العيد وعيد الفطر الذي قبله يجدد عمَّار المساجد قدومهم إلى بيوت الله لأداء الصلوات الخمس ، وتمتلئ الأسواق بالمتسوقين ، ويتحرك الناس رغم الظروف المؤلمة ، يدفعون عن وجوههم آثار الأحزان والكآبات ، ليعبروا عن أشواقهم لأيام سعيدة ، تكتنفها السُّنُنُ النبوية و الآداب الإسلامية ، فلا مجال لانحراف أو ابتذال أو مخالفات شرعية ، يجدها الناس فيما يُسَمى بأعياد ، اخترعتها النفوس الشيطانية ، وأغنتها العقول المنحرفة بالأعمال التي تنافي فطرة الله التي فطر الناس عليهـا . فلأمتنا عيدان منذ أربعة عشر قرنا . وفي كل منهما من الخير والقيم النبيلة مالا تجده في ضلالات الآخرين ، ومن عادات دخيلة على قيمنا وشخصيتنا وتراثنا ومجد أمتنا . ولقد كتبتُ في عيد مضى : ( وأعود إلى موضوعي ، ولم أبعد عنه كثيرا ، أعود لأعتذر إلى العيد السعيد عَلَّهُ يسامحُنا على عدم استقبالنا له الاستقبال اللائق به ، وعلى خذلاننا لمحياه البهيج فلم يجد البسمات المشرقات ولا التغريدات المعبرات ، ولا اللقاءات التي تملؤُها المودات بين أبناء مجتمعنا الكريم . كانت الأحداث الدامية في ربوع بلادنا الحبيبة تتنفس رائحة الموت والتشريد والغربة ، بل والجوع والعري والفاقة التي لاترحم ، ولعل العيد السعيد أدرك أننا عاجزون عن القيام بمراسم استقباله ، والحفاوة بمقدمه المبارك ، فالألسن تكبلها الأحزان فلا تكاد تنطق بما يجب أن يُقال ، والقلوب مدماة يكاد وجيبُها أن يتلاشى لِثِقَل النوازل ، وغمرة الفواجع . ولعله أيضا علم بأننا أضعف من قوة آلامنا ومرارة أوجاعنا ، ولعله قرأ كلَّ ذلك في وجوه أيتامنا ، وسمع آهات أراملنا ، وكدت أنا أكون صورة تعبر عن ألمٍ ما ، أو معاناة تذوقها أبناءُ قومي آناءَ الليل وأطراف النهار . وربما كنتُ في غيبوبة من أثر قراءة رواية تلهث حروفها لشدة المرارات التي عانى منها أبطالها ، فأبكت مَن رأى ، وأحرقت قلبَ مَن سمع ، وها أنا أسمع الصوت الذي أذهلني أكثر من قراءتي لتلك الرواية ، صوت رحيم ينساب من عوالم الغيب ، تخطَّى السحب الداكنة ، وشقَّ عباب الأكدار ، يبشرني بأن البلاد بخير ، وستبقى بخير ، وستنجلي الغُمم ، هي الدنيا هكذا صراع بين الألم والأمل ، ولكنْ لم ينتصر الألمُ على الأمل على مدى الحقب ، رغم أنه ضاقت به دنياه ، ولم تبق له سوى كُوَّةٍ دخل من خلالها هذا الصوت الذي يأسر القلوب ، ولا أخفيكم سرِّي ، فهنا يجوز البوحُ بالأسرار ، سمعتُ النداء فأسر قلبي انسيابُه الذي هلَّ وكأنه الينبوع العذبُ ، ليفرغ قراحه البارد اللذيذ على كل قلب ظامئ ، فتسامى به قلبي كما تسامت به قلوب الآخرين ، لاتقولوا بأنه غرور ، لا وربي ليس بغرور ولكنه الإيمان العميق بأن العيد السعيد سيعود ، ويومها نقول : ( كل عام وأنتم بخير ) .
وأقول مرة أخرى أجل ... ستعود أيام عيدينا المباركين ــ بمشيئة الله ــ ذات الطَّعمِ الخاص ، الذي كنا نشعر به ونحن صغار ، ونشهد ثمراته الاجتماعية ونحن كبار ، بهجة العيد تنقلنا إلى أيام الرعيل الأول في عهد النُّبوة ، إلى المعاني الوريفة التي تدغدغ مشاعرنا ، وتبعث الأذواق والأشواق في جوانحنا التي تتأرج بمشاعر الإنسانية الحانية ، ونسيان حب الذَّات ، والإقبال على الناس بطهارة الوجدان وصفاء النفس ، وحيث تؤكد هذه المزايا على قوة عُرا الترابط والتآخي بين أبناء مجتمعنا الكريم ، وكأنه جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمَّى والسهر ،
وأعود هنا وأقول وبكل فخر واعتزاز : هنيئا لأمتنا هذا العيد ، وهنيئا لشامنا بنشوة ما للعيد من آمال وبشريات ، ومن قيم ومآثر ، ومن منطق مستقيم يأبى الاعوجاج ، به تكون دنيانا جميلة رغم كل الأكدار والذكريات المريرة . إنه العيد خيمة أفراحنا ، ومرتع أشواقنا ، وصدق مَن قال :
( وَقَفَ الهوى بي حيثُ أنتَ فليس لي ... مُتَقَـــدَمٌ عنـــــهُ ولا مُتَأَخَـــــــــر )
وسوم: العدد 987