في رفاهية الشعور
الغموض : أظنها التسمية الأنسب لِأولئك الذين اقتصت منهم الحياة مرارا، يبحثون عن الإغداق بكل شيء ، وربما يبررون استحقاقهم لذلك الإغداق كونهم عاشوا أزمات متتالية في مراحل حياتهم المبكرة. بل مبكرة جدا . حين تفيض مشاعرهم فيعجزون عن تأجيل البوح أو اختصاره أو حتى مواراته ، وإن استطاع أحدهم أن يخفي ذاك الفيض فَلأن تراكمات ما عاشه سابقا جعلت منه صامتا ! رغم حديثه الطويل وحرفيته بالانتقال من موضوع لآخر ، وبراعته بانتقاء مفرداته ، لكنّه صامت أمام الحرب التي تجول بأعماقه، فليس بمقدوره كتم حقيقة الألفة الجائعة التي وجدت من يطعمها أخيرا. ولا الإفصاح عنها لها ليجد نفسه بآخر المطاف منجذبا متعلّقا برياح الشتاء الباردة ! فيسقط من منامه كحجر فوق أرض الواقع لا يجد من يحتضنه فيتكسر ! نعم لا مكان لرفاهية الشعور هنا. رغم الحاجة والاحتياج رغم الأفكار التي تثيرنا تارة ونُثير جنونها/صخبها تارة أخرى عبثًا نحاول كتمان ما نشعر عذاب لساعة.. ليوم كامل.. ثم لأسبوع قاس بين مانُريد وما أَرادته لنا الأقدار التي نؤمن بها ، ونرضى ، تَجاهل تدريجي لصوت قلب يُعيد الأحداث دائما منذ البداية ، ورجاء دائم لدموع أن تسقط علّ سقوطها يخفف من حمولتها مابين ضحك هستيري على نكات سخيفة وانشغال مُبالغ بأعمال تؤمن بعض ما يسكت فم الحاجة ، ها قد بدأت الأمور تعود تدريجيا لمسارها الطبيعي نمارس تفاهاتنا المنطقية بحرفية عالية كما اعتادوا منّا رؤيتها . ولكن يبقى انعتاق الإنسان للأفق الأعلى مدارا لإهمال ماقد جاء بالضرر إليه ، فذلكم يبعد المرء عن تأثير مفردات الأحزان ، أو يسقط في مستنقع الضياع الذي لايحسن الخروج منه ، فالرضا بنوازل الأيام نوع من الهداية الراشدة ، إذ ليس من أمر يحدث إلا بمشيئة الله تبارك وتعالى ، يقول عـزَّ وجلَّ (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) 22/ الحديد .
المسار الآخر : يتربع الشعور في ديوان العقل ، ويأخذ أبعاده وراحته ، ويحتفظ دائما بكنز من علم وشعور يخفيه حتى صاحبه الذي يحمله . ويتداخل هذا الشعور مع هاتيك الأفكار التي تتوارد من ديوان العقل ، ولا يعرف الإنسان كيف يتم هذا التماهي . وربما كان هذا الأمر من العلوم التي تخص ذات الإنسان ، وجعلها الخالق الحكيم من المغيبات . وربما كان الأولى بالإنسان أن لايقحم فكره و وعيه وقدراته الذاتية لكشف حقيقة أُخفيت عنه . بل قال أهل العلم في هذا الباب إن الشعور لدى الإنسان غير قابل للكشف عنه . يقول دبليو. تي. أندرسون : (إن الوعي بالنسبة للناس هو أسهل بدهية في العالم؛ فهو الوعي بالوعي الذي يتصور كل واحد منا أنه يفهمه ولا يحتاج إلى من يفهّمه إياها، وأنه يلمع في الوجوه والسلوك. ولدى كل منا معرفة كافيه فيه لقراءة هذا اللمعان والسلوك في أثناء التفاعل الاجتماعي. مع هذا، فإن هذه الألفة بالوعي هي التي تجعله سراً أو لغزاً محيراً أربك الفلاسفة والعلماء مدة طويلة، لدرجة جعلت بعضهم يدّعي أنه لا يوجد شيء اسمه الوعي. (
الوعي وإمارات الإحاطة : جاء في المعجم عن معنى الوعي : (الْوَعْيُ: حِفْظُ الْقَلْبِ الشَّيْءَ. وَعَى الشَّيْءَ وَالْحَدِيثَ يَعِيهِ وَعْيًا وَأَوْعَاهُ: حَفِظَهُ وَفَهِمَهُ وَقَبِلَهُ، فَهُوَ وَاعٍ، وَفُلَانٌ أَوْعَى مِنْ فُلَانٍ أَيْ أَحْفَظُ وَأَفْهَمُ. وَفِي الْحَدِيثِ الشريف عن المصطفى صلى الله عليه وسلم : (نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا؛ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ). فقدرة الإنسان على استيعاب ماحوله في حياته الاجتماعية ، من خلال يقظة شعوره وإحساسه بما حوله . وقد يختلف عن غيره في تقدير بعض الأمور أو تحليلها ، إذا مادخل بهـا غمرة المجتمع الذي يعيش فيه . ولا يخفى أن الإنسان ومن خلال هذه الغمرة يتفاعل وتزيد خبرته ويمنح وعيه قدرة أكثر على الاستنباط والاستقراء ، وهنا يمكن القول بأن الوعي شعور جديد يكتسبه الإنسان من محيط البيئة التي يعيش فيها . ويبقى الوعي من مقومات الحياة الكريمة للإنسان ، وغياب الوعي عند الإنسان يضر به ، وكذلك غياب الوعي عند الأمة ، يقول الشيخ محمد الغزالي ــ يرحمه الله ــ ( الضمير المعتل والفكر المختل ليسا من الإسلام في شيء. وقد انتمت إلى الإسلام اليوم أمم فاقدة الوعي، عوجاء الخطى، قد يحسبها البعض أممًا حية ولكنها مغمى عليها. والحياة الإسلامية تقوم على فكر ناضر إذ الغباء في ديننا ربما يؤدي إلا المعصية ) ، يقول الله سبحانه وتعالى : (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) 11 / التغابن .
وسوم: العدد 992