الضجر
سرف المداد
أنا ضائقاً بهذه الحياة، وساخطاً عليها، حياتي التي اكتنفتها المصاعب، وأحاطت بها الآلام، هي في الحق حافلة بمواطن الضنك والضيق، وليس فيها ما يدفعك أن تمضي سائر أيامك وادعاً مطمئناً، قرير العين راضي البال، كلا، ليس في أيامي شيئاً من هذا، فأنا أحس بثقل هذه الأيام، وأخذ بحظي منها، وأقنع بما تمنحني إياه من بهجة ضئيلة، أو متعة قليلة، والمتع التي انقطعت ما بيني وبينها من أسباب، أقصاها أن تجد صديقاً من أصدقاء الصبا والكهولة، تحادثه في غير تكلف ولا استخفاء، أو تخلو بكتاب تلتمس فيها العزاء والشفاء من عللك وأوصابك، تلك العلل التي لا تستطيع أن تجهر منها بشيء، أو تنكر منها شيئا. والحق الواقع الذي لا شك فيه، أن السودان- حفظه الله- الذي كل شيء فيه يدعو إلى ضيق أو انكار، يتحفني، ويتحف كل قاطنيه، بمحن لا تجد النفوس عنها منصرفا، وبرزايا لا تجد الأفئدة إلى التخلص منها سبيلا، فكل شيء فيه ساكن لا يتحرك، وكل شيء فيه واقف لا يسعى ولا يضطرب، لا يتيح لك هذا الوطن الجامح، إلا مثل هذه الأحاديث التي تزيد من ضجرك وهمك، والضجر الذي لا حد له في طول، أو عرض، أو عمق، كما يقول الدكتور طه حسين، يقبل علينا في هدأة كل صباح، متكلفاً شيئاً من العنف، حتى يلتصق بوتيرة الدقائق والساعات، والأيام والليالي في هذه الديار، ليفيض على وجوهنا هذا العبوس، وعلى مهجنا هذا البؤس، وعلى عقولنا هذه الفدامة التي تجعلنا لا نقف عند شيء، ولا نلتفت إلى شيء.
وفي الحق نحن اطمئننا إلى هذا الضجر، ووثقنا به، وتعلقت نفوسنا بوجه الشاحب الكئيب، بعد أن رسخ في قناعاتنا، أن الضجر وحش كاسر، لا يمكن استرضاؤه، أو التغلب عليه، لقد اتخذنا الضجر خدنا لنا إذن، واعتدنا على عذابه الهادئ المتصل البطئ، ولعل من الخطأ الفادح أن نعتقد أن أعاصير الضجر وزوابعة التي تزداد شدة والحاحا، هي ظاهرة طارئة لم يعرفها إنسان هذا البلاد، أو أنه كان يلتمس الفرص، وينتهز السوانح، حتى يلتف علينا، ويمتص رحيق سعادتنا امتصاصا، فالحقيقة الواضحة الساطعة أن الضجر قديم الصلة بهذه الديار، وأنه يألفها، ويحبها، ويكلف بها، لأجل ذلك هو ينداح في كل مكان، وينساب في كل ناد.
الضجر حقيقة من ضمن الحقائق التي نعرفها، ونتعايش معها، فنحن نرى صورة الضجر البشعة، ونسمع صوته الأجش البغيض، ونحن بعد كل هذا مرغمين أن نوادده، ونهادنه، ونصانعه ونتيح له المناخ الذي يكلف به، ويرتاح إليه، نهيئ له هذه الحلبة التي يلتقي فيها بوجهه القبيح، الدميم، المشوه، بوجه المعاناة السافر، ليصطدما في وطن واحد، ويسحقا مستقبلنا القاتم، ويصبغا مذاهبنا السياسية التي لا تخضع للحرية، ولا للديمقراطية ، ولكنها ترتنهن للتسلط، والعسف والخصام، بهذا اللون الأحمر القاني، لون الدماء التي لا تدل على معنى محقق في أذهان ساسة هذه البلاد.
وسوم: العدد 1072