الأخلاق أرزاق

قد يحرم المرء المال والمتاع وليست منقصة  ، وقد يحرم  القوت وليست منقصة  ،هي أهون عليه من حرمان  رزق الأخلاق  ،  فالحرمان الحقيقي  أن يحرم المرء  حظه من  نصيب الأخلاق. ،  فيحرم الفضائل ، يحرم الأجر و المثوبة  ، فتكون الخسارة  مضاعفة  ، لأن الأخلاق  هي ميزان التعامل الصحيح ، وهي المقياس الأصدق على رفعة المكانة وعلو الشأن .  

يقول شاعر النيل حافظ إبراهيم في ذلك :  

فَإِذا رُزِقتَ خَليقَةً مَحمودَةً

 فَقَدِ اِصطَفاكَ مُقَسِّمُ الأَرزاقِ

 فَالناسُ هَذا حَظُّهُ مالٌ

 وَذا عِلمٌ وَذاكَ مَكارِمُ الأخلاق 

فلا عجب  أن يكون التميز الرباني  لرسوله صلى الله عليه وسلم  حصرا فيثني عليه بأجمل صفة تمنحه مكانة  مفضلة  في ميزان السماء وموازين الأرض ، كأن الله  بذلك  يقرر لنا أن الريادة والسؤدد والمكانة طريقها واحد محدد ، أن يسود الناس بأخلاقهم.  

لهذا كان التشريف لرسول الله من رب السّماء ثناء  عليه بأجمل ما يتقرب به العبد إليه ، كما جاء  في  الآية الرابعة من سورة القلم في  قوله تعالى:

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾

[ القلم: الآية 4 ]

وما ضعف الوازع الأخلاقي  الذي نعيش اليوم،  يمثل  زمن التردي والهبوط القيمي ، حين نرى هذا  الاختلال صريح  الذي مسّ منظومة القيم ، يصوره الشاعر الجاهلي الأفوه الأودي: وهو أحد الحكماء في الجاهلية تصويرا دقيقا  بيّن فيه حاجتنا للأخلاق والفضائل  إذ  يقول :

وَالبَيْتُ لَا يُبْتَنَى إِلَّا عَلَى عَمَدٍ 

 وَلَا عِمَادَ إِذَا لَمْ تُرْسَ أَوْتَادُ

فَإِنْ تَجَمَّعَ أَوْتَادٌ وَأَعْمِدَةٌ 

 وَسَاكِنٌ بَلَغُوا الأَمْرَ الَّذِي كَادُوا

لَا يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ  وَلَا سَرَاةَ إِذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا

إِذَا تَوَلَّى سَرَاةُ النَّاسِ أَمْرَهُمُ 

 نَمَا عَلَى ذَاكَ أَمْرُ القَوْمِ فَازْدَادُوا

تُهْدَى الأُمُورُ بِأَهْلِ الرَّأْيِ مَا صَلُحَتْ  فَإِنْ تَوَلَّتْ فَبِالأَشْرَارِ تَنْقَادُ

أَمَارَةُ الغَيِّ أَنْ تَلْقَى الجَمِيعَ لَدَى الـ

ـإِبْرَامِ لِلْأَمْرِ وَالأَذْنَابُ أَكْتَادُ

كَيْفَ الرَّشَادُ إِذَا مَا كُنْتَ فِي نَفَرٍ 

 لَهُمْ عَنِ الرُّشْدِ أَغْلَالٌ وَأَقْيَادُ

أَعْطَوْا غُوَاتَهُمُ جَهْلًا مَقَادَتَهُمْ 

 فَكُلُّهُمْ فِي حِبَالِ الغَيِّ مُنْقَادُ

[«بلوغ الأرب» للألوسي (٣/ ١٠٧)]

إذا كان حال الناس في الدرهم والدينار فقير وغني ،  فالناس في مذهب الأخلاق سواء  ،  ففيهم  فقير وغني ، وفيهم مترف  ومعدم،  نماذجهم في الحياة كثير ،   تلمح المرء  يغش إذا باع ، ويفجر إذا خاصم ، ويخون إذا أوتمن، يعمل ولا يتقن  ، يتكلم ولا يصدق ، يعاشر ولا يحسن المعاشرة   ، أحسب جميع هؤلاء   فقراء وإن لبسوا ثوب الغناء ، وجهال ولو لبسوا ثوب العلم ، تعرف من أوصافهم وتنكر . 

فالأخلاق يا سادتي هي المعيار الوحيد  الذي توزن به فضائل الأعمال ، الأخلاق هي السلطان على القلوب، فبها تكسر الحواجز، وتجبر الخواطر ،   وبها  تبنى جسور المودات ، وبها  تقوي الأواصر  ، بل تفتح المغاليق  ،  وتحطم كل الحواجز التي تهدم رعونة الطباع الخشنة ، وبها ترمم ما يفسده الحمقى بسلوكهم الأرعن. 

 لهذا نحتاج  لبناء تربوي قويم يعزز مكانة الأخلاق في منظومتنا ، يوجه هذا العمل رأسا لبناء الفرد الصالح والأسرة والمجتمع  ، وتعد القدوة الصالحة طريق الأسلم  لذلك البناء الخلقي المتين  قال تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾  من سورة آل عمران. 

و آخر المقال أختم بقطف  جميل معسول الكلم في فضائل الأخلاق  للإمام بن القيم الجوزية يقول  :   ( فإنك ترى الرجل الصالح المُحسن ذا الأخلاق الجميلة من أحلى الناس صورة وإن كان أسودًا أو غير جميل، ولا سيما إذا رزق حظًا من صلاة الليل فإنها تنوّر الوجه وتحسّنه". 

و يقول في مقام آخر : 

"فإن حسن الخُلُق وتزكية النفس بمكارم الأخلاق يدل على سعة قلب صاحبه، وكرم نفسه وسجيته".

وسوم: العدد 1084