كَسْبُ الْقُلُوبِ أُولَى
أَنْ تَحْجِزَ لَنَا مَكَانًا فِي قَلْبِ إِنْسَانٍ ، فَتَتَرَبَّعُ فِي كَنَفِ وِصَالِ التَّآلُفِ ، نتَلْتَقِي عَلَى الْمَحَبَّةِ الصَّادِقَةِ ، وقدْ رَأَيْتُ النَّاسَ يَعْبُرُونَ فِي سِجَالِ الْحَيَاةِ كَمَا تَمُرُّ الْجَمَادَاتُ لَا يَرَى لَهُمْ سِوَى ظِلٍّ ، سُرْعَانَ مَا يَخْتَفِي بِاخْتِفَاءِ الْجِسْمِ الْمُتَحَرِّكِ ، رُبَّمَا يَشْعُرُ الْمَرْءُ بِحَرَكَتِهِ وَ عُبُورِهِ ، لَكِنَّ صُورَتَهُ مَعْدُومَةُ الْأَثَرِ ، مِثْلُهُ مِثْلُ الْكَائِنَاتِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي تَرَى التَّوَاصُلَ الِاجْتِمَاعِيَّ مُجَرَّدَ غَنِيمَةٍ ، تَرْتَبِطُ بِمَصْلَحَةٍ مَادِّيَّةٍ ، مِثْلَ أَصْحَابِ السُّوقِ يَقْضُونَ مَصَالِحَهُمْ وَ يَنْصَرِفُونَ ، أَوْ مِثْلَ تُجَّارِ السِّيَاسَةِ تَرَاهُمْ يَلْهَثُونَ بَيْنَ الْجِنِّيَّاتِ ، يَتَصَيَّدُونَ الْمَارَّةَ بِابْتِسَامَاتٍ مَسْرُوقَةٍ لَا رُوحَ فِيهَا ، هَمُّهُمْ صَيْدُ صَوْتٍ يُوضَعُ فِي سَلَّةِ الْمُهْمَلَاتِ ، بَيْدَ أَنَّ كَسْبَ الْقُلُوبِ أَوْلَى .
وَلِهَذَا . . كَانَ صَرْفُ اهْتِمَامِ الْإِنْسَانِ الرِّسَالِيِّ ، صَاحِبِ الْمَشْرُوعِ فِي الْحَيَاةِ ، أَنْ يَحْرِصَ عَلَى كَسْبِ الْقُلُوبِ ، أَنْ يَحْرِصَ عَلَى بِنَاءِ عَلَائِقِقَ إنسانيةٍ ، عَلَاقَاتٌ ثَمَنُهَا كَسْبُ مَوَدَّةٍ ، كَسْبُ مَوَدَّةٍ تَدُومُ وَلَوْ حَالَتْ بَيْنَهَا الْغَنَائِمُ وَالْمَوَائِدُ ، فَتِلْكَ الْعَلَاقَاتُ تَدُومُ لِأَنَّهَا عَلَاقَاتٌ لَمْ تَرْتَبِطْ بِفُتَاتِ الْأَرْضِ الْفَانِي ، عَلَاقَاتٌ تَدُومُ لِأَنَّهَا لَمْ تُبْنَى عَلَى لِقَاءٍ عَابِرٍ ، أَوْ فُرْصَةٍ طَارِئَةٍ صَنَعَتْهَا الْمَوَاعِيدُ الْكَاذِبَةُ ، عَلَاقَاتٌ تَدُومُ لِأَنَّ أَصْحَابَهَا يَجْلِسُونَ بِصَفَاءِ الْقُلُوبِ ، يَجْلِسُونَ لَا يُوَظِّفُونَ الْخِدَاعَ مَعَ جُلَسَائِهِ ، شَامَةُ الْقَوْمِ تَنْجَذِبُ إِلَيْهِمْ الْأَرْوَاحُ دُونَ مَشَقَّةٍ ، فَالصِّدْقُ يَتَفَطَّرُ مِنْ قُلُوبِهِمْ لَا مِنْ أَلْسِنَتِهِمْ .
وَلِهَذَا . . أَنْ تَسْمَعَ لَهُمْ تَطْرَبُ الْأُذُنُ ، مَنْطُوقُهُمْ صَدَقَ ، وَ حَرِيٌّ أَنْ تَكَلَّمُوا صَدَّقْنَاهُمْ ، وَإِنْ شَرَحُوا فَهِمْنَاهُمْ ، فَرْقٌ كَبِيرٌ بَيْنَ الْعَلَاقَاتِ الْعَابِرَةِ الْمَوْسِمِيَّةِ وَبَيْنَ الْعَلَاقَاتِ الضَّارِبَةِ فِي الْأَرْضِ ، مِثْلُ الشَّجَرَةِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي تُعْطِي الثَّمَرَ دُونَ مُقَابِلٍ ، دُونَ أَنْ تَقْبِضَ الثَّمَنَ ، فَهِيَ تَجُودُ وَ تَمْنَحُ بِطَبْعِهَا وَ شِيمَتِهَا كَسْبُ الْقُلُوبِ .
وَلِهَذَا . . أَنَّ الَّذِي يُرِيدُ كَسْبَ الْقُلُوبِ ، يَرَى أَنَّ مَيْدَانَهُ اسْتِبَاقُ الْخَيْرِ فِي مَيْدَانِهِ ، يَرَى أَنَّ مَيْدَانَهُ نَيْلُ الْأَجْرَ مَعَ أَصْحَابِهِ ، فَالَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْقُلُوبَ لَا يَبِيعُونَ الْهَوَى ، لَا يَبِيعُونَ الْوُعُودَ ، يَرَى أَنَّ مَيْدَانَهُ جَمْعُ الْكَلِمَةِ لَا تَفْرِيقُ الصُّفُوفِ ، يَرَى مَيْدَانَهُ ضَرْبَ الْمَوَاعِيدِ فِي الْمَيْدَانِ لِصِنَاعَةِ بَسْمَةٍ دَائِمَةٍ ، يَرَى مَيْدَانَهُ كَسْرَ الْجُمُودِ الْمُخَيَّمِ كَالطَّيْفِ ، يَكْشِفُ الْحُجُبَ الْمَضْرُوبَةَ فِي الْأَذْهَانِ ، يَطْرُقُ أَبْوَابَ الْحَيَارَى يَبْعَثُ فِي نُفُوسِهِمْ الْأَمَلَ .
وَفِي آخِرِ الْمَقَالِ أَنْقُلُ لَكُمْ هَذِهِ اللَّطِيفَةَ الْمَنْقُولَةَ فِي أَدَبِ كَسْبِ الْقُلُوبِ لَطِيفَةً تَحْمِلُ الْعِبَرَ " لِلْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
يُحْكَى أَنَّ يُونُسَ بْنَ عَبْدِ وَهُوَ أَحَدُ طُلَّابِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ اخْتَلَفَ مَعَ فِي مَسْأَلَةٍ أَثْنَاءَ إِلْقَائِهِ دَرْسًا فِي الْمَسْجِدِ . . . ! !
فَقَامَ يُونُسُ مُغْضَبًا وَتَرَكَ الدَّرْسَ ، وَذَهَبَ إِلَى بَيْتِهِ !
فَلَمَّا جَاءَ اللَّيْلُ ، سَمِعَ يُونُسُ صَوْتَ طَرْقٍ عَلَى بَابِ مَنْزِلِهِ . ! !
فَقَالَ يُونُسُ : مَنْ بِالْبَابِ . . . ؟ قَالَ الطَّارِقُ : مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ ! ! قَالَ يُونُسُ : فَفَكَّرْتُ فِي كُلِّ مَنْ كَانَ اسْمُهُ مُحَمَّدَ بْنَ إِدْرِيسَ إِلَّا الشَّافِعِيَّ !
قَالَ : فَلَمَّا فَتَحْتُ الْبَابَ ، فُوجِئْتُ بِهِ ،
يَا يُونُسُ تَجْمَعُنَا مِئَاتُ اَلْمَسَائِلِ ، وَتُفَرِّقُنَا مَسْأَلَةٌ ! ! ؟ )
وسوم: العدد 1098