حاورني ولست خصمك

إِلَى كُلِّ مَنْ يُحَاوِرُ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي يَعْمَلُ فِيهَا النَّظَرَ ، وَ الَّتِي تَخْضَعُ لِلْمَصْلَحَةِ الْمُرْسَلَةِ ، فَعَلَى الْمُحَاوِرِ أَلَّا يَشُدَّ وَ يَتَطَرَّفَ أَوْ يَتَعَصَّبَ لِرَأْيِهِ مَعَ مَنْ يَتَبَادَلُ مَعَهُ الرُّؤَى وَ الرَّأْيَ .

فَغَيْرٌ مَقْبُولٌ فِي الْحِوَارِ خَدْشُ سُمْعَةِ الْمُحَاوِرِ حِينَ تَتَعَارَضُ وُجُهَاتُ النَّظَرِ .

فَغَيْرٌ مَقْبُولٍ فِي الْحِوَارِ اسْتِعْمَالُ الْأَلْفَاظِ الْجَارِحَةِ الَّتِي تَنَالُ مِنْ قَدْرِ وَ قِيمَةِ الْمَحَاوِرِ .

وَ غَيْرِ مَقْبُولٍ فِي الْحِوَارِ اسْتِحْضَارُ السَّوَابِقِ وَ هَتْكُ الْمَسْتُورِ .

وَ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الْحِوَارِ مُنَاقَشَةُ الْمَوْضُوعَاتِ الْمُتَخَصِّصَةِ ذَاتِ الطَّابَعِ الْعِلْمِيِّ وَ الَّتِي تَحْتَاجُ لِأَهْلِيَّةٍ وَ دِرَايَةٍ وَ خِبْرَةٍ سَابِقَةٍ مَعَ مُحَاوِرٍ لَا يَمْتَلِكُ نَفْسَ الْمُؤَهِّلَاتِ .

وَ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الْحِوَارِ مُقَابَلَةُ الْمَحَاوِرِ بِالتَّعَصُّبِ الْمَذْمُومِ لِلرَّأْيِ أَوْ الْأَفْكَارِ الْمَعْرُوضَةِ ، حَتَّى لَوْ ظَهَرَ الْحَقُّ الْبَيِّنُ عِنْدَ الْمُخَالِفِ .

وَ الْغَيْرِ مَقْبُولٍ فِي الْحِوَارِ نُشُوءُ قَطِيعَةٍ أَوْ مُخَاصَمَةٍ أَوْ فُجُورٌ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْمُنَاقَشَةِ أَوْ انْسِدَادِ الْأُفُقِ .

 وَ غَيْرِ مَقْبُولٍ فِي الْحِوَارِ تَجَاوُزُ الْقَوَاسِمِ الْمُشْتَرَكَةِ وَ التَّدَخُّلَاتُ الْمَوْجُودَةِ بَيْنَ الرُّؤَى وَ الْأَفْكَارِ ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْرَى مُنَاقَشَاتٌ وَ لَا تَكُونَ هُنَاكَ أَرْضِيَّةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْمُحَاوِرِينَ أَوْ اسْتِخْلَاصُ مُحَصِّلَةٍ مِنْ الْجَوَامِعِ الْمُشْتَرَكَةِ .

وَ غَيْرِ مَقْبُولٍ فِي الْحِوَارِ نِسْيَانُ الْفَضْلِ بَيْنَ الْمُتَحَاوِرِينَ ، فَتَذْهَبُ تِلْكَ الْجَلَسَاتُ الْحِوَارِيَّةُ فَضْلَ الْمُوَدَّاتِ ، وَ الْوَسَائِجِ وَ الرَّوَابِطِ الْإِنْسَانِيَّةِ ؛ فَسُلُوكُ الْحِوَارِ قِيمَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ رَاقِيَةٌ .

وَ غَيْرِ مَقْبُولٍ فِي الْحِوَارِ أَنْ يُخْتَمَ بِتَبْدِيعٍ أَوْ تَفْسِيقٍ أَوْ هِجْرَانٍ أَوْ قَطِيعَةٍ ؛ فَالْقَصْدُ مِنْ الْحِوَارِ تَقَارُبُ الرُّؤَى وَ وُجُهَاتِ النَّظَرِ بَيْنَ الْمُخَالِفِينَ لَا نُشُوءُ قَطِيعَةٍ .

وَ كَعَادَتِي دَائِمًا أُحِبُّ تَرْطِيبَ الْمَقَالِ بِبَعْضِ اللَّطَائِفِ ، وَ بَعْضِ جَمَالِيَّاتِ أَخْلَاقِ عُلَمَائِنَا الْإِجْلَاءِ فِي الْحِوَارِ وَ الْمُنَاظَرَةِ ، عَلَّنَا نَسْتَلْهِمَ مِنْهَا الْفَوَائِدَ ، وَ حَتَّى نَتَعَلَّمَ أَدَبَ الْخِلَافِ . . . . . .

تَحَدَّثُنَا كُتُبُ التَّارِيخِ بِأَنَّ " يُونُسَ بْنَ عَبْدِ الْأَعْلَى " كَانَ أَحَدَ طُلَّابِ [] الشَّافِعِيِّ . .

اخْتَلَفَ مَعَ أُسْتَاذِهِ [] " مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ " فِي مَسْأَلَةٍ ، أَثْنَاءَ إِلْقَائِهِ دَرْسًا فِي الْمَسْجِدِ . .

فَقَامَ " يُونُسُ " غَاضِبًا . . وَتَرَكَ الدَّرْسَ . . وَذَهَبَ إِلَى بَيْتِهِ . .

فَلَمَّا أَقْبَلَ اللَّيْلُ . . سَمِعَ " يُونُسُ " صَوْتَ طَرْقٍ عَلَى بَابِ مَنْزِلِهِ !

فَقَالَ يُونُسُ : مَنْ بِالْبَابِ . . ؟ قَالَ الطَّارِقُ : مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ قَالَ يُونُسُ : فَتَفَكَّرْتُ فِي كُلِّ مَنْ كَانَ اسْمُهُ مُحَمَّدَ بْنَ إِدْرِيسَ إِلَّا الشَّافِعِيَّ . .

قَالَ : فَلَمَّا فَتَحْتُ الْبَابَ ، فُوجِئْتُ بِهِ . .

فَقَالَ [] الشَّافِعِيُّ :

يَا يُونُسَ ، تَجْمَعُنَا مِئَاتُ الْمَسَائِلِ وَتُفَرِّقُنَا مَسْأَلَةٌ ! !

يَا يُونُسُ ، لَا تُحَاوِلْ الِانْتِصَارَ فِي كُلِّ الِاخْتِلَافَاتِ . . فَأَحْيَانًا " كَسْبُ الْقُلُوبِ " أَوْلَى مِنْ " كَسْبِ الْمَوَاقِفِ " . .

يَا يُونُسَ ، لَا تَهْدِمْ الْجُسُورَ الَّتِي بَنَيَتْهَا وَعَبَرَتْهَا . . فَرُبَّمَا تَحْتَاجُهَا لِلْعَوْدَةِ يَوْمًا مَا . .

اِكْرَهُ " الْخَطَأَ " دَائِمًا . . وَلَكِنْ لَا تَكْرَهُ " الْمُخْطِئَ " . .

أَبْغِضْ بِكُلِّ قَلْبِكَ " الْمَعْصِيَةَ " . . لَكِنْ سَامِحْ وَارْحَمْ " الْعَاصِيَ " . .

يَا يُونُسَ ، انْتَقَدَ " الْقَوْلَ " . . لَكِنْ احْتَرَمَ " الْقَائِلَ " . . فَإِنَّ مُهِمَّتَنَا هِيَ أَنْ نَقْضِيَ عَلَى " الْمَرَضِ " . . لَا عَلَى " الْمَرْضَى

لَلَّهُ دَرَكُمْ . . أَيُّ سُمُوِّ أَخْلَاقٍ هَذَا . . ! ! !

 وقد وردت الْقِصَّةِ مَنْقُولَةٌ من كتاب سير أعلام النبلاء

 قال يونس الصدفي: ( ما رأيتُ أعقلَ من الشافعيِّ، ناظرتُه يومًا في مسألةٍ، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة )

وسوم: العدد 1103