ضوابط العلاقات مع الغير

الْإِنْسَانُ اجْتِمَاعِيٌّ بِطَبْعِهِ ، مَجْبُولٌ عَلَى فِطْرَةِ الْمُخَالَطَةِ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ هُنَاكَ ضَوَابِطَ نُحَدِّدُ هَذِهِ الْعَلَاقَةَ ، ضَوَابِطَ حِمَايَةٍ وَ دَعْمٍ ، ضَوَابِطَ مَحْرُوسَةٍ بِالِاحْتِرَامِ الْمُتَبَادَلِ ، ضَوَابِطَ تُحْتَرَمُ فِيهَا الْخُصُوصِيَّةُ ، أَسَاسُهَا التَّشَارُكُ النَّفْعِيُّ الَّذِي تَتَبَادَلُ مَعَهُ الْمَنَافِعُ ، لِهَذَا أَحْبَبْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ عَنْ تَجْرِبَتِي الشَّخْصِيَّةِ فِي الْمُخَالَطَةِ ، فَقَدْ وَجَدْتُ الْكَثِيرَ يَهْضِمُ حُقُوقَهَا وَ يَهْتِكُ أَسْتَارَهَا .

عَنْ نَفْسِي أَمِيلُ الْمُخَالَطَةَ الْإِيجَابِيَّةَ النَّفْعِيَّةَ ، فَلَا أُخَالِطُ مِنْ أَجْلِ الْمُخَالَطَةِ ، وَ سَدِّ حِرْمَانِ الْأَوْقَاتِ أَوْ نَقْصٍ فِي الْأَصْحَابِ وَأَوْ أَمَاكِنِ الْمُؤَانَسَةِ ، فَأَحْمَدُ اللَّهَ أَنِّي أَلِفْتُ صُحْبَتِي الْخُلْصَ مُنْذُ صِغَرِي ، نَقْضِي نَفَائِسَ الْأَوْقَاتِ مَعَهُمْ ، وَ مَعَ هَذِهِ الصُّحْبَةِ لَا تَخْلُو مِنْ مُرَافَقَاتٍ أُجْتِمَاعِيَّةٍ تُحَدِّدُهَا طَبِيعَةُ الْعَلَاقَةِ التَّشَارُكِيَّةِ ، فَهُنَاكَ صُحْبَةُ النِّضَالِ مَا زِلْتُ أَحْفَظُ لَهُمْ الْوُدَّ وَ الِاحْتِرَامَ ، لِأَنَّنَا نَتَقَاسَمُ الْكَثِيرَ مِنْ الْهُمُومِ الْمُشْتَرَكَةِ الْمَصِيرِيَّةِ .

كَمَا ارْتَبَطَتْ حَيَاتِي بِرِفَاقِ الْوَظِيفَةِ وَ الْعَمَلِ وَ هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ كَانَتْ وَ مَا زَالَتْ رَوَابِطَ مَتِينَةً ، عَزَّزَتْهَا مُشْتَرَكَاتُ الْمُهِمَّةِ الرِّسَالِيَّةِ ، رَغْمَ إِحَالَتِي عَلَى التَّقَاعُدِ ، فَمَازَلْتُ أَتَقَاسَمُ مَعَهُمْ الْكَثِيرَ مِنْ الِاهْتِمَامَاتِ كَحَقِّ التَّزَاوُرِ وَ تَفَقُّدِ أَحْوَالِ أَصْحَابِ الْفَضْلِ مِنْهُمْ ، بَلْ نَتَشَارَكُ فِي بَعْثِ رُوحِ التَّوَاصُلِ مِنْ خِلَالِ الْمُرَافَقَةِ لِلْمُسْتَجَدَّاتِ التَّرْبَوِيَّةِ .

مَعَ حَاجَتِي لِلرَّاحَةِ لِأَمْنَحَ نَفْسِي جُزْءًا مِنْ حَقِّهَا لِاشْتَغِلَ بِأَحْوَالِي الْخَاصَّةِ ، فَقَدْ وَجَدْتُ نَفْسِي تَنْخَرِطُ طَوْعِيًّا فِي مَجَالِ شُغْلِ حَيَاتِي مُنْذُ الصِّغَرِ ، فَقَدْ كُنْتُ لَصِيقَ الْكِتَابِ وَ مَجَالِسِ الْعِلْمِ وَ الْأَدَبِ وَ الثَّقَافَةِ ، مَثَّلْتُ تِلْكَ الٌهِوَايَةُ جُزْءًا مُهِمًّا فِي حَيَاتِي ، فَكُنْتُ لَا أَبْخَلُ دَعْمَ أَيِّ نَشَاطٍ يَصُبُّ فِي خِدْمَةِ الْأَدَبِ وَ الْعِلْمِ وَ الثَّقَافَةِ إِيمَانًا مِنِّي بِقُدْسِيَّةِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ ، فَأَحْمَدُ اللَّهَ أَنْ وَفَّقَنِي مُرَافَقَةَ ثُلَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ اهْتِمَامِي ، رَغْمَ صُعُوبَةِ مُهِمَّةِ الْمُرَافَقَةِ التَّشَارُكِيَّةِ .

هَذِهِ الْعَلَاقَاتُ الْإِنْسَانِيَّةُ وَ الِاجْتِمَاعِيَّةُ وَ الْوَظِيفِيَّةُ حَتَّى تَنْجَحَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ دَعَائِمَ قَوِيَّةٍ تُحَصِّنُهَا مِنْ الذُّبُولِ أَوْ الِانْحِرَافِ عَنْ الْقَصْدِ الْمَرْسُومِ .

عَنْ نَفْسِي كُنْتُ أَضَعُ نُصْبَ عَيْنَيَّ ، أَنَّنِي رَجُلُ رِسَالَةٍ وَ صَاحِبُ هَدَفٍ نَبِيلٍ فِي الْحَيَاةِ ، كُنْتُ أَحْرِصُ دَائِمًا أَنْ يَكُونَ هَمِّي الْأَسْمَى مَرْضَاةَ رَبِّي فِي صِنَاعَةِ أَيِّ عَلَاقَةٍ تَشَارُكِيَةٍ ، فَلَا تَكُونَ تِلْكَ الْعَلَاقَةُ عَلَى حِسَابِ دِينِي أَوْ مَبَادِئِي ، كَمَا لَا تَكُونُ عَلَى حِسَابِ وَطَنِيَّتِي ، فَهَذِهِ عِنْدِي مِنْ الْمُسَلَّمَاتِ الَّتِي لَا أَقْبَلُ التَّنَازُلَ عَنْهَا ، وَ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ أَنْ أَتَنَازَلَ عَنْ كَرَامَتِي الْإِنْسَانِيَّةِ .

عَنْ نَفْسِيٌّ لَا يُؤْمِنُ بِثَقَافَةِ الذَّوَبَانِ الَّتِي تَهْضِمُ حَقَّ الْكَائِنِ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ خُصُوصِيَّتِهِ أَوْ مُيُولِهِ وَهِوَايَاتِهِ ، أَوْ أُسْلُوبِ حَيَاتِهِ الْخَاصَّةِ ، أَوْ حَتَّى قَنَاعَتِهِ ، فَقَدْ وَجَدْتُ الْكَثِيرَ مِنْ الْعَلَاقَاتِ تَنْهَارُ وَ لَا يُكْتَبُ لَهَا دَوَامُ الْبَقَاءِ ، لِأَنَّهَا بِبَسَاطَةٍ تَجَاوَزَتْ حُدُودَ اللَّبَاقَةِ وَالْأَدَبِ فِي احْتِرَامِ حُرِّيَّةِ الْإِنْسَانِ الْخَاصَّةِ .

وَعَنْ نَفْسِي جَعَلْتُ لِي ضَابِطًا عَاصِمًا فِي عَلَاقَاتِي مَعَ الْغَيْرِ ، أَلَّا أَكُونَ قَاضٍ أَوْ مُفْتٍ يُصْدِرُ أَحْكَامَهُ عَلَى الْغَيْرِ ، فَمِنْ الْأَدَبِ وَاللَّبَاقَةِ احْتِرَامُ الرَّفِيقِ وَ الشَّرِيكِ ، فَلَا تُؤْذِيهِ بُرُعُونَةُ اللِّسَانِ أَوْ فَضَاضَةُ الْمُعَامَلَةِ التَّمْيِيزِيَّةِ الَّتِي تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ ، وَنَحْنُ فِي أَمَسِّ الْحَاجَةِ لِرَصِّ الصُّفُوفِ ، وَ تَقْوِيَةِ التَّعَاضُدِ التَّشَارُكِيِّ .

وَلَعَلَّ أَحْسَنَ شَيْءٍ تَعَلَّمْتُهُ فِي مَسَارِ حَيَاتِي أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَعَلَّمُ مِنْ خِبْرَاتِ غَيْرِهِ ، فَأَسَاسُ الْمُشَارَكَةِ قَبُولُ الْآخَرِ ، بَلْ الِاسْتِفَادَةُ مِنْ مَوَاهِبِ الْغَيْرِ ، تَعَلَّمْتُ أَنَّ أَسَاسَ النَّجَاحِ تَكَامُلُ الْجُهُودِ ، فَالْيَدُ الْوَاحِدَةُ لَا تُصْفِقُ ، وَ أَنَّ حُزْمَةَ الْأَعْوَادِ عَصِيَّةٌ عَنْ التَّكْسِيرِ ، هَكَذَا تَعَلَّمْنَا وَ هَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْغَيْرُ .

وسوم: العدد 1106