موروثنا الثقافي في الميزان
يُعَدُّ الْمَوْرُوثُ الثَّقَافِيُّ ثَرْوَةَ الْأُمَّةِ وَكَنْزَهَا الثَّمِينَ ، بَلْ هُوَ نِتَاجُ حَرَكِيَّةِ الْإِنْسَانِ وَتَفَاعُلِهِ بِبَنِّ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ ، يَتَوَارَثُهُ الْأَجْيَالُ جِيلًا فَجِيلٍ ، وَذَلِكَ التُّرَاثُ يُمَثِّلُ تَنَاغُمً حَيَاتِيٌّ لِلْمُجْتَمَعَاتِ ، يَظْهَرُ فِي الْعُمْرَانِ وَالْمَبَانِي وَالْآثَارِ الَّتِي حَوَتْهَا الْمَتَاحِفُ ، وَحَوَتْهُ رُفُوفُ الْمَكْتَبَاتِ مِنْ إِنْتَاجٍ فِكْرِيٍّ ، ظَلَّ شَاهِدًا عَلَى نُبُوغِ الْإِنْسَانِ عَبْرَ الْعُصُورِ ، هَذَا التَّمَيُّزُ الْإِبْدَاعِيُّ فَرَضَ وُجُودَهُ ، وَتَبَثُّ أَحَقِّيَّةَ دَيْمُومَتِهِ وَ بَقَائِهِ .
وَقَدْ وَجَدْنَا مَنْ يَقِفُ مَوْقِفَ عَدَاءٍ لِهَذَا التُّرَاثِ الْإِنْسَانِيِّ ، فَيَرْفُضُهُ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا ، فَيُعُدُّهُ الْبَعْضُ مِنْ مَظَاهِرِ الِاعْتِقَادِ وَالتَّعَبُّدِ ، وَيَعُدُّهُ آخَرُونَ مَظْهَرًا لِلشِّرْكِ وَالِانْحِرَافِ ، وَهَذَا الْمَوْقِفُ فِي اعْتِقَادِي يَحْتَاجُ مِنَّا لِوَقْفَةِ نَظَرٍ وَمُرَاجَعَةٍ ، بَلْ الْمُؤْسِفُ وَجَدْنَا الْبَعْضَ يُغَالِي فَيُغَالِطُ ، فَيَحْجُبُ الْحَقِيقَةَ ، فَيَضَعُ الْمُهْتَمَّ فِي خَانَةِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ، وَالْحُكْمُ الصَّادِرُ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْعَادَاتِ وَالتَّقَالِيدِ الَّتِي ارْتَبَطَتْ بِالْمَوْرُوثِ الْإِنْسَانِيِّ ، وَبَيْنَ الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ ، الَّتِي تُنَافِي الشِّرْكَ وَفَسَادَ الِاعْتِقَادِ .
وَقَدْ يَحْمِلُنِي بَسْطُ الْمَوْضُوعِ ، فَأَطْرَحُ هَذَا التَّسَاؤُلَ الْوَجِيهَ ، هَلْ الِاحْتِفَاءُ بِالْمَوْرُوثِ الِاجْتِمَاعِيِّ لِلتُّرَاثِ الثَّقَافِيِّ ، مَعْنَاهُ إِقْرَارُ الِانْحِرَافِ وَالْخَرَفَاتِ ؟ ! أَقُولُ : أَنَّ مَنْ يَعْتَقِدُ هَذَا فَهُوَ جَاهِلٌ ، كَوْنَ كُلِّ أُمَّةٍ لَهَا مَوْرُوثُهَا ، يَحِقُّ لَهَا الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ ، وَمَنْعُهُ مِنْ الِانْدِثَارِ وَالضَّيَاعِ ، بَلْ وَجَبَ عَلَى الْمُؤَسَّسَاتِ الرَّاعِيَةِ تَوْثِيقُهُ وَ حِمَايَتُهُ ، فَالْمُؤْسَفُ أَنَّ الْكَثِيرَ مِنْ عَادَاتِ شُعُوبِنَا اخْتَفَتْ فِي عِزِّ هَذَا التَّطَوُّرِ الْمَادِّيِّ . ، لَيْتَهَا تَعُودُ ، فَقَدْ اخْتَفَتْ ( التُّوَيْزَةُ ) كَمَظْهَرٍ تَضَامُنِيٍّ ، لِمَوْرُوثٍ ثَقَافِيٍّ مَغَارِبِيٍّ ، تَجْمَعُ فِيهِ الْعَائِلَاتُ ، وَتَتَعَاوَنُ فِيهِ الْجَمَاعَاتُ فِي الْمُجْتَمَعِ ، فِي الْحَيِّ أَوْ الْقَرْيَةِ مِنْ أَجْلِ الْمُشَارَكَةِ فِي أَعْمَالِ الْخَيْرِ مِنْ خِلَالِ مُسَاعَدَةِ مُحْتَاجِينَ وَالْفُقَرَاءِ أَوْ تَقْدِيمِ مُسَاعَدَةٍ لِمُعْدِمٍ لِتَرْمِيمِ مَنْزِلٍ أَوْ تَنْظِيفِ مَسْجِدٍ أَوْ الْمُسَاعَدَةِ جَنْيِ الْمَحَاصِيلِ الزِّرَاعِيَّةِ الْمُتَنَوِّعَةِ .
وَهَذَا الْمَوْرُوثُ حَقٌّ لَنَا احْيَاءَهُ وَبَعْثَهُ مِنْ جَدِيدٍ فِي مُجْتَمَعَاتِنَا الَّتِي مِنْ قِيَمِهَا التَّضَامُنُ وَالتَّعَاوُنُ .
وَلَوْ عُدْنَا لِاسْتِرْجَاعِ فَوَائِدِ الْمَوْرُوثِ الثَّقَافِيِّ ، فَقَدْ كَانَ سُوقُ عُكَاظٍ الْمُلْتَقَى الشِّعْرِيَّ وَالْفَنِّيَّ وَالتَّارِيخِيَّ ، كَانَ فَرِيدًا مِنْ نَوْعِهِ ، فَقَدْ كَانَ مَقْصِدَ الْمُثَقَّفِينَ وَالْمُهْتَمِّينَ بِمَرَاصِدِ الثَّقَافَةِ وَالْأَدَبِ ، بَلْ كَانَ بَاعِثَ أُنْسِهِمْ وَمُوَلِدَ إِبْدَاعِهِمْ ، فَأَضَفَ الْمَكَانُ رُوحَ الشَّاعِرِيَّةِ الْعَذْبَةِ ، وَالْقِيمَةَ الْمَعْرِفِيَّةَ وَالثَّقَافِيَّةَ فِي تِلْكَ الْمَرْحَلَةِ ، فِي بَعْثِ الْحَرَاكِ الثَّقَافِيِّ مِنْ خِلَالِ مَضْرِبِ النَّدَوَاتِ وَالْمُحَاضَرَاتِ وَالْأُمْسِيَاتِ الَّتِي عَزَتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ .
لِهَذَا عَلَيْنَا أَنْ نَنْظُرَ لِلْأَمْرِ مِنْ وُجْهَتِهِ الْإِيجَابِيَّةِ ، فَنَضَعَ الْيَدَ عَلَى الْجُرْحِ ، يُبَيِّنُ الْوَاجِبَ الَّذِي يَنْضَبِطُ بِهِ الْجُمْهُورُ فِي الِاحْتِفَالِ بِالْمَوْرُوثِ الِاجْتِمَاعِيِّ وَالَّذِي عَادَةً يَرْتَبِطُ بِعَادَاتٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ فِيهَا الْحَسَنُ ، وَفِيهَا الْغَثُّ ، وَالشَّرْعُ الْحَكِيمُ بَيِّنٌ فَاصِلٍ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ، وَالْمَسَائِلُ الْعَادَاتُ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا ، فَابْتِهَاجُ الْفَلَّاحِ بِمَوْسِمِ الْخَيْرِ ، أَوْ إِحْيَاءُ الثَّرَّاتِ لِلْأَجْيَالِ مِنْ خِلَالِ مَعَارِضِ الْفُنُونِ ، كَإِظْهَارِ فُنُونِ الطَّبْخِ وَ اللِّبَاسِ وَأَدَوَاتِ الْأَثَرِيَّةِ لِلْأَجْدَادِ ، لَا أَحْسَبُ الشَّرْعَ يُضَيِّقُ فِيهَا أَوْ يُحَرِّمُهَا ، كَالْمَدِيحِ وَ الْغِنَاءِ الشَّعْبِيِّ الْمَوْزُونَةِ بِالْفَضَائِلِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ ، أَمَّا أَنْ يُحِيَّ عَادَاتِ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَرْوَاحِ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ وَجَبَ تَغْيِيرُهَا وَبَيَانُ مَفَاسِدِهَا وَمَنْعُهَا .
وَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ وَأَقَرَّ الْحَسَنَ فِي عَادَاتِ قُرَيْشٍ ، فَأَقَرَّ لَعِبَ الْأَحْبَاشِ فِي الْمَسْجِدِ وَ أَقَرَّ التَّسَابُقَ ، كَمَا أَقَرَّ لِبَنَاتِ النَّجَّارِ الْمَدِيحَ ، وَأَقَرَّ لِلصَّبَايَا الِابْتِهَاجَ فِي حِجْرِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا .
فَعَلَى الدُّعَاةِ وَ الْأَئِمَّةِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ مَا ارْتَبَطَ بِالْمُعْتَقَدَاتِ ، وَمَا اتَّصَلَ بِالْعَادَاتِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَارْتَبَطَ بِالْمَأْلُوفِ الْمُبَاحِ .
وسوم: العدد 1111