في غار حراء
فيصل عبد العزيز الزامل
صعدت ذات مرة الى غار حراء، في جبل النور بمكة المكرمة، وتمنيت لو أن آلة تصوير أخذت لقطة له من خارجه قبل 1400 سنة، وتبين اللقطة صورة لظهر رجل جالس باتجاه القبلة، رافعاً يديه إلى السماء قد فتح اليد اليسرى وضم أصابع قبضة اليد اليمنى ما عدا إصبعاً واحدة، ينادي بها الإله الواحد كما كان يفعل إبراهيم عليه السلام.
تبين اللقطة أن الرجل كان يواجه الكعبة المشرفة من ارتفاع شاهق 642 متراً ـ جلس وحيداً منفرداً في أيام شهر رمضان لا يدري كيف يتعبد هذا الإله الذي كان يعبده إبراهيم كما يقول الموحدون القلائل من سكان مكة وغيرهم، مثل ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة الذي كان يطوف بالكعبة قائلا: "الأثر يدل على المسير والبعرة تدل على البعير، سماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج، أفلا تدل على الخالق القدير؟".
كان محمد بن عبدالله يطوف بالبيت ويسمع كلام هذا الرجل الموحد ويردده في نفسه، ويرى من قريش إعراضاً عن التوحيد وإقبالاً على أحجار صماء يمنحونها من الإجلال ما لا تستحقه، فعزم على أن يعتزلهم في شهر رمضان ويختلي بنفسه في مكان يراهم منه، ولا يرى تصرفاتهم اللامنطقية، فازداد إعجاب قريش بمحمد الذي جمع في صفاته مع الأمانة عفة اللسان عما يرى وإقبالاً على طهارة نفسه، ولهذا ارتضوه حكماً بينهم عند إعادة بنائهم للكعبة فيمن يضع الحجر الأسود في مكانه.
دعا محمد بكساء غليظ وطلب أن يتقدم رجل من كل قبيلة ويمسك بطرف الكساء، ثم وضع هو الحجر بنفسه وسط الكساء ورفعوه جميعاً، وحمله محمد وثبته في موضعه الشريف بيديه الكريمتين.
حققت خلوة غار حراء لمحمد صلى الله عليه وسلم صفاء الروح وسكون النفس ووضوحاً في الرؤية بضرورة التغيير، ولكن كيف؟ لقد توافرت الرغبة والاستعداد ولم تتوافر الإجابة من عنده، ولكنها تنزلت من عند الخالق القدير الذي دعاه الموحدون القدماء في مكة، فجاء إليهم سيد الملائكة بالجواب العظيم من السماء "لا اله الا الله محمد رسول الله".
هناك، على ارتفاع شاهق لا صوت فيه إلا صفير الريح العابرة وعصافير قليلة مغردة، وفي فجوة بين مجموعة من الكتل الصخرية حدث اللقاء الأكثر تأثيراً في تاريخ البشرية، فجأة وقف جبريل على حافة الجبل وتقدم نحو صاحب الغار الذي نظر إليه طويلاً وقد عقدت المفاجأة لسانه، لم يزد الزائر الغريب على أن قال له "اقرأ" لم يجب بسبب المفاجأة، أعاد الزائر طلبه العجيب لرجل ليس في يده كتاب «اقرأ».
فكان الجواب "ما أنا بقارئ" فتكرر الطلب وبإلحاح شديد ومعه جذبة للطرف الأعلى من ثوب محمد، وبصوت حازم هذه المرة "اقرأ"، فأدرك محمد أنه لابد من إجابة ولكن بطريقة السؤال فقال له "ماذا أقرأ؟".
قال الزائر: (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم)، فقرأ محمد لأول مرة كلام الله الذي خلق الكون، وهاهو يعلمه ما لم يعلم، ويجيب عن سؤاله الذي جاء لأجله إلى غار حراء.
الطريق إلى الغار مليء بالصخور والشجيرات المتناثرة التي تجذب الماعز الجبلي الذي كان يمر أسفل الغار، إلا أن جميع هذه المشاهد تغيرت اليوم في نظر محمد وهو ينزل مسرعاً هذه المرة، فقد صعد إلى الجبل وهو رجل عادي، وهبط منه اليوم وهو نبي.