كنت أحلم بموت دافئ

أفنان شمس الدين ريحاوي

أفنان شمس الدين ريحاوي

أبي الحبيب...............

ما زالت الأرض تنبت بالأشجار.... وما زال البحر يعج بالأمواج.... وما زالت الشمس تسطع بالأشعة الذهبية المتناثرة على أزقة سوريا الحبيبة.... ما زالت العصافير تشدو على ألحانها الغناء.... وما زلت أقف عند النافذة منتظرا عودتك.... ما زلت أحلم بلعب الكرة معك... كل صباح أنظر إلى بحر اللاذقية آملا أن يحمرّ كي تعود...... هذا ما قالته لي أمي... ستعود عندما يصبح البحر أحمرا.... ما زال أزرقا يا أبي يعج بالأمل... ما زالت أصوات الحياة تصدر منه مبشرة بالحلم القريب......

 كان شتاؤنا قارصا جلب معه العواصف القوية ولم نجد غير تكبيرات المآذن لتغمرنا بالدفء، ليلنا مظلم لا ينيره سوى متفجرات نارية لا أعرف سببها، فالعيد بعيد لما يحتفلون به الآن..!؟ مدرستي مدمرة بفعل دبابة ضخمة تجول في حينا، أصوات مرعبة تصدح عاليا كل حين تخيفني أنا وأخوتي، نحيب الأمهات يعلو كل لحظة ليضيف قصة جديدة إلى قصص سوريا المؤلمة، صديقك جارنا ملقى على سرير ملطخ بالدماء، يتمنى وجودك معه لتعالجه، بكاء أخي الصغير يحرمني النوم، يريد حليبا أحضره له يا أبي، ما زال غصن الزيتون الذي أهديتني إياه غضا يا أبي... كل صباح أسقيه بماء بحر اللاذقية المالح فقد جفّ ماؤنا العذب إثر هواء العذاب، يأبى النمو فالملح يخترق فروعه محاولا إخضاعه لسلطة الذبول... لن يذبل... لن يستسلم... فغصن الزيتون دائم العطاء... دائم النمو... يأبى الذل والخضوع... رغم قسوة ملح البحر سينمو... أجل يا أبي ستعود لترى كيف صار غصنك شجرة باسقة تحدت ملح البحر، أيامنا تمر خالية من ألوان الحياة، لكني أحتفظ بعلبة ألواني كي نرسم ونلوّن معا عندما تعود فأمي تمنعني من الرسم خوفا من تطاير الورق إلى أماكن الوحوش، هل تفترس الوحوش الورق يا أبي..؟!! ...... " أنقذونا " كتبها جارنا بدماء ابنه الصغير على حائط جدار الحي، وهبت رياح الشتاء لتنتزعها من مكانها وتحمل قطراتها إلى المدن الأخرى حيث سقطت مع المطر........ مات الاحساس وانعدمت الإنسانية وأضحت أيامنا حلقات مسلسل يومية يشاهدها الناس بصمت ثم يعلقون مجرد مسلسل كاذب..... هل نكذب بالدم يا أبي...؟!!....... لن ألعب الكرة مع صديقي أحمد ثانية فقد بترت ساقه إثر شيء ضخم اقتحم منزله فجأة... مع من ألعب يا أبي..؟؟ وكيف ألعب وصديقي حزين عاجز عن اللعب..؟؟ الصور متشابهة في اللاذقية وحمص وحماة ودرعا وإدلب وغيرها فهنا ألم وهناك ألم وبينهما شمعة أمل تضيئ دربنا إلى مستقبل باسم، لن نعود حتى النصر والله القادر معنا الأرض أرضنا... سوريا لنا... عاشت سوريا حرة أبية... هذا ما يردده شباب حينا كل صباح ومساء بقوة... بعزة... بكبرياء... فالضربة القوية تكسر الزجاج وتصهل الفولاذ، الأيادي البيضاء ترتفع إلى السماء كل لحظة منادية رب العباد أن يمحق هذا الليل ليغمر دفء الشمس تراب هذا الوطن .

 ما زال البحر أزرقا يا أبي... يكسّر الصخر بقوة أمواجه قهرا على صديقه التراب، كنت أنظر إليه عندما دقّ الباب، أجئت يا أبي بعد طول الغياب..؟؟ كنت حلما يا أبي وكانت وحوش مفترسة اقتحمت بيتنا بشراسة وحشية هي الحقيقة، أشعلوا النيران وحاصرونا بها... صرخوا في وجوهنا البريئة..... " إلى الموت " ، في حضن أمي اختبأنا أنا وأخوتي، لا طريق إلى الحياة فالنار تهاجمنا من كل ناحية... أحرقت كل أمل... كل فرح... كل ذكرى قضيناها سويا... حولت بيتنا الجميل إلى حطام وحجار، لطالما حلمت بموت دافئ على صدرك يا أبي... كي أشعر بنبضات قلبك... بحنان حضنك... بنعومة يدك... بصدق دموعك... لكني على أرض منكوبة كل شيء فيها حلم ... حتى الموت الدافئ حلم............ نظرت إلى غصن الزيتون من بين النيران والدموع... ما زال واقفا يأبى الاحتراق... رؤية شموخه وعزته وكبريائه أدخلت الفرحة الأخيرة إلى قلبي .....

 إن عدت يا أبي فلا تحزن.... فبراعمك الوردية عصافير في جنة رب السماوات والأرض... سيظل غصن الزيتون الأخضر واقفا يأبى السجود للظلم... سينمو وينمو وينمو ليعطي شجرة... والشجرة ستعطي الزيتون... والزيتون سيصنع فرح الوطن... والوطن سينعم بدفء الشمس وخضار الزيتون بعد ليل طويل مظلم ... ستحيى سوريا من جديد بعد الدموع والدم... فلا تحزن يا أبي . ابنك الصغير: محمد الضايع