نصفي الحمصي

ناديا مظفر سلطان

عندما كانت تطالعني "الرستن" ومياهها الغافية ، في أحضان سدّها العريض ، كنت أعرف أنني قد اقتربت من أرض السعادة ، وموطن الجمال. أما عندما  تلوح لافتة قديمة، علاها الاصفرار، كتب عليها "شكري عواد "مصوّر، و تنعطف بنا السيارة  من شارع الدبلان إلى جهة الشمال ، كان وجيب قلبي يتسارع ، استعدادا لفيوض غامرة "تزهق الأنفاس" من أفانين  الحفاوة والحب والحنان ، في أحضان جدتي "أم سليمان"، وأصداء ضحكة خالي الصافية بهجة وحبورا لقدومنا "بنات الأخت الغاليات"، وعبارات الترحيب من خالاتي باللهجة الحمصية المميزة.

كان الزمن يسافر على جناح طائر خرافي السرعة ، منذ بداية العطلة الصيفية من كل عام وحتى انقضائها ، وحلول أوان العودة إلى حلب مع قدوم عام دراسي جديد.... فأعود وجعبة الذكريات ، تفوح منها شذى فطائر" الشمرة والمحلب" ، وخلطة الزعتر، ورائحة أرض حمص الطيبة من آنية الماء الفخارية .  

  كانت شمس الصباح تداعب أغصان أشجار الأكاسيا والصفصاف وهي  تنهل باستحياء من مياه الساقية التي تخترق المدينة بجسورها الحجرية الصغيرة  .   وفي الأصيل  كانت أشجار الياسمين في الدور العربية القديمة  تنوء بأزهارها فنجمع ما تساقط منها  أطواقا تزين أعناقنا الصغيرة ، أما في المساء فكان شراء "العرنوس الحمصي" من بائع العرانيس الساهر على ضوء قنديل الزيت، طقسا آخر مباركا من طقوس عطلة الصيف .

أوقات الصيف في ظلال حجارتها السود ، كان ، ولازال لها عبق عجيب في خاطري ، ومذاق فريد لا يبارح الخيال ، تلك الأوقات هي  المعين الثر الأول لكل منابع الجمال في مخيلتي ...وهي السر الحقيقي وراء كل عطاء ، فلا عجب أن حملت لها كل معاني الولاء والعرفان ، لأزقتها وحاراتها، لحجارتها السوداء وأسقفها القرميدية الحمراء ، لأهلها الأذكياء الطيبين البسطاء. ..

سنين طويلة وأنا أحمل في قلبي عشقا لها  لبهائها  وطيبها وصفائها وحنانها ، سنين طويلة وأنا أحسب أني قد وفيتها حقها لما أحمل في قلبي من عشق ، وفي ضميري من ولاء... أما اليوم فقد أدركت أن حمص الطيبة الحانية  لها أيضا قلبا شجاعا ، وجنانا صامدا ، وعزما لا يلين...

اليوم كل معالم المدينة الطيبة عصفت بها ريح الشر والطغيان ،فرائحة الفطائر والزعتر وعبير الياسمين هزمتها جحافل الدخان الأسود للبارود والرصاص، وآنية  الفخار امتلأت بالدماء عوضا عن الماء ، وقدر العرانيس دهسته دبابات حماة الديار ، وانطفأت في قنديلها شعلة الحياة ، فوارت زهرة شبابها تحت التراب .فما استكانت ولا استسلمت ،  حمص الاباء.

اليوم "كلّي "ينحني إلى "نصفي الحمصي" تبجيلا واكبارا، اليوم أقدم أسمى آيات الاحترام لك يا حمص الوديعة ، يا حمص الأبية ،       يا عاصمة الثورة السورية .