رسالة والدة شهيد
رسالة والدة شهيد...
تروي قصة ولدها الوحيد
عمار حمو
مع محاولاته و توسلاته المتكررة وافقت أن يشارك بالمظاهرات المناوئة للنظام لكن بعد أن ينتهي من امتحانات الثانوية العامة -البكالوريا.
...أرجوكم لا تلوموني فهو ابني الوحيد ..ربيته يتيما بعد أن توفي والده تحت التعذيب في سجون حافظ الأسد ..فقط لأن صديق زوجي كان ينتمي لحزب محظور في سورية…وكما تعلمون في سورية أنت لا تحمل وزرك فقط بل وزر غيرك أيضاً..كرست حياتي كلها له فقد رفضت الزواج مرارا و تكرارا فقط لأجله…لأراه كما تمناه والده الطبيب رحمه الله ..طبيباً مثله.. لقد كان عيناي التي أرى بهما و قلبي الذي أحيا به…
أتذكر اليوم الذي انطلقت فيه مظاهرة الحريقة في دمشق على خلفية إهانة شرطي لمواطن سوري كيف طرِب و أطربني بهتافه المتواصل الشعب السوري ما بينذل…وكيف كان يتكلم كمحنّك سياسي عن ضرورة كسر القوقعة التي نختبئ فيها خوفا من بطش آلِ الأسد..
و عندما بدأت المظاهرات في درعا شعرت بأنه سيطير فرحاً …طبعا ً منعته من التظاهر خوفاً عليه.. و بما أننا نسكن في بلدة من ريف درعا فقد كان من السهل عليه التملص من أوامري و المشاركة بالمظاهرات .. بعد أن واجهته بغضبٍ عارم ..حنون .. اتفقنا أن يشارك بالمظاهرات فور إنتهائه من امتحانات الثانوية العامة.. وافقت ..ليس فقط بسبب ضغطه المتواصل علي! بل أملاً مني أن يسقط النظام قبل فراغه من امتحاناته…
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن .. انهى فلذة كبدي امتحاناته .. و فور خروجه و زملائه من قاعة الإمتحانات بدؤوا مظاهرة صغيرة أعتقل فيها زملاءً له منهم صديق طفولته … عاد للبيت غاظبا ..حزيناً..قلقاً على صديقه فقد رأى وجهه مضجرا بالدماء أثناء إقتياد الأمن له..
اليوم الجمعة.. جهز ولدي نفسه للصلاة .. قبّل يدي و رأسي.. طلب الرضا مني .. كان قلبي ممتعضا …عذت بالله..وصيته بأن ينتبه لنفسه وألا يعرض نفسه للخطر..
مسرعاً خرج و كأنه كان خائفاً أن أتراجع.. لكن لا مجال للتراجع ..فقد وعدته..كنت قلقة جدا ذاك اليوم .. كان قلبي يخفق بشدة .. ونفسي تحدثني أن مكروها حدث لفلذة كبدي.. طردت هذه الأفكار بسرعة و أقنعت نفسي بأن كل شيئ سيكون على ما يرام..
بعد ساعة واحدة فقط سمعت تكبيرات تملأ الحي و تحيي الشهيد .. التكبيرات تقترب من بيتي ..لا ليس ولدي ..أرجوكم ابتعدوا …… دخل أخي حاملاً فلذة كبدي مضجراً بالدماء … لا هذا ليس ولدي ..سيدخل ولدي الآن متبسما كعادته.. لا أرجوكم ولدي بخير … اسودت الدنيا بعيني صرخت صرخة مذهولةً فجعة.. لا لا لا لااااا بكيت بحرقة .. باستنكار .. أخبرت الجميع بأن هذا ليس إلا كابوساً و سأصحى متخلصةمنه .. لكن..كان هذا واقعاً أليماً مريراً ..
فقدت ولدي اليوم …هكذا بكل بساطة …برصاصٍ متفجر أطلقه قناص على صدره لتفجر قلبه البريئ الذي لم يكمل ربيعه السابع عشر بعد…قبلته مودعةً إياه .. ابتسامته المرتمسة على وجهه الملائكي لن أنساها ما حييت …. خرج نعشه من البيت بموكبٍ مهيب لكن روحه بقيت معي ..تواسيني..أن أماه.. اصبري..إنني في العلياء مع الشهداء…
لا أدري كم اسبوع مرَّ على استشهاد فلذة كبدي ..فقد فقدت الإحساس بالأيام و بالحياة كلها بفقدانه .. استلمت اليوم شهادته فقد نجح و بجدارة بإمتحانات الشهادة الثانوية العامة ..تلزمه علامتين فقط من العلامة الكاملة .. علقت شهادته المبللة بدموعي على الحائط .. رأيت فيها عيناه تلمعان فرحاً و كأنه يقول .. ها أنا يا أماه قد نلت الشهادتين ..
مسحت دموعي .. ودعت روحه المحلقة في البيت..خرجت مسرعة فأنا على موعدٍ لتنظيم مظاهرة نسائية تخرج يومياً جنباً لجنب مع الرجال فقد تعاهدنا كلنا أن نكمل الطريق الذي خطه شهدائنا بدمائهم ..سنكمله للأخير لن نكل ولن نمل.. حتى ننال حريتنا …ونكسر قيود سوريا الجريحة ..سوريا المكلومة بأبنائها الشهداء…أرجوكم ادعوا لي بالشهادة فقد اشتقت لولدي … لا
أدري …هل تُرانا نلتقي..؟…