لا تبكي يا زهرة البنفسج

أفنان شمس الدين ريحاوي

وسط ظلام الليل الدامس ، و وسط هدير الرياح ، التي تهب لتخطف الأوراق اليابسة

و تسافر بها بعيداً ، معلنةً بذلك عن بدء الربيع ، حيث تكاثفت قطرات المياه على النوافذ ، لتروي قصة الربيع ، التي يفرح الصغار بالرسم على زجاجها ، و يُسرّ الأحباب بكتابة الرسائل بين أطرافها ، و يبتسم الأصدقاء ببصم الذكريات في وسطها ، بينما ينقش القلب سؤاله المحيّر ، الذي عجز التاريخ عن إجابته ،و ضعفت الكتب عن سدّ صوابه ، و احتارت الألسن في إيجاد حله..........

 متى سينضج الخبز....؟؟؟ كان أصعب سؤال يكتبه القلب على بلورات النافذة ، دون مجيب .

 و راح القلب يتذكّر رائحة تلك الزهرة الفوّاحة ، فسرعان ما يحلّق بخياله في روح نعيمها ، و على رحيق عسلها ، و بين ألوان بتلاتها البنفسجية ، فتعانق ذكرياته جمالها الأخّاذ ، و روعتها الخلابة ، و أضواءها المستمدة من شعاع القمر، و بعد لحظات ....... يدرك أن صوره في تلك الزهرة باتت سراباً في بحر النسيان ، و أنّ هناء استرخائه تحت ظل حنانها ، أضحت أحلاماً لا ترى حتى على الوسائد .

 فيشتعل القلب .... و تثور جمرات الألم ، فتنهمر دموعه لتفجر حرقة الفراق ، و يموج بحره الأحمر ليرسم ترانيم الحزن و الأسى على ما حلّ بحبيبته " زهرة البنفسج" ، من المطر الأسود الذي يتساقط عليها كل ليلة ، فيلوّثها بملوحته القاسية ، و يضعفها بطعمه السام ، إلى أن تصعد أرواح الفراشات والعصافير إلى بارئها، بعد أن تركت دماءها الطاهرة أمانة ً عند التراب ، ليسقي بها زهرتنا المريضة بتلك الأملاح ، و في جعبته آمال في عودتها إلى نبض الحياة ، بعد أن أوشكت على الذبول .

 و فجأة ........ يخترق صوت بعيد أعماق القلب ، فيصمت حزنه متعجباً ، و تحبس دموعه مندهشة ، فإذا بلحن البكاء البعيد يعلو شيئا فشيئا ، و إذا برائحة العطر الممزوجة بالدموع تقبّل وجنتي القلب ، و كأن الرائحة هي رسالة إلى كل فؤاد بعيد عنها ، و إلى كل حسام أخذ بالقوة منها ، و إلى كل عين انتزعت من أحضانها .......

صوت حزين ينادي : عودوا ........ عودوا ...... عودوا يا أسودي لتروا كيف لوّثوا ترابي الطاهر بتاريخهم الأسود ، بعد أن وطئوا بأقدامهم القذرة عليه ...... عودوا يا صقوري لتشاهدوا كيف صارت أرضي جدباء ، بعد أن أحرقوا أشجاري و اقتلعوا ورودي بضوء برقهم و صوت رعدهم ....... عودوا فأنا زهرة تحت غيوم العذاب ، أوشكت على الموت بعد توقف مطر اللقاء عن التساقط ، فقد حملته غيوم الفراق إلى مكان بعيد..... عودوا يا من افتخرت زهرة البنفسج بسطوركم المنحوتة في كتب التاريخ ، و بصماتكم المرسومة في سماء المجد ......... عودوا إليّ فقد أضحيت مبحوحة الحنجرة بعد أصوات النداء و آلام البكاء .

 هزت تلك الكلمات أدق وتر في وجدان القلب ، فنكأت جرحاً قديماً يأبى أن يندمل ، و نبشت ذكريات الماضي لتكشف عن جمرة حمراء مفعمة بدموع الغربة ، ففجرت بذلك بركاناً هائلاً من الألم، قذفت به القلب بحمم اللوعة و الحسرة و الأسى ، فعزف لحن الغربة و الحرمان .

 لكن القلب بدأ ينهض من جديد ، محاولا أن يوقف دموع الزهرة ، و يداوي طعنه الأليم الذي ينزف بالأسى و الشجون ، و يخفّف عنها و عنه هموم الغربة مناديا ً :

 لن تفرغ كنانة الأمل ، مهما طال الزمن ، و ستبقى شعلة تتألق في حياتنا ، و تنير دروبنا إلى مستقبل باسم ، و ستحين لحظة من لحظات القدر السعيدة ، ستأتي مترعة بالبهجة و السرور ، مفعمة بالفرح و السرور، مثقلة بدموع اللقاء ............ سنعود إليك يا زهرتنا مهما طال الليل ، و مهما خيّمت الغيوم السوداء التي تحجب نور الشمس و أضواء النجوم ، ومهما تأخر قوس القزح عن الظهور ، و لابدّ أن يولد الفجر الباسم العظيم الذي انتظره كل فؤاد بعيد عن وطنه ، و حلم به كل خيال خصب ارتحل من بلاده .

و لابدّ أن تعودي مثلما كنت ، زهرة بنفسجية متألقة ، يتزاحم النحل لامتصاص رحيقها ، و تتسابق الطيور لاستنشاق عطرها ، و تختال في دلال بفتنتها الخلابة ، فتلفت الناظر ، و تشده ليستمتع بخضرتها البهية، و يغرف من عبقها الفواح ، فيغسل به روحه المتعبة من أدران الحياة .

فلا تبكي يا زهرتنا ......... لا تبكي يا وطني .