مرابطة أو مصابرة
يحيى بشير حاج يحيى
مواقف البطولة في تاريخنا الإسلامي كثيرة ورائعة ، وقد عرف الرجال والنساء على السواء قيمة الحق ، وعظمة الدوران في فلكه ، والثبات عليه ومن هذه المواقف أن عبدالله بن الزبير دخل ذات يوم على أمه أسماء بنت أبي بكر ـ قبل مقتله بعشرة أيام ـ يعودها أثناء مرض ألمّ بها ، وقد طعنت في السن ، وفقدت بصرها فقال لها :
إن في الموت لراحة ،
فقالت : " لعلك تمنيته لي !!.. وما أحب أن أموت حتى تأتي عليّ إحدى حالتيك : إما قُتلت فأحتسبك ، وإما ظفرت بعدوك فقرت عيني بك " .
فمضى لسبيله ، ثم دخل المسجد صبيحة اليوم الذي قتل فيه يشكو لها خذلان أصحابه له ، ومفارقة أقرب الناس إليه ، وكان قد نكب بمقتل أخيه مصعب الذي أبى الفرار ، وأصر على متابعة القتال .
فقال عبدالله لها :
" خذلني الناس حتى ولدي وأهلي ، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا ، فما رأيك " ؟
فقالت : أنت ـ يا بني ـ أعلم بنفسك ، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض عليه فقد قتل عليه أصحابك ... وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت ، أهلكت نفسك ، وأهلكت من قتل معك . وإن قلت : قد كنت على حق فلما وهن أصحابي وهنت ، فليس هذا فعل الأحرار وأهل الدين . وكم خذلوك في الدنيا ؟ القتل أحسن ".
فاقترب ابن الزبير منها يقبل رأسها وقال :
" هذا ـ والله ـ رأيي الذي قمت به داعياً إلى يومي هذا ، لكنني أحببت أن أعلم رأيك فازددت بصيرة مع بصيرتي " .
ترى أليس من المحتمل أن يصيب الوهن عزائم أهل الحق ؟ فإن كان لهم من يشد عزائمهم ، كما شدت أسماء من عزيمة ابنها ، اتضحت أمامهم الرؤية ، وتابعوا السير في طريقهم .
وتستوقفنا عبارات أسماء بنت الصديق التي تربت في بيت دار مع الحق ، ووقف إلى جواره في أشد الساعات حلكة ورعباً . لتقول للذين يوهنون عزائم أهل الحق والجهاد :
ـ ما هكذا يكون أهل المبادئ ، ولميتة على الحق ، وفي ركابه خير من حياة ذليلة ، ثمنها ضياع الدين ، وانتكاس الفكرة ، وإن السلامة الشخصية ليس معناها سلامة الدعوة ، والقضايا الشخصية والحرص على سلامتها مستقبلاً هو أمر في علم الغيب ، فلا يجب أن تعمى الأبصار عن حقيقة الأخطار . وثواب المصابرة لا يقل عن ثواب المرابطة ، ومن لم يكن مرابطاً فليكن مصابراً .