جائزة جكرخوين
كانت نسمة حبّ لامستْ ذاكرة المكرّمين
نارين عمر
[email protected]
قبل فترةٍ أخبرني شاعرنا العزيز محمد
علي حسّو أنّه كان يمشي في جنازةِ شاعرنا سيداي كلش حينما ناداه أحد الحضور قائلاً:
وا...محمد علي حسّو عندما تموتُ أنتَ
أيضاً سيمشي خلف جنازتك هذا الحشدُ الجماهيريّ الكردي.
ثمّ أطلق شاعرنا ضحكة عريضة وقال:
في مناسبةٍ أخرى قال لي أحدهم: يا محمد
علي , نحن الكرد لا نعرفُ قيمتكما وقدركما /أنتَ والفنّان سعيد يوسف/ إلا بعد أن
تموتا , وحينها سيجتمعُ كلّ مَنْ أحبّكما ومَنْ عارضكما واستخفّ بنتاجكما , وسوف
يتسابقون على مَنْ سيديرُ مراسم الجنازةِ والدّفنِ والعزاء والأربعينيةِ
و....خلافه.
ما دفعني إلى البدءِ بهذه المقدّمة هو
نمط تعاملنا مع مَنْ يفني عمره ليضع ولو حجراً صغيراً في بناء وجودنا وديمومتنا
وحضارتنا الشّامخ الشّاهق, وهو مفعمٌ بالأمل والهوى بأنّه إذ يفعلُ ذلك مدعوماً من
قناعته الأكيدة بما يفعل, ولكن يبدو أنّنا أيضاً نفعلُ فعلتنا القائمةِ على تجاهلهم
أو تناسيهم أو محاولة إنكار ما يفعلون عن سابق إصرارٍ وتعمّد , والشّخصان اللذان
قالا لمحمد علي حسّو ما قالاه يمثّلان شرائحَ واسعة من جماهيرنا الكرديةِ وخاصة
الشّريحة التي تظنّ أو تعتقدُ أو ترى نفسها صاحبة القرار والإقرار الحاسم, والسّؤال
الذي يقفزُ إلى منصّةِ تفكيرنا:
لماذا لا نهتمّ بهؤلاءِ إلا بعد أن
تتآكلَ الشّيخوخة بكلّ أصولها وفروعها قلبهم وقالبهم؟! لماذا نظلّ نستخفّ بهم في
حياتهم أو في فترةِ عنفوانهم وتألقهم, ونقبّلهم فيما بعدُ بخجلٍ على جباههم
المتعرّجةِ التي بالكادِ تُرْفَعُ عن الأرض.
بُدِءَ الحفلُ في السّاعةِ التّاسعة
مساء من يوم الخميس الواقع في /17-2-2008 بمعزوفةٍ رقيقة من الفنّان الرّقيق سعد
فرسو ثمّ تتالتْ الكلماتُ التي تناولتْ حياة المكرّمين وحياة صاحب الجائزة ليعلن
فيما بعد عن توزيع الجوائز لتبدأ الرّوحُ تذرفُ دموع فرحٍ وترحٍ أيضاً على هذين
العاملين بجهدٍ وتفانٍ في محرابِ الكتابةِ والأدبِ الكرديين وهما يعانقان الثّمانين
من العمر أو أكثر, فينادى على اسم/ ملا نوري هساري / ليتقدّمَ منصّة التّكريم ولكن
هيهات أن يتمكّن من ذلك فالفالنج الغادرُ كان له بالمرصاد ولم يدعه أن يقفَ على
رجليه وحتى العصا التي كانت مسنده ومعينه هربتْ من بين أنامله الصّارخة, ليطلبَ
البعض من المكرّمين التّقدّم إليه ومنحه الجائزة,
ثمّ نوديَ على محمّد علي حسّو المكرّم
الثاني , لينهضَ من كرسيّه بخطاً متثاقلة , ويستلمَ الجائزة بيدين مرتعشتين ,
مرتجفتين , وجسدٍ أنهكته جراح السّنين وتقلّبات الأيّام المتحالفين مع القدرِ
والدّهر.
وخلال هذه اللقطاتِ المؤثّرة , قفز إلى
عمق مخيّلتي سؤالٌ:
ما كان ضرّنا لو كرّمنا هؤلاء وهم
يعومون في يمّ عنفوانهم وعطائهم وكفاحهم, ويبدو أنّ المخيّلة أشفقتْ عليّ فأعادتْ
روح الشّبابِ إلى / ملا نوري ومحمد علي/ فأراهما رجلين في أربعينياِتِ العمر
,يقفزان بقوّةٍ واقتدارٍ إلى المنصّة , ويتسلّمانِ الجائزة, وهما يتبادلان التّهاني
والابتساماتِ مع الحضور, ويزيدان قوّة وتصميماً فيبدعان ما لم يستطع كلاهما إبداعه
من قبل.
لقطاتٌ حُفِرتْ في
الذاكرة:
*-عندما
انتهى الحفلُ وعدتُ إلى بيتِ أختي أصرَّ الشّيخ الأستاذ عبد القادر الخزنوي على أن
يوصلنا برفقةِ ملا نوري هساري ومرافقيه , فبادرتُ على الفور إلى تهنئته بالجائزةِ ,
وتمنّيتُ عليه لو كان ينشدُ لنا بعض أشعاره, فما كان من الأخ الذي كان جالساً في
مقعدنا إلا أن أجاب:
هو...هو هيهات ...هيهات أن ينشد ,
وقبل أن ينهي تمتمته أحسستُ بجرحٍ يداعبُ شغافَ روحي وفكري: أيّعقلُ أن يكون هذا
الهَرَمُ الشّعريّ الخالد غير آبهٍ بفحوى وقدر هذا التّكريم؟؟!!
*-كنتُ
جالسة بجانب الكاتب الأخ سيامند ابراهيم في الصّف الأماميّ , وحين حضر الأستاذ محمد
علي حسّو ,قام الأستاذ سيامند من كرسيّه وطلب إلي محمد علي كي يجلس مكانه, وبعد
السّلام والسّؤال عن الأخبار , بدأ شاعرنا يشكرني على حضوري شكراً مديداً بطول
المسافةِ بين ديركا حمكو وقامشلي, فما كان منّي إلا أن أردّ له الشّكر والامتنان,
ومازحته قائلة:
أستاذنا ,وكيف لا أحضر واليوم هو يوم
عرسك, ولن أنسى ما حيّيت تلك الابتسامة التي تحوّلتْ إلى ضحكةٍ وهو يقول: الله يجبر
بخاطرك, فشعرتُ حينها وكأنّ تلك المزحة قد نفثتْ في روحه وقلبه جرعة من الارتياح
والسّكينة على أنّ العمر الذي أفناه لم يذهب سدىً., وتساءلتُ: لماذا لا نداومُ على
تقديم العون والمساعدةِ المعنويةِ لبعضنا البعض ولو برسم بسمةٍ على الشّفاه أو
غرسةِ عرفانٍ بالجميل كردّ للمعروفِ بالمعروف بكلمةٍ طيّبةٍ وهمسةٍ حنونة!!!
شكراً لعائلة جائزة جكرخوين للإبداع
الشّعريّ, وألف شكر لكلّ القائمين عليها لأنّهم وبجهودهم الجبّارة وإمكانياتهم
المتواضعة استطاعوا إدخالَ البهجةِ والمسرّةِ إلى نفوسنا ونفوس المكرّمين مع
التّمنيات لهم بمزيدٍ من العطاءِ والتّقدّم.