لا مفر من الصبر

لا مفر من الصبر

عبد الفتاح فتوحي

قال الشيخ للطلاب الذين تحلقوا حوله في المسجد بعد الصلاة؛ إنه من المعروف عند أهل العِلم أن الكِبر والحياء الزائد الذي هو الخَجل، إن وُجدت خصلة منهما أو كلتاهما في إنسان تمنعه أو تمنعانه من طلب العِلم، فالمتكبر يمنعه كبره أن يتواضع للعالم ليأخذ عنه العِلم، ولأن العالم في هذه الحال يكون هو المُنطِي ويده العُليا، والمتعلِّم هو المُنطَى ويده السُّفلى.. وصحيح أن اليد العُليا خير من اليد السُّفلى، إلا أنهما في هذا الباب سواء أكان العالم يبذل عِلمه ابتغاء مرضاة الله،  أم كان طالب العلم يطلبه لوجه الله... لكن المتكبر تختلط عليه الأمور بسبب مرض الكِبر.

ومَن يكُ ذا فم مريض           يرى مراً به الماء الزلالاَ

والكبر من أمراض القلوب.. وبالقلب يميز الإنسان بين التذلل والتواضع في سبيل الله؛ فيورث العزة والاحترام، وبين الذي يكون لغير ذلك مما يورث المذلة والهوان.

والخجول كذلك؛ فإن خجله يحول دون اختلاطه بمن هو أعلم منه ومجالستهم والاستفادة منهم، لأن خجله يصوِّر له أن جهله سيكون سبباً في هزء أهل العِلم به واحتقاره، فيحجم عن الاختلاط بمن هو فوق مستواه مما يبقيه بين أمثاله الجهلاء الذين يتندرون بأهل العِلم والضحك على المشايخ ولا غير جهلا... ثم أراد الشيخ أن يُضفي على الجلسة شيئا من المرح لدفع الملل عن الطلاب، ويقدم لهم نموذجاً عملياً على موضوع الدرس فقال:

يُروى أن رجلاً تزوج امرأة جاهلة في فنِّ الطبخ وعندها شيء من الكِبر؛ لذا فإنها تدعي المهارة في هذا المجال وتثبت على ادعائها.. بفرط جمالها..!! وكان الرجل يحاول جاهداً تغيير نوعية الطعام الذي تحضره زوجته بشكل دوري دون فائدة... فيوم بيض مقلي.. ويوم حمص وفلافل من السوق.. ويوم مجدرة.. ويوم فول مدمس من السوق.. ويوم بيض مع البندورة.. ويوم شوربة العدس.. ويوم دجاجة مشوية من السوق.. وهكذا يتكرر البرنامج للطعام دون تغيير ولا تقديم ولا تأخير؛ بل بكثير من المن والأذى لكثرة الأصناف وجودتها..!

وكاد الرجل أن يقلب شهر العسل إلى شهر بصل؛ غير أن حبه لزوجته كان يُعينه على الصبر والتفكير السلمي للخروج من هذه القائمة السوداء.. وبعد أخذ وردٍّ.. وبالتنسيق مع جيرانه الطيبين أقنع زوجته الجميلة أن تخصص جزءاً من وقت زيارتها لجارتها حين تزورها للتحدث عن الطعام ونوعياته وطُرق تحضيرها.. وتبادل المعلومات ليس إلا...

اقتنعت الزوجة على مَضض.. وذهبت يوما لزيارة جارتها.. وكادت الزيارة تنتهي دون أن تستطيع تجاوز كبرها لطرح الموضوع الذي اقترحه زوجها... لذا بادرت الجارة إكراماً للزوج المسكين.. " ماذا طبختِ أمس..؟ أجابتها شوربة العدس.. تأكلين أصابعك وراءها!! ثم تابعت الجارة أنا طبخت (كوسا محشياً بالأرز ).. ووصيت أبا محمد أن يأتي بكوسا طازج لا بالكبير ولا الصغير.. وحضرته بشكل جيد.. قاطعتها صاحبتنا.. نعم ، نعم ، هذغ ما ينبغي أن تفعليه .. تابعت الجارة .. حشوته بالرز الممزوج باللحمة المفرومة والبهارات.. بادرتها صاحبتنا.. شيء طبيعي.. وإلا فكيف سيكون محشياً لذيذاً..! أخذت الجارة نفحة من الغضب.. كظمتها.. وتابعت حديثها.. ثم أدرت عليه صلصلة البندورة مع النعنع والثوم... قالت مدعية العلم: شيء معروف..! هنا نفذ صبر الجارة على جارتها المغرورة.. ونسيت توسلات زوجها المسكين للصبر عليها.. فقررت أن تلقنها درساً لا تنساه... فتابعت حديثها.. ثم وضعتُ حذاء عتيقة فوقه ووضعته على النار الهادئة حتى نضج..!! قالت المغرورة: إي.. أنا أفعل الشيء نفسه

انتهت الزيارة.. وقد حفظت المغرورة بجمالها كل ما قالته جارتها دون أن تُشعرها بأنها ستطبق ذلك حرفيا.. حضر الرجل إلى البيت وفوجئ بطلب غريب من زوجته.. اذهب إلى السوق وأحضر لي كوسا للمحشي.. ورزاً ولحمة مفرومة.. وحذاء عتيقاً!!... أدرك الرجل أن الخطة سارت بنجاح وأن زوجته اكتسبت من جارتها طبخة جديدة قد تخرجه من البلاء الذي هو فيه..! لكن وتساءل في نفسه... لكن ما دور الحذاء العتيق..؟ لم يشأ أن يناقشها خوفاً من فشل المحاولة لأنه يعرف زوجته..! واعتقد أنها ستتخذه رُقية من الإصابة بالعين على طريقة جهلة العوام... أحضر الرجل ما طُلب منه على أمل أنه في اليوم الثاني سيأكل أصابعه حقيقة..! لكن الحذاء العثيق وغرور زوجته أفسدا الطبخة.. وخسَّراه الكلفة...

يا بنت الحلال! ما هذا الذي صنعته..؟ أجابته بصَلَف وتحد.. هذه نفس طريقة جيرانك المُعجب بهم.. هكذا يطبخون..!! أدرك الرجل أنه لا تعلّم مع الكبر... إما أن يستمتع بزوجته على ما هي عليه.. أو يطلقها...

ولأن لقبه بين أصحابه (الأرنب.).! رَفض الطلاق باعتباره أبغض الحلال إلى الله... واستمر مع زوجته الجميلة.. وقائمته السوداء....