ليالي الشمال 2

الريح الحزينة

ليالي الشمال 2

زياد جيوسي

[email protected]

عضو لجنة العلاقات الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب

ها أنا أتمتع بنسمات رام الله المشبعة بالحب ونفحات الحب، تمتع روحي في كل صباح ومساء، أجول بها وأتنشق عبق الياسمينات، أهمس في أذن طيفي محدثا عن كل شجرة وزاوية ودرب، أفرش لحروفي الخمسة في القلب الإقحاونات والسواسن والفل، أزرع في شعرها الياسمينات، فما أجملك يا رام الله وأنت تمنحيني كل هذا الحب، في هذا الصباح المبكر والنسمات الناعمة، بعد ليلة بالكاد نلت فيها بعض السهاد، وإن لم تخلو من فرح روحي، وبعض من الم جسدي عابر.

منذ عودتي من رحلة طولكرم وجيوس، والفعاليات الثقافية والفنية لم تتوقف في أمسيات رام الله، فقد أتيح لي حضور فيلم عن مطار القدس بعنوان "خمس دقائق من بيتي" للمخرجة ناهد عواد على شاشة القصبة، وأمسية رائعة لفرقة تراث للموسيقى الشرقية، وهذه الفعاليات بالذات اجتاحت مني الروح فكتبت عنها، وحضرت ثلاث أمسيات موسيقية ما بين قاعة المركز الثقافي الفرنسي لمعهد ادوارد سعيد للموسيقى، وأمسية هندية برعاية مؤسسة الكمنجاتي في القصبة أيضا، إضافة لمناقشة كتاب في بلدية البيرة، وهذا ما تمكنت من متابعته ناهيكم عن فعاليات لم أتمكن من حضورها لانشغال أو تضارب أوقات تدفعني للاختيار، فأذكت هذه الفعاليات في روحي الرغبة في استكمال ما بدأته من الحديث عن زيارتي إلى طولكرم، ففي اليوم الثاني لوصولي وصادف الجمعة السادس من حزيران، فضلت البقاء مع أسرة بيت أخي، ولم أغادر إلا ظهرا للصلاة في المسجد، لأجد خطيبا تنتفخ أوداجه في الدرس قبل الصلاة، يتحدث عن عذاب القبر بطريقة منفرة، وكأن الوطن قد تحرر، والناس أصبحت تنعم بنعيم الحرية، ولم يبق لدينا من المشاكل إلا عذاب القبر، فيا أيها السادة رجال الدين، تعاملوا مع مشكلاتنا اليومية والمعيشية أيضا، واذكروا أن الله عز جلالة يمتلك الرحمة، وأن الدين يسر وليس عسر، وأن تصوير الخالق بهذه الطريقة المنفرة بالحديث، تبعد الناس عن الدين والإيمان، ورسولنا الكريم لم يبعث إلا رحمة للعالمين، فتعاملوا مع الدين بتوجيه الناس للخير والعطاء، فلو كان الدرس يحض المؤمنين على نظافة المدينة أو تشجيرها مثلا، أليس كان ذلك أفضل وأجدى؟

في المساء زرت أحد الأصدقاء الذين ربطتني بهم في الماضي علاقات نضالية قديمة، تذاكرنا الماضي وتحدثنا بالحاضر، وسررت بلقائه وأسرته بعد هذا العمر، فالصغار أصبحوا كبارا، ونحن مضى بنا قطار العمر.

السبت منذ الصباح المبكر كنت برفقة رامي ابن أخي في جولة تصوير للمدينة، فصعب أن أسوق وأصور في نفس الوقت، فاعتمدت عليه بالسياقة كونه ابن المدينة ويعرفها بدقة، ولا تخفى عنه منطقة فيها، وبعد الجولة ذهبت للقاء أصدقاء يمثلون قواهم السياسية وفصائلهم، وكان السؤال الذي يؤرقني وأناقشه معهم، لماذا تراجعت طولكرم بدلا من أن تتقدم؟ لماذا وهي الحاضنة الاكبر عبر تاريخها للشعراء والكتاب والفن، وما زالت تحوي بجنباتها العديد منهم أمثال: صبحي الشحروري وعبد الناصر صالح وخضر سالم ومحمد علوش ونصوح بدران وأديب رفيق محمود وطارق عبد الكريم وطارق الكرمي وغيرهم الكثير ممن لا تحضرني أسمائهم الآن، .. لماذا؟ كانت اشارة تساؤل كبيرة مع كل من التقيتهم، وفي حوار مع الصديق محمد الشعبي، والشاعر محمد علوش هذا الشاب المتدفق بالحيوية، ومع العديد من الأشخاص، كنت أريد أن استمع منهم للجواب، فيندر أن تكون هناك أمسية شعرية أو فنية، ولا يوجد قاعة مسرح ولا مراكز ثقافية، والغبار يتراكم على ذاكرة المدينة وحاضرها، ناهيك عن الإهمال الخدماتي والقصور من قبل القائمين على المدينة، وأبرز مثال أن المدينة محاطة بمدخليها بمركزين لتجميع القمامة وحرقها، فلا تتوقف الروائح الكريهة، ولا الغازات السامة عن اجتياح المدينة.

كل ما طرح في الحوارات يمكن أن يحلل بعض العوامل، لكنه بالتأكيد لا يكفي، فدور المثقف والكاتب والأديب والفنان يجب أن يتميز، يجب أن يكون عاليا، وعلى كتاب وشعراء المدينة والمحافظة، أن يخرجوا من الذات والفردية والفصائلية قليلا، ليشكلوا بؤرا مضيئة تحمل على عاتقها الخروج من هذا الواقع المؤلم، وفتح الطريق أمام طولكرم أكثر حضارية ورقيا، فالتغيير لا يأتي من الخارج، انه يأتي من الداخل فقط، فهل سيبقى من على عاتقهم التغيير ينتظرون من يعلق الجرس؟ وهل ستبقى القوى السياسية تحصر دورها بالركض وراء الحدث ببيان أو مسيرة، ولا تتذكر أن دورها المجتمعي هو مسألة في غاية الأهمية، وهل يجب الصمت والانحناء أمام الجدران التي نبتت في غفلة من الزمان، فأصبحت الأسوار تحيط بالمدينة، فمن جدار الضم الذي يمتد كأفعى، حتى الجدران الداخلية التي حجبت الوعي ومزقت نسيج وحلم المدينة.

وفي لقاء آخر مع السيدة انتصار سلمان منسقة شمال غرب الضفة للمركز الفلسطيني لقضايا السلام والديمقراطية، كان هناك حديث آخر إضافة للهم الثقافي الذي يسكنني، فوضعتني بصورة دقيقة لتركيبة المجتمع الكرمي وتأثيراته المختلفة، وعن الظروف التي أدت للتغير في ذلك المجتمع عبر السنوات الماضية، فتحدثت عن تأثير الاحتلال والانتفاضة الأولى والثانية، وتأثيرات مختلفة تناوشت المجتمع الكرمي، بحيث أصبح في الحال الذي هو فيه، وخصوصا غياب الحركة الثقافية والفنية، ووضعتني بصورة الدورات التي يعقدها المركز، والتي تهدف إلى النهوض بالحركة المجتمعية ورفع معدلات الوعي وخاصة لدى الفتيات.

ومن دعوة غداء إلى قليل من الراحة بعد الظهر، لأنهي يومي بلقاء لطيف على أحد مقاهي المدينة، مع الشاعر الصديق طارق الكرمي، ساعتين من الزمن تحدث فيها الكثير من أزمة المدينة حتى أزمة الثقافة والفن فيها، مرورا بأزمة المجتمع الكرمي، وأسمعني العديد من قصائده، وحديثه عن أسلوب شعره وتطوره من خلال تأثيرات مختلفة، مستخدما العديد من المصطلحات، ناقدا أقرانه وغير أقرانه من الشعراء، فهو ساخط دوما، وقال لي في النهاية حين رأى أني أسجل ملاحظات: إن كتبت فأرجوك أن تشتمني وسأكون مسرورا، فقلت له: أيها الكرمي الجميل سأعاقبك ولن أشتمك، فالشتيمة ستفرحك وأنا لن أفرحك بها، وضحكنا بصوت مرتفع.

انفصلت عن طارق الكرمي، وقررت أن أعود للجولة في أطراف المدينة سيرا على الأقدام، فوجدت نفسي في أحد الأزقة بين شجرتي ياسمين متقابلتين، فوقفت أتنشق هذا العبق وكأنهما تقولان لي بصوت واحد: ليست رام الله وحدها تبوح بالياسمين يا عاشق الياسمين، وسيأتي اليوم الذي ستعبق فيه ليالي الشمال الحزينة بالفرح وعبق الياسمين، فسرت مسافة طويلة وحدي، لا يرافقني إلا طيفي وحروفي الخمسة، أنتظر قدوم الغد لتكون خاتمة جولتي في طولكرم، في لقاء دعيت إليه من جامعة خضوري ومن طلبة منتداها، أولئك الشباب الذين عليهم عبء التغيير والتطوير.

صباحك أجمل يا رام الله، صباحك أجمل يا حبيبتي، صباحك أجمل مع عبق الياسمين وفنجان القهوة وطيفي البعيد القريب وحروف خمسة لا تفارقني وصومعتي، شدو فيروز:

"ليالي الشمال الحزينة ظلي اذكريني اذكريني، ويسأل علي يا حبيبي، ليالي الشمال الحزينة، يا حبيبي أنا عصفورة الساحات، أهلي نذروني للشمس وللطرقات، لسفر الطرقات، لصوتك يندهلي مع المسافات، ويطل يحاكيني، الريح الحزينة، يا حبيبي وبحبك على طريق غياب بمدى لا بيت يخبينا ولا باب، خوفي الباب يتسكر شي مره بين الأحباب، وتطل السكينة، ليالي الشمال الحزينة ظلي اذكريني اذكريني"

صباحكم أجمل.