اللهم لا تسلِّط علينا حاكماً ولا حكيماً

"اللهم لا تسلِّط علينا حاكماً ولا حكيماً*"

عبد الفتاح فتوحي

هذه المقولة حفظناها عن الآباء والأجداد.. لكثرة ما كانوا يردِّدونها بمناسبةٍ وغير مناسبة، وعند استفحال المرض في أحد أفراد العائلة أو أحد الأقرباء أو المعارف؛ وبخاصة إذا أعيا هذا المرضُ الأطباء.. وكثيراً ما كان يحدث ذلك.. وكذلك إذا احتاج أحدهم أن يُراجع بعض الدوائر الحكومية لإتمام معاملةٍ ما؛ من تسجيلٍ أو تنازلٍ.. أو تحصيلِ بعض الحقوق العالقة... فإنه (يدوخ الدوخـات السـبع) قبل ان يُنهي معاملته هذه.. أو أن يصرف النظر عنها.. إن لم يُسخِّر له رب العالمين أحد أبناء الحلال لينقذه من ورطته.

هذا كان أيام زمان.. سقا الله تلك الأيام.. ويا أسفي عليها.. مع ما كان فيها من سلبيات.. وعجر وبجر.. وأصبحنا هذه الأيام نترحَّم على النبَّاش الأول -كما يُقال- ومن المُفيد أن نذكر قصة هذا النبَّاش والترحم عليه... فإنه يُوضح علاقة ماضينا بحاضرنا.

والقصة - كما يُروى - أن لِصَّا عاتياً تسلَّط على بعض المقابر في مكان ما.. فكان كلما دَفن أهل البلدة ميتا لهم؛ أغار هذا اللص على القبر ونَبشه وسرق الكَفن.. وتركَ القبر مفتوحا للهوام والحيوانات المفترسة.. فيضطر أهل الميت إلى أن يُعيدوا رَدم القبر مرة ثانية.

ولم تُفلح محاولات أهل البلدة المتكررة لمنع اللص من فعله المشين هذا.. ومَن يَصل إلى مثل أولئك اللصوص.. يا حسرة..! فإنهم يتمتعون بغطاء كامل من أصحاب الصولجان.. فهم شركاء..!.

مرَّت الأيام والحال على هذه الشاكلة.. وأهل البلدة يتجرَّعون مرارة الخزي والحسرة في كل محاولاتهم الفاشلة لحماية موتاهم من اعتداء ذلك الأثيم المدعوم.

حتى سَرت شائعة أن اللص نبَّاش القبور قد مات.. ومما صدَّق تلك الشائعة مرور عدَّة أيام لم تُنبش خلالها قبور مَن دُفن من الأموات الجُدد....

تنفَّس أهل البلدة الصُّعداء.. ولسان حالهم يقول؛ الحمد لله.. لو مات أحدنا بعد الآن فلا يُخاف سَلبُ كَفنه.. وهتك حرمته.. لكن الفرحة لم تدم طويلاً بين أهل البلدة حتى نُكسوا على رؤوسهم.. وعاد حال المقبرة إلى أسوأ مما كان....

لقد كان للص وَلد عاق على شاكلة أبيه.. وَرث المقبرة بعد موته.. وللعجب.. فقد تحوَّل إلى ابن بارٍّ بأبيه دون قصدٍ منه... حيث كان سبباً لترحم أهل البلدة على أبيه..! لأن اللص الجديد صار يَنبش القبر ويُخرج الميت فيأخذ الكفن ويترك الميت في العراء... لذلك انطلقت ألسنة هؤلاء المساكين بعفوية وحُرقة بالدعاء.. "الله يرحم النبَّاش الأول".

وحال الناس في بعض البلدان هذه الأيام يُذكِّر بحال أهل البلدة "المَعتَّرين" أصحاب نبَّاشي القبور.. فما إن يحتاج أحدهم لمراجعة بعض ذوي الاختصاص لأجل وعكةٍ ألمَّت به.. أو خَلجةٍ في صدره.. أو ضيقٍ في تنفسه.. وغالباً ما يكون ذلك من غير سبب عضوي؛ بل لكثرة الضغوطات النفسية والمادية.. والاحباطات المتعددة.. وانعدام فُسحة الأمل....

ما إن يحتاج ذلك حتى يلج مستسلماً باختياره دوامة لا خيار له فيها بل يجد نفسه مضطراً  فالمطلوب تحاليل عِدَّة.. وصُور مختلفة.. وقد يُنصح بالتنظير؛ بل بالقسطرة....

ماذا يصنع..؟ هل صحيح أنه جاء في الوقت المناسب..؟ وأن عِناية الله ساقته..؟ ولو تأخر لكان الأمر جد خطير..! لا بُد من الانصياع للأوامر والطلبات.. فحياته في خطر..! وليضع "شيكاً مفتوحاً" على الحساب! أو يَرهن جواز سفره..! وفي النتيجة لا يخرج من هذه الدوامة إلا بشَبكة أو أكثر في شرايينه...! الله أكبر..! دَخل على رِجليه بكامل قواه.. ثم خَرج محمولاً.. محمَّلاً بالأعباء والتبعات..! مما يُثير التساؤلات والتكهنات..!.

فهل لا بد من هذه الإجراءات فعلاً..؟ أم هناك دوافع أخرى لاستغلال أغلى ما يملك الإنسان.. لزيادة الأرصدة.. وإعلاء الأبنية.. وتوسيع الصروح التي إنما خُلقت للتخفيف من معاناة البشرية..؟ وليس سبباً لزيادتها..؟.

إن بعض المعاناة التي كانت أيام زمان.. أرحم من بعض الورطات هذه الأيام..! ولا بُدَّ من تكرار الدُّعاء "اللهم لا تُسلِّط علينا حاكماً ولا حكيماً".

              

*حكيما؛ يعني: طبيباً.