عابر الأسيجة

عابر الأسيجة

نجاة الحجري

[email protected]

العشب على السياج الآخر دائما أخضر ، لكأنما سقي بماء آخر ، على رغم أنها قطع متجاورات ، تسقى بماء واحد ! ما يملكه الآخرون دائما الأفضل ، بل لعل ما نملكه نحن دائما الأسوأ . تموت قيمة الأشياء بمجرد ما نملكها ، فهل خلاصة ما يربطنا بها هو تلك الصفة المتمثلة في حب التملك ، فإذا ما امتلك الإنسان شيئا ، ازدادت شهيته لكل شيء ، وازدادت قناعته بقدرته على ممارسة تلك الغريزة ؟ أم هو الملل البشري من تكرار النظر للأشياء التي لطالما كانت حلما غاليا ، ثم انتهت إلى شيء يبعث على الضيق ، حينما أصبح يتصل بالعجز عن التجديد ، أو يدل على الجمود ، وثبات الحال ؟ أم هي تلك الشهوة في امتطاء صهوة الجديد ، لا لشيء ، إلا للذة الجديد ؟ أم هو شيء آخر ؟

لم كان ذلك التكرار في الخطاب الإلهي النبوي : " ولا تمدن عينيك " ؟ أكانت هذه الطبيعة نذير خطر ما ، ولم كانت وصية خاصة لنفس هي أرقى النفوس البشرية على الإطلاق ؟ أهو شيء يلازم طبيعتنا ، كالضعف مثلا ؟

لقد شاءت الحكمة الإلهية أن تتفاوت المقادير ، والدرجات في كل جانب من جوانب الحياة ، وبشكل عجيب ، يحمل فيه مظاهر توحي بحقيقة إلهية أخرى . فهل لهذا علاقة بذلك النذير ، وتلك الطبيعة ؟ وهل مكتوب لهذا التفاوت أن يختبر تلك الطبيعة ؟

تتوزع الأشياء بين وجود في أيدينا ، وبين وجود في أيدي الآخرين ، فلا شيء على الأرض إلا يملكه شخص ما عرفناه ، أم لم نعرفه ، إلا أشياء لم تخلق للوجود الفعلي . فإذا ما أسلم الإنسان نفسه للنظر دائما نحو السياج الآخر ؛ فإن نفسه الطامحة ستضطر أن تعرج على كل سياج في المنطقة البشرية ، بعيدا عن سياجها . ومن سياج قريب ، إلى آخر بعيد ، فثالث أبعد ، تتمزق من كثرة التجوال ، وتتوه عن سياجها ، لبعد ما بينها  وبينه ، وسط ألف سياج .

هذا إذا ما سُمح لها أن ترى ما خلف السياج ، فقد يكون السياج عاليا حدا لا يسمح بمد النظر إلى داخله ، فتظل تمر بالأسيجة العالية الغامضة ، وتتشظى على الحقيقة التي ترسمها عنها ، حقيقة أنها في تعاليها تخفي العشب المفقود .

كل تلك الكلمات ، وقبلها الأسئلة دارت ببالي ، وأنا أتجول في المنطقة البشرية ، وأنظر للأسيجة ، وأتساءل عما تخفيه بحرص خلفها . فوصلني صوت يشبه الحكاية ، اقتربت لأسمع ، قيل لي إنها حكاية عابر الأسيجة . لم أسأل أكثر ؛ لأن الحكاية كانت قد بدأت ، وأدركتها من هذا الجزء :

 

فتبدأ الحرب التي لن تضع أوزارها أبدا ، فتستبيح نفسه كل ما ليس له ، بمسوغ الظلم الذي حرمها مما احتاجته ، وليس مما أرادته فحسب . فتمتد نفسه الحانقة مشوهة كل جميل بداخله ، لتستولي على كل جميل بالخارج ، لتصلح به تشويهها . وتعود من جديد ، لتمتد فتشوهه ، ويبقى في تشويه ، وإصلاح ، وفتق ، ورتق حتى لا يبقى فيه من ملامح الإنسانية شيء .

فيصحو عابر الأسيجة مفزوعا يتحسس جسده ، وملامح وجهه ، وبأنفاس تتسارع ، خطا نحو المرآة الملقاة في الصندوق القديم المظلم ، فرأى أنه ما زال لديه عينان ، ولسان ، وشفتان ! فتنفس داخله المرتجف الصعداء ، بهمهمات شكر ما . فعلق الحاكي : حين نفقد الأشياء لوهلة _ إجبارية_ فقدا مؤلما ، ثم نجدها فجأة ، نعود إليها على غير ما عرفناها ؛ لكأنما أضفت عليها طبيعة الغياب معنى آخر جديدا شهيا .

ثم أكمل حكايته : ظل يحدق في المرآة طويلا ، فهمست له نفسه همسة ، بعد أن هدأت أنفاسه ، وقالت : ما أجملك ! فابتسم متعجبا مستنكرا ، لكنها صارت تكررها بإلحاح ؛ حتى عاد ينظر لعينيه ، بدتا لامعتين ، يكسوهما ألق لم يعتد أن يراه . نظر إلى ابتسامته المتعجبة ، فرأى عالما نابضا بالحياة ، يحاول أن يسر له بأمر ما . وظل يقلب النظر في ملامحه يمينا وشمالا ، أسفلها ، وأعلاها ، فخطف بصره صورة ظهرت في المرآة ، مساحة خضراء ، كان يقف عليها ، بدت عليها ملامح الذبول ، على رغم أنها ما زالت تدعي الحياة . اختفت الابتسامة المتعجبة ، ليحل محلها ، حزن الإدراك . أخذ المرآة ، وعلقها على كل جدران السياج ، وخلع ملابس الكابوس المزعج ، ولبس نفسه الجديدة ، وخرج لحديقته ، وعمل فيها ، ليل نهار ، خلف السياج الذي كان منسيا . كلما عاوده كابوس الأسيجة الأخرى ، نزل إليها مجتهدا مراعيا ، حتى أعشبت ، وكبر العشب ، حتى تطاول على الأسيجة الأخرى ، فأخفاها ، فما عادت تقوم لقامة عشبه المتعالي .

فتحركت شفاهي : " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى " .

تنهد الحاكي ، بعد أن أتم حكايته ، تنهيدة طويلة ، ثم قال : إن امتلاكنا للأشياء يجعلها تبدو سهلة المراس ، فلا تتناسب مع طبيعة الإنسان فينا ، تلك التي تهوى ما تتعب من أجله . لكنما حقيقة الأشياء تتوزع أيضا بين ما نخلعه نحن عليها ، وما تمتلكه هي فعلا . فحين نحصل على الأشياء تموت حقيقتها فيما يتصل بنا نحن ، أما حقيقتها فيما يتصل بها ، فتظل كالمعين المتجدد دائما ، كالبلورة المتحركة التي تحمل أبعاد كثيرة جدا ، فلا تراها كلها أبدا ، ويستغرقك الأمر كثيرا حتى ترى البعد الواحد فيها يتكرر.

فإذا ما انشغل الإنسان عما يملكه بما يملكه الآخرون ، تموت حقيقة الأشياء التي يملكها فيما يتصل به ، حتى تتعفن بداخله ، فتشعره بضرورة التخلص منها ، فيتخلص فيها من حقيقته شيئا فشيئا ، من حسنه ، وسوئه ، حتى يصبح خواء ، كأن لم يغن بالأمس . فيندفع الإحساس بالظلم ليحل محل ما تخلص منه في نفسه ، ومن الظلم ، إلى شعور بالسخط على العالم وموجده ، إن كان يعتقد أن له موجدا ، على رغم أن داخله يقر أن هناك من يوزع الأمور. فيصيغ السخط نفسه صياغة جديدة أخف حدة ، بأن يعطي لعابر الأسيجة الحق في استلاب العشب الأخضر أينما كان ، بقطع النظر عن الوسيلة ، بحثا عن عشبه المسلوب . فيغزو الآخرين ؛ ليعيد إعمار خوائه ، بما لا يناسب أنسجته ؛ فيظل عمره غريبا عن نفسه ، وعن العالم ، لأنه يمتلئ بغير نفسه .

فتلا داخلي : " ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا " .

فجأة نظر إلي الحاكي ، كأن لم ينتبه لوجودي من قبل ، لكنه ابتسم كأنه أدركني ، وداخلي المتلهف في آن معا ، وعاد إلى جلاسه ، فقال : أما نظرة الإنسان إلى ما يملكه فتدفعه دوما لرؤية جمالها المختفي ، وإصلاح قبحها المتبجح . وتبدأ عيناه بالسقوط حيث تنكشف الأسيجة ، وتقتلعها رياح القدر بشدة ، وتبدو بلا عشب ، إلا كباقي الوشم في ظاهر اليد . وشم بالنار لم يبرأ بعد ، وأطلال لا يزال أهلها بها ، بشبه سياج ، ولا عشب ، أو بشبه عشب ، ولا سياج . فتلتف يده بردة فعل تلقائية حول سياجه شاكرة ممتنة ، كأنه يمنعه من رياح القدر الغاضبة ، ويجد نفسه يشارك في برء الوشم الملتهب ، وبناء السياج المتهدم ، وري العشب الذاوي .

فخشعت أردد : " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين " . فسمعت نبرة الحاكي تطول ، واشية بالختام ، قائلا :

وكلما نظر عابر الأسيجة إلى أسيجة الآخرين ، في جولة تضطره إليها الحياة أحيانا ، تراءت له صورة الكابوس ، وصورته الساخطة الأولى ، فقال لنفسه : ربما خلف السياج الآخر عشب ذابل ، يتهالك لينظر ما خلف سياج آخر !

ثم عاود النظر إلي بابتسامة مختلفة هذه المرة ، فلملمت داخلي المتبعثر _ على ما يبدو _ وأسئلتي الملتئمة ، ورحلت ، أتمتم ، وأنا أنظر للأسيجة : خلف السياج الآخر، حكاية عشب أخضر، لم تحك بعد !