ناريٌ في مهب الريح
ناريٌ في مهب الريح
سحر أبو ليل
[email protected]
قيلَ لي مرةً " ان الصمت حين يطول وتفوح رائحته لا بد ان يكون تأثيره اقوى من كلمةٍ تضج بمسامعنا " ، ولكنني وبعد ان بدأت في سبر غور الحياة عرفت ان مبتكر هذه الجملة ما هو سوى ضعيف خائب الآمال ويخشى عواقب كلمته ، لا وبل صوته ايضا !
فما بالك بنقش ناري سومري منحوت بلهيب حسرةٍ ونزيف دمع احمر قانٍ ينهمر على خدود جدار مجتمع أصمٍ متصدعٍ وسط ادغالٍ زمنية مهترئة كأفئدة المئات منا !
رأيته يتجشأ كدراً ومعاناة وقد بدأ يخربش همومه على اوراق الرياح العاصفة بزفراتٍ تكاد تظن للوهلة الاولى انها تغلي في قلبه منذ قرون ، كان يسير مشوش التفكير وامواج حزن تتلاطم في عينيه ، وتبتلعني معه ! فأنا لم ارَ شخصاً يحمل كفن روحه وينود محدودب الظهر في الشارع العام من قبل!
ازمهر ذاك اليوم كثيراً وبدأت اهرول خوفاً على جسد اوراقي التي لطالما طاب لها النوم على فراش ذراعي ، اجل خفت عليها من البرد والمطر ، لكنني توقفت امام الضوء الاحمر رغماً عن اصطكاك اسنان كتبي ولعل عينيه كانتا هما السبب !
لم تبرق عيون السماء ولم تزغرد بالرعد حينما زرع الخالق عيبا خلقيا في ظهر ذاك الفتى ، انما وهبه غابات استرالية خضراء في تينك العينين لا نصادفها الا نادراً، واذكر انني مددتُ يدي له محاولةً مساعدته في عبور الشارع ، وعلى الرغم من حالته الصعبة الا ان نظرته الرافضة ولزوجة عينيه الدامعتين صعقتني بدهشةٍ لم اجربها من قبل ، ويا ليته لم يرفض فعلى الرغم من الشارة الخضراء التي شرعت مرور المشاة بعد برهة الا ان ذاك السائق الاحمق على ما يبدو فقد اغاظه مظهر ذاك " المعاق" وخطاه البطيئة ، وما كان منه سوى الحكم على اعزل يافع بالموت ، والأشد قرفاً من ذلك جملته حينما رأى الفتاة وقد افترش ارض الشارع بورود دمائه، حينما قال :" يا حرام..بس يلا ريحنا العالم منك " !
هي قصةٌ واقعية تصور حالتنا المزرية من التمزق الانساني لكينونتنا البشرية ، فانا لا اتصور ان من اطلق عليهم تسمية " المعاقين" او ذوي الاحتياجات الخاصة هم خارج دائرة الآدميين كما يعتقد العديدون الذين يتلونون كالحرباء في مواقفنا الحياتية بين رفض ونبذ وشفقة ، فلماذا يتم التعامل مع هذه الفئة الحساسة الرقيقة من الناس على انهم ظاهرة مرضية يجب نبذها او الشفقة عليها " مع ان الاحسان قد يأخذ شكلاً مفجعاً ".
هل اختلاف البنية او اصابة ما في العقل قد تشرع لنا الحكم على الاخرين؟ ألم يوصي الرب برعاية المريض .. فلماذا ننكر هذه الوصايا بالتصرفات المبتذلة تجاه هؤلاء ؟ فالمشكلة اذن ليست بالمعاق نفسه وانما بنظرة المجتمع اليه ، ويؤسفني اضطراري لاستعمال كلمة معاق او من ذوي الاحتياجات الخاصة ، فكلنا لديه احتياجاته الخاصة ، واذا ما نظرنا جيداً حولنا لوجدنا ان الاعاقة هي صفة المئات بسبب قلة الوعي والادراك الحسي الانساني.
ان المؤسف حقاً ان عائلات هؤلاء يتقوقعون ولا يخرجون عن دائرة التفكير بالمجتمع الخارجي ونظرة الاخرين الى ابنهم الذين يرون به " نقصاً وعيباً ما " لا وبل قد تحطمه ..بدل غرس اشجار الامل والصبر على ضفاف حياته !
كل منا معرض لحادث في أي وقت قد يردي به مريضاً او معاقاً ، فهل ترضى عزيزي القارئ ان تعاقب على ذنب لم ترتكبه ؟