خواطر.. على فراش المرض
سحر المصري
طرابلس - لبنان
[email protected]
نِعمٌ تَترى.. لا تُعَدّ ولا تُحصى!
المرض ابتداء.. كما أشعر به: اصطفاء.. تمر الأيام والشهور ويعيش العبد حياته في
روتين شديد.. وربما أنسته الدنيا ذكر الله أو حمده.. ولربما انشغل بهمومه
ومسؤولياته وضغوطه حتى إذا ما شطّ ألزمه ربه جل وعلا لباس المرض أن: عُد.. ألم
تحِنّ إلينا؟! فهو إذاً رحمةٌ يمنّ الله جل وعلا على عباده ليذكروه ويبتهلوا إليه
بالدعاء "لعلهم يتضرَّعون".. وحين يسمع الأنين يتجلّى بالشفاء ويمسح الحَزَن.. أو
يكون غير ذلك بأمره وحكمته فالموت حق.. قدرٌ مكتوبٌ في طيّاته كل الخير إن أحسن
العبد القراءة والتمعّن..
هالني حقيقة ما سمعت ذات مرض من عبارات لا تليق بمؤمن أن ينطق بها.. "حزِنّا
لأجلك.. فأنتِ لا تستحقين ما يحدث لك".. أوَيحزن مؤمن لقدر مؤمنٍ إن صبر فاز؟! ومَن
زعم أن المرض هو بلاء وشرٌّ كله أو أنه عقاب يفتك بأجساد السيئين من البشر؟!
أليس المرض هو علامة حب الله جل وعلا فإذا أحب الله تعالى عبداً ابتلاه؟!
أليس فيه تقرب من الله جل وعلا؟ ألست حين تمرض توقن أن النفع بيد الله تعالى فيسجد
القلب قبل الجوارح بين يديه جل في علاه؟ ويشعر بضعفه وحاجته لهذا الرب الكريم..
أليس المرض ابتلاءً من الله جل وعلا ليمحّص الإيمان.. ويا له من شعور حين يسلِّم
المريض الأمر لله جل وعلا ويقول: هذا جسدي وقلبي ونبضي ولحمي بين يديك.. فافعل ما
تشاء فإني راضٍ راض!
أليس تكفيراً للخطايا والذنوب كما أخبر الحبيب عليه الصلاة والسلام حيث قال "حطة
يحطّ الخطايا عن صاحبه كما تحط الشجرة اليابسة ورقها"..
أليس رفعاَ للدرجات وبُعداً عن النار كما أوضح الرسول صلى الله عليه وسلّم لأبي
هريرة حين زارا مريضاً فقال: "هي ناري أسلِّطها على عبدي المؤمن في الدنيا لتكون
حظه من النار يوم القيامة".. ولعل لهذا المريض منزلة لا يبلغها بعمله فأراد الله جل
وعلا أن يبلغه إياها بابتلائه!
فلِم نخشى المرض إذن ونرهبه؟ ووالله إنّ أول ما يتبادر إلى ذهن المؤمن حين يُبتلى
بجسده هو الحمد والشكر أن منَّ الله جل وعلا عليه بالمرض ليقرّبه منه.. ويُغدِق
عليه بالخيرات والرضا.. ففي كل آهةٍ أو ألم أو وجع تكفير ذنب وقرب من الرب وحمد
وتَوْب ولين قلب.. وهل أكثر من ذلك من عطاء؟!
نبضات الإخوان الصادقة.. أنجع من كل العقاقير والأدوية!
وقبل الإخوان الأهل.. فتجد الأهل في صخب ونصب.. دعاء ودعاء ودعاء.. وزيارات مكوكيّة
للاطمئنان.. واتصالات متوالية لمواكبة كل تطورات الحالة المرَضيّة.. حتى ليكاد يشعر
المريض أن العالَم توقف عنده هو فقط! فيكون بالرغم من ضيقه لاستنفاد طاقات الأهل
بالسؤال إلا أنه يشعر بعمق نعمة الله جل وعلا أن رزقه أهلاً يهتمون لأمره ويتابعونه
بحب وخوف ورجاء!
ومَن مثل الأم في عطفها وتفانيها أمام فلذة كبدها مهما بلغ من العمر.. فهو يبقى
الصغير الذي لا يكبر أبداً في عينيها المُحِبّتين! تداريه برموشها.. وتغمره بدفء
قلبها.. تئن قبل أن يئنّ ...وتمدّه بالرعاية والحنان حتى يقوى على المرض ويستعيد
صحته... وتبقى تداري ألمها وخوفها حتى لا يعتريه الضيق.. وقد تكون تألم أكثر من ألم
مريضها إلا أنها تُخرِس أي صوتٍ يعلو على صوت الأمومة الحقّة..
كنتُ كلما نظرت في وجهها الجميل رددت مع مانع العتيبة.. خذيني وضمِّي لصدرك رأسي..
فما لك فى الحبّ يا أمّ ندّ!
ويأتي العُوّاد ابتغاء الأجر.. وترجمة لمعاني الأخوّة الراقية.. وتجسيداً لأسمى
رابطة قدسيّة قد تجمع بين بشر.. "الأخوّة في الله".. تلك المفردات التي لا يعرف
كنهها إلا من عاشها.. وسبر أغوارها فانتشى كلما قرب.. يشعر المريض وإخوانه إلى
جانبه كأنهم غمامة تقيه حر الألم.. وتبقى تظلّله حتى إن غابوا عن ناظريه..
فابتهالاتهم ودعواتهم تحوم حول سريره الذي يقيّده.. فترفعه مكاناً علياً من السعادة
والظفر.. وأيّ مشاعر تعلو ما يعيش؟! ثم يقولون: المرض شرٌ مستطر؟! كلا وربّي!
محرومٌ والله مَن مرض صاحبه ولم يعُده..ومن استطاع زيارته فلم يفعل.. ومن بلغه مرض
رفيقه فلم يسأل.. ألم يسمع قول الله جل وعلا في الحديث القدسيّ "أما علمت أنّ عبدي
فلانا مرض؟ فلو عُدتَه لوجدتني عنده".. فيا لها من عطايا من كريم يجبر كسر المريض
ومَن زاره!
جلسَت قُبالتي وقالت: قبل أن أسألك عن صحتك دعيني أقول الدعاء كما ورد "أسأل الله
العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك".. ردّدتها سبعاً وحين فرغت من الدعاء سألتني كيف
هو الألم.. رددت عليها: قد غاب! وتيقّنت أنني لا بد معافاة من هذا المرض فالحبيب
عليه الصلاة والسلام قد صدق!
وبقَدَر تعبي من الزوّار إلا أنني كنت مفعمة بالسعادة سابحة في محيطاتها.. أن قد
حباني الله جل وعلا بكل هذه القلوب المُحِبّة.. وحين يجنّ التعب أغمض جفني وأنام..
لأفيق على نبرات ودودة وأصوات رقيقة من جديد.. بتّ أعرفها جيداً وأحفظها عن ظهر
قلب!
ومَن لم يستطع الزيارة فلم يبخل بالاتصال.. من كل بقعة من الأرض قلوب تتفقّد وتسأل
وتطمئن.. يا لهذا الكون ما أوسعه بما حوى! وكم دمعت العيون وفاضت الجفون محبة
وحنينا.. حتى إذا ما مررتُ على موقعٍ فيه أمل للأمّة.. أو عنوان بريدي.. أو شبكة
اجتماعية تعرفت من خلالها على أُناس يستحقون الأخوّة ركنتُ ودعوتُ لهم مخلِصة أن
يجمعنا الله جل وعلا في الفردوس الأعلى كما جمعنا في دنيانا هذه..
ويبقى لبعض الناس نكهةٌ خاصة.. أصواتهم كالماء البارد على الظمأ.. يواسون ويدعون
ويعدّون الأيام سنينا.. حتى أعود..
ومن
أجلهم سأعود!.. بإذنه..