رام الله دعيني أحبك أكثر
زياد جيوسي
عضو لجنة العلاقات
الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب
رام الله.. دعيني أحبك أكثر، في الخامسة صباحاً وما أن أطللت من نافذتي إلا وصدمت عيناي بمرور مجموعة من دوريات الاحتلال، فتعوذت بالله من رؤيتهم وهم يدنسون المدينة في هذا الصباح المبكر، ومع هذا لم تتمكن دورياتهم من منع هديل الحمائم وزقزقة العصافير مع أولى تباشير الفجر، ولم تمنع الندى من أن يحط على نافذتي وشوارع المدينة ليطهرها من دنسهم، وفي السادسة صباحاً خرجت من صومعتي لأجول في طرقات رام الله ودروبها، فمنذ مساء السبت الماضي وبعد عودتي من اجتماع دعت إليه بلدية رام الله مساءً، في لقاء أطلق عليه عنوان "عصف ذهني"، وأنا لم أخرج للشارع في الصباح المبكر، فلم التقي الياسمين ولم أحتضن الشمس في شروقها، فقد انتابني عارض مزعج من الأنفلونزا المتعبة، فبقيت طريح الفراش يشدني الشوق لشوارع مدينتي، لياسمينها وصنوبرها وطيب هوائها، وها أنا أتجاوز الألم وأخرج في الصباح المبكر أمارس عشقي الذي لا يفارقني تجاه هذه المدينة الجميلة، التي تلهب خيالي وتثيره بصور من العشق والجمال، ولم يتوقف أصدقائي عن تقديم الوصفات المختلفة لمقاومة الأنفلونزا، ولعل أطرف وصفة هي ما أرسلها صديقي الشاب الشاعر أسعد المصري فأرسل يقول لي: "زياد.. عليكَ يا صديقي بالهيام، ارتشف طيفك مع كلمات الغرام، قبل و بعد الطعام، نصف دقيقة وربما أقل لتصبح على أحسن ما يرام، هي وصفة مجربة الله وكيلك ليس أي كلام ولك مني أطيب الأماني والسلام.."، فأبتسم وأقول له: وأين مني طيفي وبيني وبينه الحدود وحراب الجند والأسلاك الشائكة يا صديقي..
في الاجتماع الذي دعت إليه البلدية كان هناك نوع من ممارسة العشق لرام الله، فالبلدية ستحتفل في العام القادم بذكرى مرور مائة عام على تأسيسها، ودعت عدد يناهز الخمسين شخصاً للحوار والمناقشة في مقترحات البلدية المقدمة كاقتراحات لبرامج الاحتفال الذي سيكون احتفالاً بالمدينة نفسها، والمؤسف أن عدد الحضور كان بما فيهم ستة أو سبعة من أعضاء البلدية والعاملين فيها، لم يتجاوز العشرين شخصاً، في غياب شبه كامل لكثير من الشخصيات التي تتغنى برام الله في المقابلات المتلفزة، وللمراكز الثقافية باستثناء مركز للفن ونادٍ رياضي واجتماعي، ومن ضمن المدعوين كان هناك ستة اعتذروا عن الحضور لسبب أو آخر، ومن يسجل اعتذراً وكأنه حضر، مقارنة بمن لم يعتذروا ولم يحضروا، فأين رام الله التي تتغنون بها أيها السادة حين تناديكم؟
في جلسة "العصف الذهني" التي دعت إليها البلدية، قدمت البلدية تصورات عن كم من الأهداف والمشاريع، ولعل أهمها مركز وطني للمعارض ومتحف للعلوم، حدائق عامة ومكتبة جديدة وإعادة تأهيل المسرح البلدي، ومتحف للتراث وترميم المواقع الأثرية وإحياء البلدة القديمة، إضافة لعدد كبير من مشاريع البنية التحتية والتطويرية والتي إذا أنجزت خلال السنوات القادمة، فهذا يعني أننا سنحظى برام الله أجمل وأرقى تجعلنا نحبها أكثر.
وفي المقابل جرى حوار على مدى ساعتين بين مجلس البلدية والحضور حول التصورات والاقتراحات، وكانت مبادرة جميلة من مجلس البلدية برئاسة الأخت جانيت الدعوة للحوار مع المواطن والاستماع منه، وقد سجلت تحفظي على مشروع لمبنى متعدد الطبقات ليكون موقفاً للسيارات في مركز المدينة، فما زلت أرى أن هذه المواقف يجب أن تبتعد عن مركز المدينة وأن يحال المركز إلى مناطق للمشاة فقط، ووجود مثل هذا المبنى سيعيق فكرة إغلاق وسط المدينة، ويدفع المواطن للتحرك للمركز بسيارته مما يساهم بزيادة الضغط وأزمة السير بدلاً من حلها، وأيضاً طالبت بما طالبت به سابقاً من حيث ضرورة الاهتمام بالملامح الجمالية للمدينة، فهناك ضرورة لإزالة الخازوق المعدني الذي يلتف حول دوار المنارة، وضرورة لإعادة الساعة لدوار الساعة، وزرع الأشجار ذات الأحجام المقزمة في وسط المدينة وشوارعها التي اجتاح العمران أشجارها، وضرورة اللقاء من خلال المحافظ مع الفصائل السياسية التي ما فتأت صبيتها على تشويه جدران المدينة وشوارعها بالملصقات والتخطيط بالدهان، بحيث تحولت جدران المدينة والمحلات والبنايات السكنية والتجارية، إلى لوحات مشوهة بلا معنى ولا جمال.
رام الله.. ما أجملك في هذا الصباح الندي الجميل، كم أشتاق إليك وأشعر بالأيام التي مرت وكأنها سنوات، فهذا دأب العشاق إن ابتعدوا عن محبوباتهم، وأنت يا رام الله أجمل الحبيبات وأكثر المعشوقات جمالاً وعذوبة، أخرج بعد احتساء فنجان قهوة, أقف في الشارع أملئ صدري بالهواء المنعش البكر، أهمس صباح الخير يا حبيبتي..صباح الخير يا رام الله..صباح الخير يا وطن.. أسير في الدروب فتهب علي روائح الياسمين المنوع الذي تشتهر به مدينتي, أتأمل العشرات من الزنابق بألوانها المنوعة تملأ الحدائق والممرات, رائحة النعناع تنعش الصدر, أجلس على حافة قصيرة فيفيض الجمال بعينيّ, أتأمل الحورية الباسقة قرب متنـزه رام الله باسماًً: رام الله..لن تجرؤ يدي على نقش اسمك على الحور العتيق, لن أجرح هذه الشجرة التي عرفتها طفلاً وعدت إليها رجلاً في خريف العمر, سأكتفي بنقش اسمكِ في جنبات النفس وآهات الروح.. آه يا رام الله.. إني أراك في خيالي وأحلامي الحبلى بك.. التقيك كموال شجي، وشجن دمعة تمازجت بفرح الرؤى، ورغم هذا افتقدك إلى حد الجنون، فاكتبي إلي بلغتي لنتمازج بحروف اللغة كقطرتي ندى، على ورقة ورد جوري في صباح ندي مبكر، دعينا نلتقي بأشواق مطلقة تنزعنا ولو للحظات، من عالم الوحدة الموحش البارد الذي يلف كلينا.
في الأمس فقط تمكنت من التحامل على نفسي وسرت قليلاً في شوارع المدينة، كانت هناك مسيرة تضامنية مع الأسرى في سجون الاحتلال، وشعرت من واجبي أن أشارك ولو بوقفة قصيرة مع أهالي وعائلات الأسرى، فمن ذاق مرارة السجون يدرك ما معنى التضامن مع الأسرى وعائلاتهم، وفي دوار المنارة وكالعادة في مناسبات رام الله كان التجمع الذي تلته مسيرة قصيرة، وكالعادة أيضاً جاءت تلك الثلة القليلة التي تمتهن الظهور في المسيرات والتجمعات بغض النظر عن أهدافها، فالتقطوا الصور وظهروا في الواجهة أمام الصحافة والإعلام، والقوا بكلماتهم وشعاراتهم، ولم يكلفوا أنفسهم السير في المسيرة حتى لا تتعب أقدامهم المتعبة كأرواحهم أصلاً، ثم غادروا خلسة بعد انفضاض الإعلام، وبقيت عائلات الأسرى وحيدة تحمل صور أسراها، لا يقف معهم إلا المواطنين الذين ينتمون للوطن، وليس لتلك اليافطات التي مل منها الشعب وكفر بها.
صباحك أجمل يا رام الله، صباحك أجمل يا وطن، أعود لصومعتي وطيفي لم يفارق تجوالي، أشرب الشاي بالمريمية الجبلية، أستمع وخيال طيفي لشدو فيروز:
"لا تسألوني ما اسمه حبيبي، أخشى عليكم ضوعة الطيوب، والله لو بحت بأي حرف تكدس الليلك في الدروب، ترونه في ضحكة السواقي، في رفة الفراشة اللعوب، في البحر في تنفس المراعي، وفي غناء كل عندليب، في أدمع الشتاء حين يبكي وفي عطاء الديمة السكوب، محاسن ما ضمها كتاب، ولا ادعتها ريشة الأديب"..