مركب الريح

    صباحكم أجمل

زياد جيوسي

[email protected]

عضو لجنة العلاقات الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب

 رام الله ترتدي حلة العيد ككل عام، فالازدحام أصبح سمة رئيسة في شوارعها، وككل عام فالأيام الأخيرة من رمضان تشهد حركة للمواطنين في الشوارع مساءً، فما بين متسوق لا يمكنه إلا أن يؤمن ملابس العيد لأطفاله، إلى ضجر يريد أن يقضي وقت في مراقبة الحركة والأسواق، وهذا العام أحسنت الجهات المسئولة صنعاً على غير العادة، فمنذ يومين أغلقت بداية شارع الإذاعة من طرف دوار المنارة إلى مسافة تزيد عن نصف كيلومتر، وأحالتها إلى موقع للبسطات والباعة المتنقلين والمشاة، فرحمونا من البسطات التي كانت تحتل الشوارع والأرصفة ولا تترك لنا مجالاً للسير.

 ومن طبيعتي أنني أكره أماكن الازدحام والاكتظاظ، ولذا من عادتي أن أسير في شوارع المدينة التي أحبها في الصباح الباكر أو المساء المتأخر، حيث تخف الحركة وتنعدم في كثير من الأماكن، فأجد الراحة في التجوال والسير، لكني في الليلتين الماضيتين وعلى غير عادتي قمت بالتجوال في شارع الإذاعة، فقد كنت أرافق ولدي الأصغر الذي فاجئني بزيارة منذ أيام، ليقضي معي بعض الأيام من رمضان إضافة لأيام العيد، ثم يسافر للالتحاق بجامعته، فكانت فرصة للتجوال معه حسب رغبته وليس حسب رغبتي، فأتاح لي ذلك أن أتجول بمواقع كنت أتجنبها عادة، وأرقب الازدحام وصراخ الأطفال حين يصرون على لعبة ما يريدونها، ويتمنع الأب أو الأم عن شراءها.

 أكثر ما لفت نظري لجوء الأطفال إلى شراء ألعاب على شاكلة البنادق، رغم أن العديد من الأطفال جرى قتلهم من قبل قوات الاحتلال بإطلاق النار عليهم، تحت دعوى أنهم يحملون البنادق ليتبين بعدها أنها ليست أكثر من ألعاب، وفي الوقت الذي يتوجه الأطفال الآخرون في العالم نحو أنماط وأشكال مختلفة من الألعاب، نجد أطفالنا يتجهون لألعاب البنادق وألعاب الجيش والمواطن، وهذه ظاهرة ليست بالسهلة وتدل على تشوه روح الطفولة لدى أطفالنا بسبب الاحتلال وتأثيراته، وانعكاسات الجو العام على نفوس الأطفال.

 هذه الأجواء في ليالي رام الله الناعمة والتي كانت دافئة نسبياً خلال الأيام الماضية، أعادت إلى ذاكرتي من جديد ذكريات الطفولة التي تحدثت عنها في الأربعاء الماضي، مضافاً لذلك وجود ولدي الذي تركته طفلا وأصبح رجلاً وأنا بعيد عنه، وأنا أمازحه أثناء سيرنا وأقول له: هل اشتري لك تلك اللعبة أم هذه.. فيضحك مسروراً من مداعبتي إياه، وهو يسير إلى جانبي بحجمه الضخم الذي أكاد أضيع بجانبه، فقد ورث عن والدي طول القامة وضخامة الجسم وصلابته.

 في المرة الماضية تحدثت منذ بدء اللحظة الأولى في الذاكرة حتى استقرار أسرتي المؤقت في حي الملفوف في جبل عمان، وحقيقة تلك الفترة تركت أثارها في ذاكرتي، فمن منظر سيل عمان والجمال الذي كان يحف به من بساتين وأشجار وجنائن، إلى شوارع عمان حين كنت أمر فيها ويدي بيد والدتي، حينها كان يتاح لي أن تشتري لي الوالدة أطال الله بعمرها، قطعة من "السمسمية" أو قطعة من حلوى "جوز الهند"، وبالذات في شارع الملك طلال، حيث كانت الحافلات التي تتجه جنوب عمان تنتظر الركاب هناك، ومن هناك كنت أذهب ووالدتي إلى مخيم الوحدات لزيارة بيت جدي رحمه الله، وما زالت صورة تلك الحافلات في ذاكرتي بلونها الأصفر وأسلوب تشغيلها اليدوي، والأهم الذي بقي عالقاً في ذهني هو القطعة المعدنية بجوار السائق والتي كانت على شكل ربطة العنق، والتي كان يستخدمها السائق لإعطاء إشارة انه سيتجه يساراً، بدلا من وجود إشارة كهربائية كما هو الحال لاحقاً، حين أصبح استخدام "الغمازات" الكهربائية لإعطاء إشارة الاتجاه، ولا اعرف ما الذي كان يلفت نظري وأظل أنتظر اللحظة التي يرفع فيها السائق هذه الإشارة وينـزلها، هي بأية حال قضايا طفولية لا تفسير لها وتبقى عالقة في الذاكرة بدون تفسير واضح لها.

 كنت اشعر بالرحلة من شارع الملك طلال إلى المخيم طويلة بحكم السن، وكنت استمتع بالنظر إلى منطقة المهاجرين وسيل عمان ومصدار عيشه، وبعد ذلك كانت المباني والبيوت تختفي حتى وصولنا المخيم، فالمباني قليلة ومتناثرة، ومعظم الأراضي كانت أرض زراعية تزرع بالقمح أو القثائيات، وكان منظر مقر شرطة البادية يلفت نظري دوماً وخاصة الطاقات الصغيرة المنتشرة في المبنى، إضافة للبوابة الكبيرة ومنظر الحرس على البوابة بلباسهم المتميز والذي لم يتغير حتى الآن.

 ولم تطل الفترة حتى انتقلنا بالسكن من شارع الملفوف، إلى بيت صغير خلف قيادة شرطة البادية تقريباً، بالقرب من مدرسة عبد الرحمن بن عوف، فقد انتقل والدي إلى مدينة أخرى، ورغبت الوالدة أن نبقى في عمان قريباً من بيت أهلها، واسم الحي الذي سكناه كان يطلق عليه اسم هو حي "الشعيلية" ولا اعرف من أين أتاه هذا الاسم، فلا علاقة له بالشعلة إن كان الاسم مشتق منها، ولا تسكنه عشائر تحمل هذا الاسم كما سميت بعض الأحياء والشوارع في عمان على اسم من سكنوها، مثل الشابسوغ والقبرطاي والمصاروة والمعانية والطفايلة والنجادوة والمحاسرة وغيرها كثير، وكان هذا الحي صغيراً ويضم أناس مختلفين في المنبت والأصل، وعملياً كان يقع على حافة الصحراء الجنوبية وبدء العمران باتجاه عمان وعلى مقربة من المخيم، والميزة الوحيدة فيه القرب من بيت جدي، مما يتيح لي زيارتهم واللعب بالحارة بشكل أكثر كثافة وحرية، وما عدا ذلك فلم يرتبط في ذهني ذلك الحي إلا بأحداث قليلة، ففي اليوم الأول الذي سكنا فيه عضني كلب الجيران قبل أن ندخل البيت، وجرى نقلي إلى مستشفى الهلال ونلت نصيبي من الإبر الطبية، وفي مرحلة لاحقة احتاجت والدتي أن تأخذني إلى مستشفى حكومي حيث كان خال لي يعمل فيه، ولم يكن لدي حذاء ألبسه، فاستعرنا حذاء من ابن الجيران لألبسه في قدمي طوال المشوار، وطبعاً طوال الطريق كانت الوالدة توصيني أن لا يرتطم الحذاء بالحجارة، فعرفت مرارة الفقر الذي يدفع الإنسان لاستعارة حذاء ليلبسه بدل "القبقاب" الخشبي"، وأجمل ما أذكر المدرسة التي كانت تقع مقابل البيت فكنت أتمنى اللحظة التي أكبر فيها لأدخل المدرسة، وكنت كل صباح أنظر إلى أولاد المدرسة وهم يرتدون لباسهم ذو اللون "الكاكي" المشابه للباس الجيش ويحلقون شعورهم على "الصفر"، ويصطفون في الطوابير كل صباح وهم ينشدون نشيد العلم، حتى أني تمكنت من حفظه وأنا أقف غير بعيد عنهم، "يا علمي يا علم، يا نسيج الأمهات في الليالي الحالكات، لبنيهن الأباة"، وينشدون لمليك البلاد "دمت يا شبل الحسين قائد الجيش الأبي، وارثاً للنهضتين دمت جيش يعربِ"، وكالعادة لم يطل بنا المقام في هذا الحي المسمى الشعيلية، فانتقلنا إلى أطراف جبل الاشرفية في الحي المقابل لقيادة شرطة البادية، وفي هذا الحي كانت بداية الوعي في الذاكرة وذكريات لعبت دورها في مسيرة حياتي، قد يكون لها في لقاء قادم بعض من التذكر.

 أعود من جولتي الصباحية التي تأخرت اليوم عن باقي الأيام، فقد كنت أشعر ببعض الضيق النفسي، وتكتمل المسألة بتعطل خط الانترنت مما عزلني عن المتابعة لبريدي، ونشر صباحي في وقته المحدد، ولم يخفف من ضيقي إلا شعوري باحاطة طيفي لي، وسهرة مسائية في كافتيريا صغيرة وجميلة، قريبة مني في شارع يافا وأشعر فيها بالجو العائلي الهادئ واللطيف، حيث صاحب المحل وزوجته يمتلكون لطفاً هائلاً في التعامل، حيث جلست مع ابني وابنتي جلسة لطيفة امتدت إلى منتصف الليل تقريباً، لأعود بنفسية مرتاحة مؤجلاً نشر صباحي المعتاد كل أربعاء إلى صبيحة الخميس، وذلك لأول مرة منذ بدأت كتابة هذه السلسة من صباحكم أجمل، أستحضر طيفي الجميل الرقيق كعود نعناع، نستمع سوياً إلى فيروز تشدو:

يا مركب الريح خلي البحر وانزل عِبر، من طول فرقه دمعي فوق خدي عَبر، حبيت والدهر علمني بحبه عِبر، شرع شراع السفر عا الهجر قلبه نوى، عهد الهوى يا خلق ما عاد منه نوى، نحنا قضينا العمر صد وحنين ونوى، ولما التقينا لقينا العمر ولى وعَبر.

صباحكم أجمل..