خَمسوني
مصطفى حمزة
-1-
من أروع الأحاسيس التي تعتريك وأنت في الخمسينات من عُمُرك ؛ إحساسُكَ بأنّك - عمّا قريب - راحلٌ ..راحلٌ عن دنيا الناس ، إلى آخرة ربّ الناس ، راحلٌ عن القتل و الإجرام ، وأولاد الحرام ، واللؤم والظلم ، والكُفر والقهر وكَيد الليل والنهار ، عن النِفاق والمَكر ، والكدّ والجهد ، عن اغتيال الجمال ، وذبح الحقيقة ، وتعكير الأنسام ، وتسميم الورود ..إلى صُحبة الأخيار ، والحبّ الخالص ، والودّ الطاهر ، إلى الرَّوْحِ والرَّيْحان والعدل والأمان ، والورد والعسل ، والخُضرة والأنهار ، والصحة والشباب ، إلى حيثُ لا عينٌ رأت ، ولا أذنٌ سمعت ولا خطر ببال بشر .. إلى رؤية وجهه – سبحانه - ذي الجلال والإكرام .
فما أحلى الرجوع إليكَ ... يا ألله !
-2-
أعترفُ - مُسَلّمًا أمري إلى الله – بأنّهُ قد بدأ التنافرُ بيني وبينَ ذهني ! وبدأ الخصامُ يقوى ويشتدّ بيننا ، يومًا بعدَ يوم !
وأعترفُ أنني أحشِدُ لهُ جنودًا تؤازرني لترويضه من وجداني الذي يزداد تنوّعًا ، ومن عاطفتي التي تشفّ أكثرَ كلّ يوم ، ومن قلبي الذي ينشطُ نبضُه كل لحظة .. كما أراهُ يُجنّد ضدّنا ذاكرتي الخائنة التي انحازت له وخذلتني وبعضَ أعضائي التي رشاها بالراحة والكسل ؛ فبدأت تلين لرشوته ، وتميل إليه !
خمسين وتزيد صحبني هذا الذهنُ ، كانَ لي فيها نورًا ومنارة ، كم أرشدني في أثنائها إلى الشاطئ الآمن وكم دلّني على الخيار الصائب ، وكم حبّبني إلى الله وإلى خلقه !
اليومَ ملّني ، بعدَ أن أتعبتُه ، ويُفكّر في هجراني بعد أن أثقلته ، ليرتاحَ من هذا المٌعذّبِ بِهِ !
وأنا راضٍ ، لكنني أخشى أن يتمّ الفراقُ الأخير بيني وبينَهُ ؛ ولمّا أصِلْ إلى صديقي ورفيقي الجديد الذي ينتظرني هناك حيثُ لا أدري ، ولكنّه في مكانٍ ما .. في التراب !
-3-
كم أتمنى العودة إلى ( طفولتي ) أتدرون لماذا ؟ لأنها طفولة الفقر اللذيذ ، وما الفقر اللذيذ ؟ هو الفقر الذي يجعلك تتلذذ بالخبز الطازج ، والزيتون البلدي ، والزعتر الذي كانت تصنعه أمي في البيت ، هو الفقر الذي يأخذك إلى الفرح منتهاه حين تلبس بنطالاً جديداً ، أو قميصاً ليس من ( البالة ) . هو متعة التلذذ بمعانقة الفاكهة كل شهر أو أكثر ! هو روعة اللقاء باللحم المشوي في المناسبات المالية السعيدة .. وما كان أقلّها ! هو الفقرُ الذي يجعلك دائماً مع الله .. في الرجاء ، والدعاء ، والشكر ..
أمّا ما بعدَ الطفولة الفقيرة ؛ فنِفاقٌ وبَطَرٌ ، وهمٌّ وكَدَرٌ .. ونِعَمٌ بلا طعْمٍ ولا رائحة !! .. والحديث ذو شجون