أشواق من جبال سانوبا

د. عمر عبد العزيز العاني

[email protected]

كتبت هذه الذكريات في جبال سانوبا

واحدة من ساحات المعارك الدامية في الحرب العراقية الإيرانية

وكنت واحدًا من جنود الخدمة الإلزامية آنذاك

1 / 4 / 1986 م

فرغنا توًّا من غدائنا ، ذهبت أقارن بين وجبة اليوم والغذاء الذي أكلناه في البستان ، وكان الندى الذي يرشّه الناعور على وجهينا يبعث فينا الأُنس والبهجة ،

ها أنا ذا أصحو من أحلامي الجميلة وخيالاتي السارحة

ها أنا ذا أراني مكبّلا بقيود الغربة والبعاد

السماء تمطر بالماء والنار معًا .. ما زالت المدفعية أحلامًا مزعجة .. مرعبة .. تقلق نومنا وطعامنا وصلاتنا

لا أبالغ إذا قلت إن الرياح قلعت بعض سقوف الملاجيء حتى طارت الصفائح السقفية بعيدًا ... في جوّ السماء

أية حياة نعيش هنا .. تصاحبنا مع الموت – يا عزيزتي –

ها هو ذا يأكل معنا .. ينام معنا .. يصلي معنا

نحن هنا .. على مرتفعات سانوبا .. يعيش على سفوحها قوم مجهولون في عالم المعرفة .. نكرة في لغات العالم .. خرافة في عصر العلم ...

ها هي الذئاب تنادت على جثة بشرية مظلومة لتجد منها عشاءً شهيًّا

لهفي على ذلك الجندي النحيف .. لم يعد يستطيع حمل معطفه الذي أثقلته مياه الأمطار ..

ما زلت أتذكره ينظرني بعطف

نحن – يا عزيزتي – الوجوم البلغاء .. نحن الكروان الذي نتفوا ريش جناحيه .. فليس له بعد اليوم أن يطير ... إنه يسمعكم أغانيَه عن الخيل والليل

آه .. لو تعلمين اشتياقي لنيران المدافيء

آه .. لم تعد الشعوب تذكرنا كما تذكر مسارح هوليود .. وملاعب لوس أنجلوس .. وملاهي شارع النضال .. وسهرات هلتون وشيراتون

لم تتبرّع لنا بثمن حلاقة ماري انطوانيت .. ومساجات الأجسام المترهّلة .. وكوكتيل المشروبات على كورنيش الأعظمية .. والمقهى العائم تحت جسر الشهداء

مللنا الخضرة والماء والوجه الحسن ، هكذا قرأت العبارة ( التهكمية ) التي عثرت عليها في سفح من سفوح جبال سانوبا ، وأنا أتخطّى بين الألغام أحمل آلامي على آمالك يا عضدي

آه .. لقد لوثتها أقدام الجنود وهم يدبكون على الأرض – بكل حنق – وقد علِقَت قلوبهم بيوم الإجازة ...

اذكريني في مآسي القلب ... اكتبي اسمي في معجم الآلام والآمال

ها نحن أولئك نعيش حفاة في تلك الرمضاء .. فما بكت علينا السماء .. ولكنا كنا منظَرين

نحن هنا عصافير في أعشاشها وقد أرعبها ليل آذاري عاصف

تذكرت من أبكانا حين تضحك أضواء باريس وسائحات موناكو

تذكرت المهجات التي تمشي على الأرض ... ثم قلت : كم بيننا وبين قطط البيت الأبيض ، وكلاب قصر الشيليزيه ، وحمائم برج إيفل

ها هم أولئك يرقصون على الجراح .. ويشربون الشمبانيا على الحرائق اللاهبة

وبقينا – نحن – نأكل الخبز مغموسًا بالدم وتراب الأرض

سلام عليك أيها القمر .. تلمّست ذات مساء مظلم أشدّ الظلمة .. نسيت .. كنت أظن أني سألمس يديك ، فإذا بي أوافي كتاب الوصايا .. تذكرت الدرس الذي قرأناه معًا ..

قرأت منه صفحة .. ثم ترقرقت الجفون بماء الشؤون والشجون

تذكرت كيف كنت تضعين ثيابي في الحقيبة استعدادًا للرحيل ... الرحيل إلى أرض المعركة ... حيث مرتفعات سانوبا .. الفرقة 16 .. قوات ذي الفقار

يا ذكريات الخيل والليل .. يا أيام الود .. احملي سلامي وأشواقي

لكتابة الأشواق تكملة حين يجلب لي جندي الحانوت أوراقًا