حنين مهاجر
مصطفى أحمد البيطار
يا ربوع صباي ، ومراتع طفولتي ، ولآلئ أحلامي ، وآمالي وآلامي . لقد هزني الشوق والتحنان إلى الماضي البعيد ؛ أتدرون ماذا حلَّ بي ؟ بعد أن رزأني الدهر بغربة دامت ربع قرن . عَدَا عليها مرُّ الليالي وكر السنين ، وتحقق منها ما كنت أصبو إليه ، والبعض تاه في شعاب الجبال ، ومسارب الأودية والسهول والتلال ، وما تَبَقَّى ما زال له أثر في ساحة الخيال ، أذكره في بعض الأحايين بالغدو والآصال . ما أجمل الذكرى ! وأي ذكرى أعز على النفس من بلد حبيب نأى عنه أبناؤه من دون إرادة وقصد .
فرجعت أَسِيرُ متَّئِدًا في وجل ؛ خشية أن أطأ على رفات ذكرياتي . أسأل عن أصحابي وأحبابي في طفولتي وشبابي ، وإذا الكثير منهم
قد عصف بهم البلى ، والبقية الباقية انتثروا كنجوم السماء في كل مكان يراهم الرائي أهل صدق وصبر ، كَلَّلَ نور الإيمان جباههم ، وبَرْد اليقين بقضاء الله أثلج صدورهم ، فيا من بقي من أهلي وخلاني وأصحاب صباي . هل فقدتم ذكريات الماضي ، وشغلكم يومكم عن أمسكم ؟
هل نسيتم كؤوس الحب المترعة([1]) بالأنس والوفاء . كم تعللنا في رشفها معًا على مهل حتى الثُّمالة([2]) ؟ أنسيتم أفياء الظلال على أكتاف التلال ، كم افترشناها وقت الغداء كما يفترش سكان البادية رمال الصحراء ، وكُلٌّ منا معه زاد يسير ، وفي حنايا فؤاده أحلام عِذَاب ، بها بلا جناحين يطير .
أنسيتم شجر الزيتون المبارك كيف يزهو خضرة ونضارة وقد شيبته صروف الدهر ، لا يُرَى إلا لابسًا ثيابه لا ينزعها عنه ولا تبلى عليه ، فلا يضحك بالزهر إن أقبل الربيع ، ولا يبكي بالشتاء إن عصفت به الرياح ؛ فهو ثابت على حاله لا تبدله السنون والأعوام .
أنسيتم أحضان الروابي المُوَشَّاة([3]) بأزهى الألوان كعروس ليلة عرسها تحف بها الغيد الحسان .
أنسيتم قهقهة الجداول الراكضة نحو شعاع الشمس ، كم تناجينا على أكتاف السواقي ننتظر قرص الشمس عند الأصيل في الأفق الفسيح ، إنها لأجمل صورة رُسِمَت على حاشية السماء . موشاة بما رقَّ من ألوان الطيف .
يا أسفي على تلك الأيام . وأنتم يا أهل ودي ؛ أنا لم أستوح ذكريات غرام مضى ، ولا أخبار حبيب قد هجر ، ولكن حوادث حفرها الماضي في ثنايا أضلعي وأعماق فؤادي .
أنا ما نسيت إن نسيتم ، وفي كفي الأماني مشرقات باسمات في روضة الحب الطاهر . كيف أنساكم وفي زوايا أحشائي يتلظى الشوق لرؤياكم ؟ أنا في الغربة متجلد وإن غارت أنجمي في أبحر الليل البهيم([4]) . لا بد - ولو بعد حين - أن ينجلي الأفق ، وتصفو السماء وتزول الغيوم .
أنا في التنائي والبعد متصبر كالطود الشامخ ؛ لا يعبأ بالأعاصير والرياح مهما اشتدت وعصفت . أنا ما زلت بربي واثقًا ، وبحبل عقيدتي متمسِّكًا ، وبسُنَنِ الكون معتبرًا ، وإن وشى الواشون ، وأرجف المرجفون .
لا بد للحق أن يعلو وللباطل المنتفش أن يضمحل
{ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ في الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ } .
([1]) المملوءة
([2]) السُّكْر .
([3]) المنقوشة