نَهيل نسمات كرمية
زياد جيوسي
عضو لجنة العلاقات
الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب
هل يمكن للحنين أن يتوقف؟ كيف يمكن للشوق أن لا يشدني إلى أماسي شمال ضفتنا ونسماتها التشرينية؟ سؤالان جالا في خاطري وأنا أجول شوارع رام الله ودروبها في نهاية أسبوع عمل، قطفت بعضاً من ياسمينات متعربشة على الحيطان، تفيأت ظلال شجرتي المفضلة التي أسميتها بركة، فقررت التوجه للتمتع بالنسمات الكرمية، وكالعادة في التجوال حملت بعض الكتب، وآلة التصوير، وقليلاً من الملابس، وبعض الاحتياجات التي لا بد منها لغياب عدة أيام. ودّعت رام الله بحب ووعد بلقاء قريب.
اتجهت بي الحافلة شمالاً. كان الخميس منتصف تشرين. كنت ألصق وجهي بالنافذة أهمس لكل شجرة، ولكل صخرة: أعشقك يا وطني.. تخدش عينيّ مشاهد المستوطنات التي تعتلي قمم تلالنا المسلوبة، والمستوطنون الواقفون خلف الدشم الإسمنتية، وجنود الاحتلال في أبراجهم ومواقعهم المحصنة، والحواجز والدوريات العسكرية، فأهمس لروحي: لا بد أن يشرق الصباح الأجمل.
تضمني أماسي طولكرم بحب، فأتنشق عبقها رغماً عن أدخنة مجمعات القمامة في مدخليها، ورغماً عن سموم مصنع الكيماويات الإسرائيلي الذي زرعه الاحتلال بجوار الجدار. أجول الشوارع الكرمية مستذكراً أماسي ناعمة دافئة، وتاريخ مدينة طولكرم ودورها المميز في الجوانب الثقافية والأدبية، والشعراء والكتاب الذين أنجبتهم هذه المدينة الجميلة. أتأمل بعضاً من المباني التي ما زالت تحمل عبق التاريخ وحكايات الأجداد. أمر بجوار جامعة فلسطين التقنية (خضوري)، فأتذكر زيارتي لها في السنة الماضية وروعة اللقاء مع إدارتها وطلابها. أصل إلى بيت (وسيم) أخي الأكبر، فنقضي السهرة بالدفء الأسري، وأحدثهم عن شعوري بالألم من تقصير البلدية بإهمال التشجير والشوارع التي تمتلئ بالحفر والأتربة، فتحيل شوارع المدينة إلى لوحة شاحبة أكل عليها الدهر وشرب، حيث تحولت إلى بقايا صور وبعض من الذاكرة، فأسمع منهم ومن غيرهم من الأصدقاء في الأمسيات التالية الكثير من الشكاوى والقهر، فهلا التفتت وزارة الحكم المحلي لشكاوى المواطنين واستمعت منهم وراقبت الوضع عن قرب؟ سؤال يلح في الذاكرة من عاشق للوطن يحلم أن يراه دوماً أجمل.
الجمعة قضيته في لقاء أصدقاء، في المساء كنت ألتقي أحبة من طلاب خضوري، ضمنا مقهى جميل مرتفع يطل على المدينة من الأعلى، فأتاح لي فرصة التأمل في أحياء المدينة من خلال نظرة أكثر شمولاً. من نهار السبت قضيت قسماً منه في مدينة نابلس مدعواً إلى الغداء في بيت صديقي الشاعر محمد حلمي الريشة وأسرته الجميلة، وأطايب الطعام من تحت يديّ الأخت أم باسل والكنافة النابلسية الأصيلة الشهية المصنعة في البيت، لأعود في المساء إلى طولكرم وأنا أرقب غروب الشمس وأقرأ بعضاً من أشعار الريشة.
الأحد وفي العاشرة والنصف صباحاً كنت ألتقي جامعة فلسطين التقنية (خضوري)، لقاء شوق ومحبة، فأجول جنباتها مع طلبة يعشقون جامعتهم ومدينتهم، البعض منهم تخرج وما زال انتماؤه للجامعة كبيراً، أحتسي القهوة مع الأساتذة عامر ياسين وماهر قمحاوي، ومن ثم يرافقونني إلى قاعة محاضرات حيث رُتب لي لقاءً سريعاً مع الطلبة تجاوز الساعة، تحدثنا فيها عن الإبداع الأدبي والفني وتجربتي الطويلة في عالم الكتابة وآلة التصوير، وقد فاجأني تلفاز السلام المحلي باهتمامه بتغطية اللقاء وإجراء مقابلة معي، فشكراً لهم الاهتمام بمحافظتهم ومتابعة أخبارها، كما غطت الزيارة مشكورة وكالة معاً ببث خبر الزيارة واللقاء مع الطلبة ورئيس الجامعة.
بعد اللقاء مع الطلبة وجولة في رحاب الجامعة، كنت على موعد لقاء مع الأستاذ د.داود الزعتري رئيس الجامعة، وهو أول من حمل هذه الصفة في تاريخها، وحقيقة فوجئت بشخصيته الدمثة وروح الشباب التي تتملك روحه، فأكد لي اللقاء ما كنت قد سمعته عنه من الطلبة ومن أصدقاء من أهل المدينة، حدثوني عنه حين علموا أن لي زيارة للجامعة. كان لقاءً رائعاً ضم إضافة إلى رئيس الجامعة، د. سائد ملاّك نائب رئيس الجامعة للشؤون الأكاديمية، ود. حلمي سالم مدير مراكز البحث، والأستاذ رشيد الراميني مدير العلاقات العامة، والطلبة شادي ورامي أبو شمعة وعبد الرحمن صباح، المشرفين على منتدى خضوري الإلكتروني مع زملاء لهم.
تحدث رئيس الجامعة عن أحلامه بتطوير أول جامعة حكومية، فأشار إلى جهود زملائه وتعاونهم في تحقيق الحلم، حلم جامعة تحمل إرثاً طويلاً منذ كانت الجامعة معهداً زراعياً متقدماً يحمل اسم (خضوري)، وأصبحت الآن جامعة تحمل اسم (جامعة فلسطين التقنية)، كما أشار إلى المشكلات التي تعانيها الجامعة خصوصاً أن الكل فيها يحلم بالعودة إلى وحدة أراضي الجامعة، فالجامعة وكما حدثني وكما تحدث الأستاذ رشيد الراميني تعاني من استلاب أراضيها، فهناك 200 دونم استولى عليها الاحتلال في سنة النكبة، وخمسون دونماً مصادرة لما عرف بمقر الارتباط العسكري، وسلطة الطاقة تستولي على مساحات أخرى وتحيلها إلى مستودعات، ووزارة الزراعة استولت على قسم من الأراضي، وجامعة النجاح أخذت قسماً كبيراً من أرض الجامعة بما فيها القسم الذي يحمل حجر الأساس، إضافة إلى مدرسة الصناعة، ومعاناة طلبة الجامعة كما أهالي المدينة من سموم مصنع الكيماويات الإسرائيلي، فهل سنجد آذاناً صاغية تعيد الحق للجامعة كي يمكنها التوسع والنمو وخدمة الوطن؟ وهل نجد اهتماماً أكبر بالجامعة كما فعلت جمعية أصدقاء خضوري الخيرية التي ساهمت ببناء مبنى سكن للطالبات، وساهمت بتشطيبات الطابق الثالث لمبنى الهندسة وغير ذلك من النشاطات الداعمة؟
انتهي اللقاء مع إدارة الجامعة ورئيسها بدون أن نشعر بالوقت، قدمت من خلاله لمكتبة الجامعة هدية، عبارة عن نسخة من كتابي فضاءات قزح، ونسخة من الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر محمد حلمي الريشة أرسلها معي هدية للجامعة، واعداً مكتبة الجامعة بتزويدها بكل ما يقدمه أصدقائي الكتاب والشعراء والمبدعين، وقبل لحظات الوداع خاطبني رئيس الجامعة بقوله: إن الجامعة تفتح أبوابها وقاعة مسرحها أمام الكتاب والأدباء والشعراء والفرق الفنية والمسرحية، لتساهم الجامعة بإعادة طولكرم بؤرة ثقافية متميزة، وإدارة الجامعة ترحب بالجميع، وتولي الطلبة والمنتدى اهتمام خاص، فودعته بحرارة وروحي تحمل في ثناياها احتراماً خاصاً لإنسان يحمل في داخله انتماءً رائعاً، لأزور بعدها بلدة إرتاح ومقام بنات يعقوب، أجولها وألتقط الصور لها.
وها أنا في رام الله في هذا الصباح الجميل، عيناي ترنو للقدس التي تستباح ويستباح فيها أقصانا، أعود إلى محبوبة تسكن مني الروح ولم تفارقني، واقعاً وطيفاً جميلاً، أستعيد ذكرى أماسي كرمية، ودفء خضوري، ونابلس وجيوس بلدتي، أحتسي قهوة الصباح مع النغمات الفيروزية (يا كرم العلالي عنقودك لنا، يا حلو يا غالي شو بحبك أنا)، فأهمس لطيفي ووطني ومدينتي.. صباحكم أجمل.