ياله من حب أبدي
ياله من حب أبدي
يمان حكيم *
أما بعد فإني و ربي سحرني جمال الطبيعة الخلاّبة, و سرق سمعي زقزقة العصافير و تلاعب الأمواج..
سبحان من خلق الكون و أبدعه, فمهما كان في الإنسان من هم و غم فإنه مجرد أن يرى ما في الطبيعة من سحرٍ و جمال و يسافر في أرجائها البديعة, ينسى كل ما أصابه, بل إنه يعيش معها يطير مع العصافير مشاركاً إيّاهم فرحهم و لهوهم و رقصهم, مغرّداً و منشداً مع البلابل, سابحاَ مع السمك, متمايلاً مع الموج. و كيف لا يكون ذلك وسبحانه قد خلق الداء و خلق معه الدواء!...
ذلك الإنسان الذي يعيش طوال يومه مع الهموم و الأحزان, مع الكذب و الخداع, مع الرياء و حب الذات, لا بدّ لنفسه أن تتعب و ترهق لكل هذا لا بدّّ لها أن تطلب الراحة و الاستقرار تطلب الهدوء و الجمال و هذا لا يتحقق إلاّ بحالتين اثنتين:
- إما أن يكون ذلك الإنسان ذاكراً لربه يعيش معه في يقظته و في نومه يسعد لمجالسته و ترتاح نفسه لذلك.
- و إما أن يكون قد قسا قلبه, و فقد ذلك العنصر الغريب الذي يستحل القلب من الجمال, فيلجأ إلى الطبيعة و ما بها من إعجاز و سحر, فتقر عينه بما رأى, و يستريح قلبه لما وعى, لأنه يدرك في تلك اللحظة أن الإنسان مهما طغى و تكبر, و علا و تجبر يوجد من هو أقوى منه و أقدر منه على خلق الكون بأجمعه, و تسيره. إنه الإله سبحانه و تعالى جلّ مقداره و علا شأنه عن الخلق بأجمعه.
- أما بالنسبة لي فإنّي أعشق الطبيعة, أعشقها لدرجة الجنون, أحب كلّ ما فيها. أرى جمالها حتى في صخور متبعثرة هنا و هناك. أرى جمالها حتى في نملة تلتقط طعمها من الأرض ثم تحمله لتتابع مسيرها. أعشقها لأني أدرك تماماً أن ذلك الإنسان المتجبر المتكبر الذي لا يكفيه عتوه و لا غروره بنفسه لو نظر, بل لو وعى ما تفعله تلك النملة الصغيرة لوجدها أشدّ منه بأساً. يكفيها أنها تستطيع حمل أضعاف وزنها, و تتنقل به من مكان إلى آخر, أما ذلك النوع من البشر حتى على حمل عقله ....
أعشقها لأن كل ما فيها يحرك شيئاً ما في داخلي يجعلني أدرك أنني أضعف المخلوقات على وجه الأرض. و اليوم بالذات رأيت منظراً طبيعياً فائق الجمال والسحر. يدلّ على عظمة الخالق جلّ جلاله كان ذلك عند غروب شمس الأصيل. بينما كنا على ظهر مركب تتلاعب الأمواج به, و كأنها تراقصه بأعذب الألحان و قد أحاط بي الجمال من كل جانب, فعلى يميني كان القمر البدر في كبد السماء التي ما زالت حمرة الشمس تعطيها ذلك اللون الوردي الجميل, بينما كانت الغيوم تحيط بالجبال و كأنها عقد من اللؤلؤ الخالص البارع الصنعة, أما لباسها فكانت ترتدي زيّها السندسي الجميل و على رأسها توسطت زهور الياسمين, و كأنها تريد استقبال القمر بأبهى و أجمل حلّتها, و البسمة مرسومة على ثغرها, و كأني بها مدت يدها لتحضن ذلك القمر المتعب من رحلة طويلة, أنهكته و أتعبت قلبه, و كأني بها تواسيه و تقف إلى جانبه و تعينه على مصابه و عندما نترك الجبل مع خليله القمر لننتقل على الطرف الأيسر, إلى مشهد غروب الشمس و وداعها للدنيا, ذلك الكوكب العظيم اللاهب الذي طالما سبب الحرائق و الجفاف القاتل مع أنه على بعد ملايين الأميال نجده اليوم و هو يجمع أغراضه, و يحزم حقائبه مستعداً لتلك الرحلة الطويلة التي لا بدّ لكل مخلوق منها.
رغم أن لونها كان أرجوانياً داكناً إلا أن علامة البؤس و الحزن تبدو عليها واضحة المعالم, و هي رغم رغم كل هذا تبدو ثائرة غاضبة تشتعل غيظاً لأنها سترك هذا العالم مجبرة مكرهة, و كأني بها مدت أذرعها تريد وداع صديقاتها الغيوم اللاتي شحبن لبعدها عنهن و هي تغيب يختفي قسم منها خلف الجبل و القسم الآخر يبتلعه البحر الغدّار, لكن الشمس لم تسكت لذلك بل إنها قامت بصب جام غضبها عليه عندما أحرقته بطعمها و غيّرت لونه إلى حمرة الدم.
أما إذا نظرت إلى أعماق ذلك البحر فإنك تشعرين بشيء في داخلك يشبه الخوف و الرهبة, لأنك مهما حاولت الوصول إلى أعماقه فلن تستطيعي و كل ما تستطيعين رؤيته هو شيء تافه لا يأتي شيء من حقيقة البحر كذلك الإنسان فالإنسان مهما حاولت التعرف عليه يبقى هناك شيء الذي لا تعرفي حتى أنّه هو نفسه لا يعرفه.
و الآن آتيك إلى المشهد الأكثر جمالاً و الذي طالما حلمت به إنّه مشهد الليل في عرض البحر.
ذلك السواد المتواصل الذي لا يفصل بينه أيّ فاصل, ذلك السواد الذي يخشاه الناس و يهابونه و أحبه أنا و أستأنس به. يكفيني أنّي أجلس في الليل و أسمع إلى أنغامه, و أنظر إلى سماءه, ذلك السواد الذي يشبه ثوب فائق الجمال و الصنعة, ثوب قد رصّع بالألماس و هناك عند الصدر استقرت لؤلؤة كبيرة جلّ من خلقها.
أمّا عن تداعب الأمواج فهو يعطي لليل حركة, و للسكون جمال و للأعصاب راحة و استقرار, و للهدوء معنى فهو يدخل إلى القلب دون حاجز و كأنه بحركته هذا يسمح للبحر بمد يده بين الحين و الآخر ليمسح دمعة الرمال و يأخذها معه لكي لا تبكي مرةً أخرى و لكن دون أيّة جدوى فالرمال تبكي و يأتي البحر ليمسح لها تلك الدموع.
ذلك التجانس بين الطبيعة ذلك التّلازم , و ذلك الجمال, لا يدل إلاّ على شيء واحد لا بدّ لكل عاقل أن يعرفه, و لا بدّ لكل مدبر أن يدركه إنه يدل على وجود إله واحد لا رب غيره و هو على كل شيء قدير.
و رغم أن الرمال تكون شديدة الحرارة عندما تكون الشمس في كبد السماء, إلا أنّي لم أشعر بها ذلك اليوم عندما كنت أمشي على الشاطئ و كان الموج يداعب قدمي, نظرت على السماء فلم أستطع إطالة النظر و كانت الشمس أن تعميني فوجهت نظري على البحر حيث كانت الشمس تعكس أشعتها الذهبية عليه فتعطي الأمواج لوناً رائعاً, جعلتني أحاكي روحي و أناقشها في ذاك الجمال لمدة طويلة.
و لحسن الحظ أنّي شاهدت الغروب للمرة الثانية و لكنه كان مختلفاً هذه المرة لقد رأيت الشمس شاحبةً مريضة و قد وضعت خدها على فراشي, و اقترب كل أصدقائها لوداعها حزنت السماء, و دمعت الغيوم, و شحب السحاب و أنشدت الطيور لحناً حزيناً لوداع ذلك الونيس الذي يأنس به كل مخلوق على وجه الأرض, و كان آخر المودعين ذلك البحر الذي ضم الشمس إلى صدره علّه يعطيها شيئاً من الاطمئنان و ظلّ معانقاً إيّاها حتى اختفت تماماً.
ياله من حب أبدي بل يا له من إخلاص و إليك نموذج آخر عندما تنظرين إلى السماء لتري ذلك البدر و قد ظلّت نجمته بقربه لا تفارقه أبداً و كأنها لا تمل النظر إليه بل كأنه يعطيها ذلك البريق اللامع و كأنّي بهما حبيبان يتبادلان التحية و العناق و لا ينفك أحدهما عن حب الآخر لقد برهنت لي الطبيعة بكل مناظرها و كل مشاهدها برهنت لي بكل لغات الحب, أن الإنسان إذا أحب بصدق أخلص, و إذا أخلص صدق الوعد و إذا صدق الوعد كان الخليل و الأخ و الحبيب, و أننا مهما قابلنا في الدنيا من نازلات لا بدّ أن يكون هناك شخص يحبنا و يقف إلى جانبنا كما فعل القمر مع النجمة أو كما فعل البحر مع الشمس.
* أديبة من سورية