تصحيف وتوليف

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

روى الشربيني أن عالماً دخل إحدى قرى الريف في مصر فتوجه إلى المسجد ليصلي صلاة الجمعة فذهل ذهولاً شديداً حين رأى أهل القرية يدخلون المسجد ، وكل واحد منهم معه قفة من خوص، وفيها مغرفة وخشبة وسكين من حديد وفأر ميت معلق في عنقه ، فتعجب من أمرهم وإذا الخطيب يجيء في نفس صورتهم فاقترب منه وسأله عن هذه الحال فقال: أنا الذي أمرت بها. فقال له: هذا الأمر باطل والصلاة باطلة فما الذي دفعك إلى ذلك.
قال: "حديث قرأته في كتاب عندي يسمى (التيه ) ولفظه حدثني بختي بن تحتي عن شعبان النوري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تصح جمعة أحدكم إلا ( بقفة ومغرفة وخشبة وسكينة وفأر) . فطلب منه الكتاب وإذا هو كتاب (التنبيه ) صحفه مدّعي الفقه بالتيه. وإذا الحديث لا تصح جمعة أحدكم إلا بعفة فصحفها بقفة، وسَكينة وصحفها بسِكِّينة، وخشية فصحفها بخشبة ومعرفة فصحفها بمغرفة ووقار فصحفها بفار. وأما سند الحديث فهو حدثني يحيى بن يحيى عن سفيان الثوري .

وتروى بطريقة أخرى  مؤداها أن طالب علم أنهى تعليمه في بغداد عاصمة العلم والسياسة وأم الدنيا في العصر العباسي، وأراد العودة إلى بلدته ، فقال له أستاذه : يا بني إنك تخالط الناس  وتحتاج لعلم السلوك . إلا أن هذا الشاب قال لأستاذه : قد وصفتني – يا أستاذي - مرات بالحصافة والذكاء ، ولعلي لا أحتاج لمثل هذا العلم في مخالطتي للناس.

وفي طريق عودته وافته إحدى الصلوات في قرية ، فدخل إلى مسجدها لأداء هذه الفريضة ، فتعجب إذ رأى المصلين يحمل كلٌ منهم قُفـّة فيها سكين وفأر، فخطب فيهم قائلاً : إنكم تنجسون المسجد بالفيران ، فما كان منهم إلا أن سخروا منه ونعتوه بالجهل وأفهموه أن شيخ مسجدهم  العالم العلاّمة – وكان عجوزاً سبهللاًً يكاد يفكّ الخط - علمهم حديثاً شريفاً مؤداه أن من دخل المسجد فليدخل ( بقفة  وسِكّينة  وفأر) . والمقصود ( عفـّة وسَكينة ووقار ) وصُحّف الحديث  تصحيفاً شديداً ، فقرأه شيخهم العامّيّ كما ذكره المصلون . فما كان من طالب العلم إلا أن سبّ شيخهم الجاهل ونبّههم إلى جهلهم ، فأوسعوه ضرباً وشتماً . وطردوه من مسجدهم شر طردة .

فعاد أدراجه إلى أستاذه لينال التربية الاجتماعية ( علم السلوك ) فلما سمح له أستاذه بالعودة تعمّد أن يمر على القرية ، فوجدهم كما تركهم على عادتهم تلك .

فما أن انتهت الصلاة حتى أثنى على إمامهم  الجاهل ، فوصفه بالعلم الغزير والعقل المستنير، والطهارة الروحانية ، ثم قال : ينبغي على كل مصلّ أن يتبرّك بهذا الشيخ الجليل ، وهجم عليه فاقتطع بعض شعرات لحيته يحتفظ بها في قلنسوته ، أو في بيته ، فما كان من الباقين إلا أن هجموا على إمامهم يفعلون ما فعله هذا الفتى ، فيكون بين يدي كل منهم أثر مبارك من شيخهم .

وطارت لحية الشيخ بين النتف والشد ، فمرض مرضاً شديداً ورقد في فراش الموت أياماً ، ثم أسلم الروح إلى بارئها .

طلب الناس من هذا الشاب أن يكون خير خلف لخير سلف !! ففعل راضياً ، واستطاع بعد سنين دؤوب أن ينزع من نفوس القوم تلك الجهالات السابقة وينتقل بهم إلى السبيل القويم والعلم النافع .

.......والعهدة على الراوي .